حين
تعجز الدولة عن إصلاح ذاتها
الهروب الجماعي الى السياسة
فؤاد ابراهيم
المطلب الشعبي، الممانعة السياسية، المتغيرات الداخلية
والخارجية عناصر ثلاثة كانت تشترك على الدوام في صناعة الحركات
الاجتماعية الجديدة التي يكون مبرر ولادتها هو الخروج عن خط سير
الدولة، والعمل على خلاف تصوير السلطة لذاتها. فهذه الحركات
تناضل للدفاع عن ذاتها ضد هيمنة الدولة، ولذلك فأفرادها يزجّون
بكل قواهم من أجل حفر قناة موازية لقناة السلطة بغرض مرور تطلعات
لم يكن بإمكان القناة الرسمية إستيعابها أو القبول بمجرد وجودها.
ريثما تفقد الدولة المرونة الكافية من أجل تكييف نفسها للواقع
الجديد، تصبح الحركات الاجتماعية الجديدة جاهزة للانتقال الى
عرينها الطبيعي، المجتمع لتسحب جزءا من بساط الشرعية عن الدولة،
معززة مواقع المواجهة مع السلطة السياسية، وتأهيل أكبر قدر من
السكان للانخراط في الفعل الاحتجاجي الأهلي.
المسعى المتواصل من قبل الدولة من أجل تهميش، إحتواء، أو حتى
إخماد الحركات الاجتماعية كان يتم على الدوام كبديل عن تبني خيار
الاصلاح السياسي، وقد نجحت الدولة في إصطناع عدد مفرط من الآليات
التي تحول دون الخضوع لخيار يفضي، حسب عقيدة أهل الحكم، الى
إنحلال السلطة وانفراط عقدها.
فشل الدولة في الاستماع الواعي لصوت الضمير الجمعي، من شأنه
تحميل المستقبل أعباء الحاضر، ولكنه بالتأكيد لا يقضي على
الفورانات الكامنة في باطن المجتمع، فكل فشل يصاحبه نشوء ظاهرة
تمرد، سلمية تارة، وصامتة تارة ثانية، وعنيفة تارة ثالثة، بحسب
طبيعة الظاهرة الاجتماعية وظروف نشأتها والعوامل الضالعة في
تشكيلها. فليست النتائج تخضع للحسم التام حين يكون الأمر متعلقاً
بالاستحقاق السياسي المؤسس على حركة واعية في المجتمع، وأن مجرد
ضمور الحراك الاجتماعي لفترة من الوقت لا يعني موتاً سياسياً
للقوة القابعة خلفه، فهذه تظل تخضع لحسابات ميزان القوى غير
الثابت، والظروف الداخلية المتغيرة، السياسية والاقتصادية
والثقافية.
فقد جرى إخماد ثورة الاخوان الأوائل في معركة السبلة عام 1928،
وجرى إلحاق فلولهم ضمن جهاز الردع الديني المصمم لإستكمال آليات
ضبط وإستقرار الدولة الناشئة، وقد ظلت العلاقة المختلّة بين
الديني والسياسي تزوّد السلطة بكل مبررات خوض المعارك ضد خصوم
داخلين وخارجيين، فبالسلاح الديني تمكنت السلطة السياسية
الدنيوية إحاطة نفسها بهالة دينية تحصّنت بداخلها أمام إنهمار
الاسئلة حول جمود وشمولية النموذج السياسي السائد، فالقرآن
الكريم بات يشهر في وجوه المطالبين بوضع دستور للدولة، وسياسة
الباب المفتوح تقدّم بوصفها تطبيقاً لمبدأ الشورى والتناصح، وأن
الديمقراطية تفسّر باعتبارها بضاعة فاسدة لا يجوز إستيرادها الى
ديار الاسلام. ولكن هل سكبت السلطة الماء على جذوة الاخوان
للأبد؟.
وهناك صورة أخرى، فقد جرى ضرب القوى الوطنية واليسارية في
الستينيات، وتم التنكيل بأفرادها سجناً وتشريداً وقتلاً، وأخيراً
احتواءً وجاء عقد السبعينيات ليدشّن (الحقبة السعودية) إيذاناً
بإعلان انكسار الموج الناصري، وانحسار المد القومي لصالح الخطاب
الاسلاموي السعودي، وبدأت مرحلة مصالحة ومقايضة بين عناصر في
القوى الوطنية واليسارية مع السلطة سمحت بإنخراط عدد منهم في
أجهزتها، ولكن هل إستطاعت السلطة إطالة أمد المصالحة، والمقايضة
وشهر العسل السياسي بينها وبين غريمها الوطني الليبرالي؟.
