مخاطر على الداخل والخارج

جغرافية العنف السعودي

 محمد الهويمل

 إندياح نشاطات جماعات التشدد الى خارج مسقط رأسها يمثل فصلاً آخر في قصة القلق التي بدأتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي تشكل عنصراً شديد الاضطراب في شبكة علاقات الحكومة السعودية مع العالم.

 تمسرحات العنف محلياً ودولياً تمثل قضية ضاغطة وتبعث قلقاً جدياً لدى أطراف داخلية وخارجية، فانشطار العنف على مساحة واسعة وتفجّره في مواقع عديدة لا يكف عن تهديد الاستقرار ليس في الداخل فحسب، بل في مناطق توتر عديدة تمثل الجماعات السلفية المتشددة فيها عنصراً شديد الانفجار. أندونيسيا، الفلبين، افغانستان، الشيشان، كوسوفو، الصومال، تنزانيا، كينيا وأخيراً العراق بين دول أخرى عديدة تدخل ضمن خارطة فعاليات جماعات العنف السعودي. جغرافية العنف تتطلب إقتراباً صحيحاً من الصورة العامة لواقع ترسمه حوادث العنف شبه اليومية في الداخل وهكذا النشاطات المحمومة التي تضطلع بها جماعات سلفية متشددة لم تنفك عن تأكيد محل نشأتها والحاضنة الأولى التي ضمتها، فقد تكاثرت عناصر العنف الى درجة أفقد الحكومة القدرة على محاصرة الأضرار الناجمة عن هذا التكاثر المنفلت من عقاله، فهو الآن يمسرح نفسه على نطاق واسع، فحضور هذه الجماعات المتوالدة من باطن مؤسسة ظلت تتغذى الى حد التخمة على مائدة الدولة ينذر بتفجر ظواهر لاواعية مرشحة لتقويض منظومات اجتماعية وثقافية عميقة الجذور.

 العنف محلياً

 المواجهة المفتوحة بين الميليشيا السلفية وقوات الأمن السعودي أصبحت واقعاً فرض نفسه بسطوة على الاعلام المحلي، فعمليات الكشف عن مخابىء سلاح، ومواجهات مسلحة، وسقوط ضحايا من الطرفين، وحوادث الاغتيال والتفجير باتت أنباءً مألوفةً. بيد أن ما لم تقم الروايات الرسمية بالكشف عنه هو أن المواجهة تتم في مناطق إنتشار وترعرع شبكة تنظيم القاعدة، وهي في ذات الوقت مناطق تعتبر تقليدياً موالية للعائلة المالكة، رغم التبعثر الجغرافي لهذه الجماعات بداخل المملكة. فنحن هنا أمام حليفين لدودين يلتحمان في معارك مصيرية، يسعى فيها الطرف المتضرر الى إنهاك خصمه دون القضاء المبرم عليه (لضرورات التحالف الاستراتيجي) ودون تمكينه من نيل مناه، فحليف الأمس لا يقبل الآن بغير دولة دينية على على غرار تلك الدولة التي خسرها في أفغانستان.

المواجهة المسلحة بين الميليشيا السلفية والحكومة تتم الآن في الهواء الطلق، وفي مركز السلطة نفسها ويشهد حضورها جمع غفير من الناس من فئات عمرية مختلفة، تماماً كالضحايا الذين يتساقطون في حوادث التفجير.

ففي الثاني عشر من أغسطس الماضي شنّت قوات الأمن غارة على فيلا في حي السويدي السكني في منطقة شمال الرياض، وقتلت ـ حسب الرواية الرسمية ـ مسلحاً ينتمي لتنظيم القاعدة واعتقلت سبعة آخرين. تقارير أخرى مخالفة أشارت الى أن ثلاثة الى أربعة من قوات الأمن قتلوا في الغارة خلال تبادل اطلاق النار بين الطرفين.

هذا الحادث يأتي ضمن سلسلة حوادث أخرى شهدتها البلاد خلال ثلاثة شهور ونصف عقب تفجيرات الرياض في الثاني عشر من مايو الماضي، تراوحت بين مواجهات مسلحة بين قوات الأمن السعودية ومجموعات من المطلوبين في قضايا لها علاقة بالأعمال الإرهابية في مكة المكرمة والمدينة المنورة والجوف وحائل والرياض ودارت رحى بعضها داخل أحياء سكنية في المدن سقط ضحيتها عدد من رجال الأمن، ومداهمات مباغتة لمخابىء أسلحة وعناصر تنتمي للجماعات الارهابية تتخللها في الغالب مواجهات مسلحة وقتلى.

قرار الحكومة الدخول في الحرب على الارهاب تلبية للشروط الأميركية كان لا شك خطيراً، فقد دخلت قوات الأمن في مواجهات على مستوى واسع ضد الجماعات الميليشائية السلفية، والتي يشبته بكونها على علاقة عضوية بتنظيم القاعدة. وكانت قوات الأمن إعتقلت المئات خلال غارات عديدة لمخابئ مشتبه بها في الرياض، وبريدة وحائل ومكة المكرمة والمدينة المنورة وعسير.

يلمح الانتشار الجغرافي للجماعات السلفية العنفية الى الكفاءة التنظيمية، والتخطيط الاستراتيجي لدى هذه الجماعات داخل المملكة. فثمة تركيز كثيف على اعتقال عناصر تنتمي الى تيار ايديولوجي وملاحقة خلايا تنتمي الى شبكة تنظيمية متعالقة، تحمل في جوفها تطلعاً نحو إقامة الدولة الدينية السلفية.

