أزمة
الإصلاح في بلد محافظ
الأمير عبد الله والإصلاحيون
حمزة الحسن
لا تجتذب الدعوات الإصلاحية ـ كما يشهد التاريخ ـ إلاّ عدداً
قليلاً ممن يصنّفون ضمن دائرة صناعة القرار، فالأنظمة السياسية
غير الديمقراطية أثبتت أنها في الجملة معادية للتغيير، تخاف
البدء به، وتخشى من عواقبه، وترى أنها غير قادرة على التحكم في
مساراته وحجمه وحدوده، بحيث يمكن أن يبدأ صغيراً فينتهي كبيراً
مهدداً لأصحاب المقام العالي.
الأنظمة المحافظة، التقليدية، التي تعتمد شرعيتها على العرف أو
على التفويض الإلهي، كما هو نظام الحكم في المملكة، تعتبر من
الدول المصنّفة بأنها الأكثر عداءً للنزعة (الوطنية) أو
(القوميّة) لأنها في الأصل الأقل تهيؤاً لقبول التغيير
والإصلاح.. فالوطنية والقومية صنوان للتبدّل والتغيير في
المفاهيم الأساسية السياسية وفي الثقافة الوطنية، وفي الدور
السياسي للجمهور.
بيد أنه لا يُعدم وجود رجال إصلاحيين أو نصف إصلاحيين في ماكنة
السلطة وفي المراتب الثانية من بيروقراطية الدولة، ولكن ضمن
دائرة صنع القرار الضيّقة، ينقسم الطاقم الحاكم في الغالب الى
قسمين: قسم معادٍ في الأصل والتكوين لأي دعوة إصلاحية مهما كانت
قوتها ومهما كانت مطالبها سطحية أو ضئيلة، وهذا القسم يحوز
الأغلبية العظمى من المسؤولين؛ وقسم آخر يكون في العادة هو
الأضعف عدداً وعدّة قد يميل الى الإصلاح بغرض الحفاظ على الدولة
وإن تضمّن تنازلات مؤلمة، وهذا القسم وإن كان لا يرغب في انتقاص
صلاحياته، ولكنه يميل الى التحليل القائل بأن مواجهة التغيير ـ
وكما تحكي قصص الطغيان الحديث ـ قد تقصر من عمر النظام، وتزيله
الى الأبد؛ ولهذا يرى هذا القسم أن القبول بالإصلاح ـ ولو على
مضض ـ وتقاسم الكعكة، خير من خسرانها في المستقبل.
رؤية الجناح المعادي للإصلاح في الجهاز، هي رؤية ميكيافيلية، عبر
عنها ميكيافيللي في كتابه (الأمير) ضمن تصور الحدود لديمومة
السلطة قبل أن تبرز المبادئ الديمقراطية، وقد اختطّ نظريته ضمن
حدود الأنظمة الملكية المحافظة في اوروبا والتي قامت على التوسع
والإحتلال. يرى ميكيافيللي أن الحكم يستمر فترة أطول بالقمع
والديكتاتورية منه بالإصلاح والتغيير.. فهو هنا يرى الإصلاح نقيض
(الديمومة) ونقيض (البقاء)؛ لكنه بهذا يعترف ضمنياً، أن حكم
القمع ومواجهة الإصلاح، لا يستمر، وأن التغيير أمرٌ لا بدّ منه
في يوم من الأيام، وأنه سيكتسح النظم الملكية رغم ممانعتها
وطغيانها.
وكما تشير حوادث التاريخ الحديث في أكثر من بلد عربي وعالمثالثي،
فإن الملكيات تعاطت مع شؤون الإصلاح والتغيير (النسبي أو الكلي)
بطريقتين مختلفتين: المواجهة التي أدّت في النهاية الى سحقها في
أكثر من بلد عبر ثورات أو انقلابات كما في مصر والعراق واليمن
وليبيا. أو القبول بالإصلاح النسبي أو الكلي، وفي كلا الحالين
بقيت الملكيات سيّدة ورمزاً للدولة كما هو حاصل في البحرين او
الكويت والأردن والمغرب، بصلاحيات تقلّ او تكبر، وفي بعض الدول
بدون صلاحيات ذات أهمية كما في ماليزيا وتايلاند وغيرهما.