وهناك صورة ثالثة، فمع إنفجار الظاهرة الاسلامية في نهاية
السبعينيات في ضوء متغيرين عظيمين: الثورة الاسلامية في ايران
والاحتلال السوفيتي في أفغانستان عام 1979، حاولت السلطة إحتواء
أو تحييد تأثيرات الحدث الايراني، وبخاصة بعد انتفاضة المنطقة
الشرقية عام 1400 وولادة أول حركة سياسية شيعية على قاعدة دينية،
فبدأت بتحسين نسبي للظروف المعيشية في المدن الشيعية بالمنطقة
الشرقية، وحين فشلت في إخماد الحركة الاجتماعية الشيعية لجأت
لاستعمال سياسة قمعية دامت قرابة عقد ونصف، فسقط عدد من الضحايا
داخل المعتقلات وخارجها، وتعرض عدة مئات للإعتقال، والطرد من
الاعمال، والمنع من السفر، وحرم السكان الشيعة من حقوقهم
السياسية والدينية والاقتصادية، وحين فشلت السياسة القمعية في
تحقيق أغراض السلطة، كان خيار المصالحة راجحاً في تسوية مشكلة لم
يكن سوى التفاوض سبيلاً واعياً للتعاطي معها. وبقي السؤال هل نجح
خيار المصالحة في إقفال الملف الشيعي؟ عريضة (شركاء الوطن) تقدّم
إجابة دامغة على عقد من مصالحة مزعومة لم تكشف ــ كما تخبر
العريضة بوضوح شديد ـ سوى عن هشاشة الخيار التصالحي وهزليته،
فالمطالب الواردة في العريضة هي ذات المطالب التي رفعها وجهاء
الشيعة في العهود السابقة، بدءا من الحقوق الدينية، ومروراً
بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وأخيراً الحقوق السياسية. فالحظر
المفروض على دخول الكتاب الديني وطباعته، وبناء المسجد وترميمه،
وممارسة الطقس المذهبي أضف الى ذلك التمييز الطائفي في التوظيف،
والخدمات العامة الصحية والتعليمية، واخيراً المجال السياسي هي
مفردات تقليدية في عرائض الشيعة السابقين واللاحقين. فالحركة
الشيعية ذات الإمتداد الشعبي، حملت القضية المذهبية وبدأت تطرح
ملف التمييز الطائفي، وتطالب بالتغيير الشامل أي بإزالة النظام
السياسي، فهي حركة شعبية، شاملة، جذرية. فهل نجحت المصالحة في
دمج الشيعة سياسياً وتنقية الاجواء لجهة بناء علاقة وطيدة مع
السلطة؟
في سياق الحدث الأفغاني، انطلقت أول حركة عصيان مسلحة من المجتمع
الديني السلفي بقيادة جهيمان العتيبي باحتلال الحرم في مطلع عام
1400هجرية، إيذاناً بظهور مصلح القرن..حركة كانت محثوثة بذات
المبررات الايديولوجية لحركة الاخوان الأوائل في الربع الأول من
القرن العشرين. فالأدبيات الداخلية التي تركها قائد الحركة،
جهيمان العتيبي، تنزع عن الدولة السعودية الصفة الدينية وتضعها
في مصاف الدول الخارجة على القانون الديني، والمتواطئة مع أهل
الشرك والالحاد. لقد خيّل لكثيرين بأن جذور الحركة قد جرى
إجتثاثها وتقطيع أوصالها بما لا يمنحها فرصة البقاء على قيد
الحياة، ولكن هذه الحركة نقلت رسالة بالغة الوضوح لجيل سينقل
رسالة احتجاجه بذات المضامين للدولة في فصل آخر من المواجهة في
عام 1991. ورغم النجاح الذي حققته الدولة في تصفية قادة انتفاضة
الحرم، فإن الافكار التي حملوها ظلت تغذي نزوعات الاحتجاج الديني
ضد السلطة القائمة..أفكار تسللت الى نسيج الخطاب الاحتجاجي
السلفي عام 1991، وأصبحت جزءا جوهرياً من (مذكرة النصيحة) التي
وقّعها رموز التيار السلفي، قبل انقسامه ضمن أنساق عمل وتفكير
متفاوتة معتدلة ووسطية ومتطرفة.