المملكة السعودية المهووسة بخصوصيتها المزعومة، يرى حكامها بأنهم
صنفٌ آخر من البشر، لا تجري عليهم سنن التحوّل، ولذا فهم لا
يهتمون بالتجارب التي من حولهم ولا يعتبرون بها، وهم يتصورون
أنفسهم بمنأى عن التغيير الذي هو سنّة من سنن الكون، والأكثر من
هذا فهم يعتقدون بأن شعبهم يختلف عن شعوب الأرض قاطبة، وأنه أصبح
بعد هذا العمر المديد من التربية (الملكية) مطواعاً مختلفاً بلا
طموحات ولا تطلعات ولا رغبات. ولذلك، فإن مقاومة التغيير في
المملكة أشدّ من غيرها في البلدان المجاورة، كونها تستند الى
منظومة أفكار (متوهمة في بعض الأحيان) تجعل الجالس على (العرش)
بعيداً عن الواقع. وحتى النُّذُر والشرر المتطايرة منذ سنوات،
والآخذة بالتصاعد على شكل عنف وانفلات أمني وعقد اجتماعية
واختناقات سياسية وتدهور اقتصادي وبروز الجريمة المسلحة والمنظمة
وغيرها، كل هذا يتم التعاطي معه بنفس العقلية القديمة التي تقول
بأن الله خلق قطيعاً للطاعة، وطبقة ملائكية للحكم، تستخدم العصا
بلا هوادة للدفاع عن الحق الإلهي، ومعاقبة (المفسدين في الأرض)!
السؤال: مالذي يجعل الأنظمة المحافظة تنساق أحياناً كثيرة الى
آخر الشوط في الممانعة التي تؤدي الى نهايتها؟ هل هو الوعي
الناقص، أم الغرور المتفاقم، أم الحسابات الخاطئة، أم ثقافة الحق
الإلهي، أم ماذا؟
ربما تكون كلّ هذه الأسباب، أو بعضها. لكن، وحسب التجارب التي
أمامنا، فإن الأنظمة المحظوظة هي تلك التي تستشعر المشكلة قبل
تفاقمها، إما لقربها من شعبها وجمهورها، وإما لتوافر قيادة واعية
بحركة التاريخ، فتبادر بسرعة الى الإلتفاف على الأوضاع وتبنّي
الإصلاحات، وتقدّم بعض الإمتيازات، وتركب الموجة وتقدّم بعض
الفاسدين الى المحاكم، وتخلق شعوراً شعبياً جديداً مضادّاً لما
هو سائد عنها.
عكس هذا تجده، في قيادة المملكة اليوم، فهي قيادة (سم طال عمرك)
لا تستشعر بفائدة الرأي الآخر، ولا تقبل بالناصح، ولا (تبرعات!)
المساعدة من ذوي الخبرة والرأي. إنها قيادة معمّرة، أكثرهم
شباباً هو نايف الذي يبلغ من العمر 77 عاماً! إنها قيادة فقدت
تواصلها مع جمهورها، اللهم إلا من يأتي من طلاب الحاجة، وأصحاب
العرائض، وشعراء النبط. ولذلك فالفجوة (الثقافية والسياسية
والنفسية) بين الجمهور والقيادة كبيرة للغاية وهي تؤشر الى خطر
محدق مستقبلي، خاصة وأن ثلاثة أرباع شعب المملكة هم دون الثلاثين
من العمر. ولذا فإن ما يجري في الشارع السعودي، إما لم يقرأ
جيداً، وإما لم يسمع حتى الآن.
والأنظمة المحافظة المحظوظة، هي تلك التي تتبلور فيها القوى
الإصلاحية داخل مؤسسة النظام وخارجه، بحيث يمكن التقاؤهما على
أرضية واحدة، تمكن صانع القرار ـ الإصلاحي ـ من التغلّب على
عناصر المعارضة الكثيرة فتفرض رأيها الإصلاحي وتنقذ البلاد من
الإرتكاس في دوامة عنف لا تبقي ولا تذر. بعض التحولات التاريخية
التي مرت بها الدول، من أوروبا وحتى اليابان، وجد فيها هذان
العنصران، بحيث رفد الإصلاحيون ـ بزخم الشارع ـ نواة الإصلاح
التي تتمثل في أفراد من الحكم المحافظ ليقوموا بعملية التغيير
والتحوّل السلمي، عدّت كإنقلابات بيضاء، وفّرت الكثير من الدماء،
والكثير من القلاقل، وتقدمت نحو بوابة الإصلاح بخطى ثابتة.
هناك الآن تياران داخل العائلة المالكة السعودية: التيار الأضعف
يمثّله الأمير عبد الله ولي العهد، وهو تيار يمكن وصفه بأنه ـ
نصف إصلاحي ـ والتيار الآخر الأقوى ويمثله السديريون (سلمان
ونايف وسلطان) وهو تيار معادٍ للتغيير بشدّة، ولا يرى الإصلاح
الى بداية النهاية لحكم العائلة المالكة، ويعتقد بأن الدعوات
الإصلاحية ما ظهرت إلا بسبب تراخي الأمن، ولذا لا بدّ من معالجة
الموضوع عبر العصا الأمنيّة واستخدامها بتوسّع وقسوة.
أمام هذين التيارين، يطرح تساؤل حقيقي وجوهري: لماذا يخوض ولي
العهد معركته (نصف الإصلاحية) وحيداً، في حين أن الجميع يدرك
بأنه غير قادر ـ ضمن معادلات القوى داخل العائلة المالكة ـ على
إحداث تغيير حقيقي في جهاز الدولة ومسيرة الحكم؟
هل يرى بعض الإصلاحيين أن الأمير عبد الله لا يختلف عن البقية
وأنه ضد الإصلاح في قرارة نفسه وأنه لا يعدو يستخدم ورقة الإصلاح
في الصراع الداخلي بين أجنحة الحكم؟
هل الأمير لا يرغب في أن يُدعم من قوى وفعاليات من خارج الأسرة
الحاكمة مراعاة للحساسيات العائلية وضمن فلسفة عدم إقحام العامّة
في الشأن السياسي الخاص بالأسرة لما له من انعكاسات سلبية بسبب
اختراق المألوف العائلي؟
هل الأمير لا يرغب في الدعم العلني ويقبل به بصور أخرى؟
ومن جهتهم، هل الإصلاحيون لا يريدون دعم الأمير، أم لا يعرفون
كيف يدعمونه، بسبب انعدام الرؤية وتشابك الألوان، أو لأنهم يرون
الأمراء نسيجاً واحداً يصعب اختراقه، أم لقناعتهم بأن الدعم
الشعبي لا يُرحب به، وقد يُساء فهمه؟
هل الإصلاحيون تنقصهم المهارة السياسية في التعامل مع هكذا وضع
معقّد شعبياً ورسمياً؟ أم أن قنوات التواصل مقطوعة بينهم وبين
ولي العهد؟ أم هناك عجز في بلورة تجمّع أو قيادة إصلاحية تقود
العمل الوطني، وتستطيع أن تحشد الدعم المطلوب شعبياً؟
الأسئلة كثيرة، والإفتراضات أكثر من ذلك؛ لكن ما يهمّ هنا، هو إن
المملكة أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما أن تنزلق البلاد لمزيد من العنف في حال استمرّ الوضع على ما
هو عليه، من رفض للإصلاح في حدوده الدنيا. وهذا الخيار مؤلم،
للسلطة والمجتمع معاً، وإن كان من المتوقع أن تكون خسارة العائلة
المالكة أكبر بكثير.
وإما تقوية الجناح الإصلاحي في العائلة المالكة ـ إن وجد ـ
والقبول بإصلاح متدرج ومحسوب لا يجوع معه الذئب ولا تفنى الغنم.
وهذا الخيار، قد تحسمه عوامل كثيرة ولكن يأتي في مقدمتها، مدى
تلاحم القوى الإصلاحية داخل وخارج السلطة.
|