تنظيم قوافل الكتائب الجهادية المنطلقة من قلب الجزيرة العربية
لجهة الانخراط في مشروع التحرير الافغاني، على أمل إفراغ شحن
التوتر الداخلية خارج الحدود، كان خياراً سلطوياً فاعلاً الا أن
الحاصل النهائي لم يكن مريحاً البته. فهذه الكتائب ظلت محتفظة
بذاكرة محلية نشطة، تماماً كما أن القادة الدينيين الذين
إستعملتهم السلطة للحشد الجماهيري وتحقيق أكبر اصطفاف ممكن
أعادوا انتاج واستعمال خطاب جهيمان العتيبي في مقارعة فساد
واستبداد وانحراف السلطة. المناورة المتقنة التي هندّستها
القيادة السياسية في إحتواء التيار السلفي الناشط سياسياً ورغم
التشققات الحاصلة في بنية التيار لم تفلح في إحباط مفعول العناصر
المشعة في هذا التيار، فثمة نذر مرسلة لمستقبل شديد الاضطراب كان
ينتظر حاضر لم تقدّم المناورة السياسية حلاً شاملاً وجوهرياً له.
نشير هنا الى دور الدولة في الدفع نحو تنشئة تيار سلفي متنافر مع
الاتجاه الثوري الديني الايراني، كمسعى لدرء تداعيات هذا الاتجاه
على الساحة المحلية، فنشأ هذا التيار برعاية ودعم وتمويل
الدولة، ولكن ما لبث أن تطلع نحو دور سياسي وبخاصة بعد انخراط
أجزاء منه في التجربة الافغانية، التي أضافت بعداً جديداً في
الوعي الديني السلفي وهو البعد الجهادي.
فقد حاولت الدولة تجيير البعد الجهادي لدى التيار السلفي ضد
السوفييت وحصر فعاليته خارج الحدود، كما سعت الى إقحام التيار في
مواجهة شاملة ومفتوحة ضد خصم أيديولوجي، وجنّدت لذلك حتى
المؤسسات الدينية بما في ذلك رابطة العالم الاسلامي فضلاً عن
إطلاق التيار في الداخل للانتشار واستعمال التشيع كخطر ايديولوجي
وسياسي من أجل الانشغال به عن الدولة. ولكن هل تم فعلاً إخراج
التيار السلفي من حلبة السياسة المحلية؟ ما جرى في عقد
التسعينيات يقدّم إثباتاً صريحاً على أن مخزوناً إحتجاجياً تراكم
لسنوات طويلة قد جرى إستعماله في أكبر وأخطر مناجزة أيديولوجية
وسياسية مع الدولة.
مما سبق يظهر بوضوح أن الحركات الاجتماعية الناشطة ظلت طيلة
تاريخ الدولة السعودية الحديثة حاضرة في الميدان السياسي، وفي
قطيعة شبه تامة مع السلطة، التي راهنت على اضمحلال التأثير
السياسي والاجتماعي لهذه الحركات، التي لم تكف عن تأكيد وجودها،
وقناعاتها ومطالبها. فقد أعادت الحركات الاجتماعية في عقد
التسعينيات تشكيل نفسها في جماعات ضغط سياسية عبّرت عن نفسها في
عرائض مطلبية جاءت طبقاً لتحدراتها الايديولوجية ورؤيتها العميقة
في الاصلاح السياسي. فالقوى الليبرالية والوطنية والدينية إتفقت
على مبدأ الاصلاح الجذري والشامل كمخرج صحيح لأزمة الدولة.
فالاجندة الاصلاحية التي قدّمتها الدولة لم تلقَ سوى إستجابة
فاترة وفي الغالب سلبية، وعززت الدولة بذلك مبررات القطيعة
والتنافر مع التيار الاصلاحي العام، فالمبادرة المنتظرة منذ أمد
بعيد في التغيير جاءت دون الحد الأدنى من تطلعات القطاع العريض
من السكان المحليين. فلا النظام الأساسي رغم المضامين المتواضعة
التي حواها بما يتصل بحقوق المواطنين والحريات العامة، أخذ حيز
التنفيذ الصحيح، بإستثناء ما يكفل قوامية السلطة وهميمنتها، فيما
بقيا مجلسا الشورى والمناطق مؤسستين مغلقتين ومقطوعتي الصلة عن
الشأن العام، فضلاً عن التهميش الواضح في وظائف ودور المجلسين
بخصوص القضايا الوطنية الكبرى.
لقد تنبّهت الحكومة الى أن مبادرتها كانت أسفل سقف التطلع الشعبي
بمسافة بعيدة، وأن مشروعها في الاصلاح لم يقدّم إجابة مقنّعة
لكافة الحركات الاجتماعية التي كانت تأمل المشاركة في إسعاف
الدولة نحو إعادة ترميم البنى المتهدمة في العلاقة بين السلطة
والمجتمع، الا أن سيراً مختلاً لأكثر من عقد من الزمن كان كفيلاً
بأن يعيد بعث النشاط المطلبي في شكله المتقدم. فقد جدّدت القوى
السياسية والاجتماعية عهدها بمطلب الاصلاح مؤكدة مرة ثانية على
حضورها السياسي والاجتماعي، بل نجحت هذه المرة في بلورة آليات
تسمح بمشاركة قطاع واسع من السكان، وظهر ما يشبه التحالف السياسي
بين قوى وطنية ودينية وليبرالية تجتمع على مشتركات في مشروع
الاصلاح. هي ذات القوى السياسية والاجتماعية التي بزغت في فترات
متفاوتة، وهي ذات الأجندة الاصلاحية، وربما ذات الرموز الناشئة
في ظل تجارب حزبية وتنظيمية سابقة، فالطيف السياسي والديني العام
يشارك في عملية مرافعة وطنية من أجل إبلاغ رسالة جماعية واضحة
لأهل الحكم.
وليس جزافاً القول بأن العقدين الأخيرين شهدا أكبر حضور مجتمعي
في ميدان السياسة، فلم يعد هذا الميدان مقفلاً أو محتكراً من قبل
النخبة الحاكمة أو فئات مقطوعة السبيل إجتماعياً، بل إن السكان
أخذوا ينجذبون الى ساحة الفعل السياسي عبر كافة الطرق المتاحة
والمصطنعة. كما أن الجميع ينظرون الى الدولة بوصفها مركز الشقاء،
وتفسير ذلك أن الدولة باتت جهازاً مغلقاً على فئة محدودة، ظلت
تستعمل الدولة كأداة إنجاز مصالح خاصة، فهيمنة الدولة على المجال
العام، وإمساكها المحكم بمصادر الثروة والقوة قاطبة فرض عليها
أعباءً كان يمكن التخلص منها في وقت سابق، أي في مرحلة كانت
الدولة في ظروف مستقرة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً الى حد ما،
ولكن اليوم فإن هذه الأعباء تحوّلت الى مأزق للدولة، ولهذا
السبب فإن السكان يرون في الجهاز الاداري للدولة مصدر المشكلة،
وأن عربة الحل لن تمر الا عن طريق إصلاح هذا الجهاز. فالناس
يبحثون عن وسائل لتكسير إحتكارية الدولة من خلال الحضور الفاعل
في ميدان المواجهة مع الدولة نفسها.
وقد كان عقد التسعينيات بمفاجاءاته الدموية في تفجيري العليا
والخبر ثم سلسلة الاحداث المتوالية، وكان أشدها وطئاً وخطورة حرب
الخليج التي جففت منابع الثروة ومدخرات الدولة، الى حد إفلاسها
بالكامل وهذا أسقط من يدها سلاحاً كانت تحارب به الظواهر
المضادة.
كان عقد التسعينيات بمثابة جرس إنذار مدوّي، للتنبيه على أن
إنتقالاً طارئاً وعاجلاً وصحيحاً في عملية صناعة القرار في بداية
الألفية الجديدة يجب أن يتم، رغبة في إحتواء تطورات غير محسوبة،
وفي حقيقة الأمر كارثية.
في التسعينيات وما بعدها سقطت هيبة الدولة بحيث لم تعد العائلة
المالكة تحتفظ بتلك المكانة وسط الفئات المقربة
كما أن القدرة السياسية التي ظلت لفترات طويلة محمية إقتصادياً
وخارجياً عبر تحالف مع الولايات المتحدة، تضاءلت الى حد كبير،
فلم يعد هناك نجاة حقيقية من مأزق الانزلاق في فوضى شاملة وحرب
أهلية باردة وساخنة الا من خلال اطلاق مبادرة إصلاحية شاملة
وعاجلة، قادرة على إقناع ألوان الطيف السياسي والاجتماعي على
الاندياث فيها وحملها.
فالعلاجات الجزئية غير مجدية لأن المشاكل ذات بعد وطني، فمنهج
التسويات على طريق البيع المفرّق، مع هذه المنطقة، أو مع هذه
القبيلة والطائفة والفئة كانت تصلح في فترة وجود وفرة مالية، وفي
ظل إستقرار اقتصادي وأمني مقبول نسبياً، أما الآن فهذا النهج ليس
له مفعول دوائي ناجع بل قد يكون محرّضاً لدى جماعات اخرى على
التحرك المضاد. تماماً وبنفس القدر فإن الإنقسام الذي خلقته
الدولة داخل التركيبة السكانية ذات الطبيعة المتنوعة يفرض عليها
اذا ما أرادت، في ظل أوضاع اقتصادية وسياسية وأمنية متدهورة،
البحث عن حلول شاملة وعامة لاعادة تنسيج السكان ضمن وحدة وطنية
مؤسسة على ضمانات جدّية وفاعلة، والتوازن الدقيق والعادل بين
الحقوق والواجبات.
|