فقد بدا واضحاً أن من الاهداف المركزية لتنظيم القاعدة الاطاحة السياسية بالنظام السعودي، حيث ترى هذه الشبكة بأنه وحدها المؤهلة شرعاً للحكم. فالجماعات المشتبة بكونها جزءا من شبكة تنظيم القاعدة كثّفت عملياتها العسكرية داخل السعودية كما تخبر عن ذلك الكميات الكبيرة من الاسلحة التي تم إعلان الكشف عن بعضها، والتجهيزات المستعملة للإعداد لعمليات عسكرية متقنة ضد مراكز حيوية في داخل البلد.

وبالرغم من التنويعة الجغرافية لعمليات تنظيم القاعدة، حيث شهدت مناطق الشرقية والغربية عدة حوادث تفجير واغتيال في وقت سابق، الا أن الغالبية العظمى من المقاتلين والهجمات هي في المركز التقليدي للسلطة، أي الرياض والقصيم.

إستهداف الرياض بلا ريب يحمل رسالة سياسية شديدة الحساسية لأسباب عديدة. فليس لكون الرياض عاصمة الدولة فحسب، ولكنها تمثل رمز السلطة السعودية وهي في ذات الوقت تمثل مصدر القوة السياسية والمالية للعائلة المالكة، كما أنها تعكس المثال البارز لجهود التنمية والتحديث. بالنسبة لتنظيم القاعدة، فإن توجيه ضربات عسكرية للرياض يعني دك صميم الدولة والعائلة المالكة معاً. ودلالة ذلك أيضاً أن السلطة السعودية باتت هشّة بقدر يسمح للنيل منها في معقلها، كما تدلل العمليات على أن العائلة المالكة في إدراك المقاتلين بأنها فاسدة وعاجزة عن حماية حريمها الخاص فضلاً عن خارج هذا الحريم وهي المساحة الكبرى من البلد.

 ورغم الزيارات المتكررة التي يقوم بها عدد من أمراء العائلة المالكة، وبخاصة الأمير نايف ورجال وزارة الداخلية من أجل تأكيد ولاء منطقة القصيم للسلطة السعودية الا أن هذه الزيارات فشلت حتى الآن في القضاء على نشاطات الجماعات الارهابية. فأفراد هذه الجماعات قرروا قطع الصلة مع نظام التحالف التقليدي بين القصيم والعائلة المالكة، وقد أعادوا تشكيل أنفسهم في هيئة جماعة أيديولوجية تمثل المجال الحيوي الذي منه ينطلقون نحو تقويض منظومة التحالفات التقليدية لجهة بناء النموذج الديني الخاص بهم. ولذلك فإن هذه الجماعات حررت نفسها من قيود المنظومة التقليدية، ممثلة في المنطقة، والقبيلة، ونظام التحالف الديني والسياسي، ومنظومة القيم والاملاءات الناشئة عنها، وأنجزت وضع لبنة منظومة جديدة منذ لحظة التشكل في جماعة ايديولوجية تحاول أفقياً التمدد في المجتمع وعمودياً بضرب رأس السلطة وإملاء الطموح الخاص باعتلاء سدة الحكم.

خارطة طريق هذه الجماعات باتت معروفة، فقيادات هذه الجماعات المتشددة تنتمي تقليدياً الى نجد، فيما يشكل الجنوب المخزن البشري الذي يزوّد هذه الجماعات بالعناصر الانتحارية، فيما تستعمل الحدود الجنوبية بدرجة أساسية كمنفذ عبور السلاح والامداد اللوجستي، فيما تتولى المناطق الغربية دور المستودع.

الإعلان المتكرر لوزارة الداخلية عن إستخدام هذه الجماعات الحدود الجنوبية مع اليمن كمنفذ لعبور كميات الاسلحة المهرّبة، يجعل من المنطقي وجود قاعدة تنظيمية صلبة داخل منطقة الجنوب، فلابد أن يكون تنظيم القاعدة قد شكّل خلايا له في الطريق المؤدية الى مسرح العمليات. نشير هنا الى ما ذكرته تقارير أمنية سابقة بأن ثمة مخابىء لتنظيم القاعدة في جبال عسير والمناطق الجنوبية عموماً، وهذا يفسر جزئياً على الإقل حضور زعماء قبائل جنوبية الى الرياض لتجديد الولاء والبيعة للعائلة المالكة ولشخص وزير الداخلية والافصاح عن موقف صارم إزاء الجماعات الارهابية التي تعمل في مناطق الجنوب.

ثمة تفسير منطقي آخر للدور اللوجستي التي تلعبه بعض المدن مثل جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرها من أجل تخزين السلاح، والامدادات، والبيوت الآمنة، والنقل والوثائق الرسمية المتعلقة بالهوية الشخصية، وهكذا التجسس.

هناك من يعتقد بأن إستثناء مناطق مثل جدة من أجندة المداهمات الروتينية وغير الروتينية التي تقوم بها قوات الأمن السعودية، رغم وجود دلائل قوية على وجود خلايا تنظيمية ومخابىء ومموّلين لشبكة القاعدة، بناء على كون اسامة بن لادن يتحدر من هذه المدينة، زائداً الأدلة الجنائية التي عثر عليها قسم التحقيق التابع لوزارة الداخلية خلال حوادث أمنية شهدتها مدينة جدة في وقت سابق..هذا الاستثناء حسب إعتقاد بعض المصادر يثير سؤالاً كبيراً حول جدية الحكومة في محاربة الارهاب، الا أن حقيقة الأمر أن الحكومة والعائلة المالكة تنظر الى الأمر من زاوية مختلفة، فتوسيع دائرة المواجهات من شأنه أن يخلق إنطباعاً سلبياً حول الاستقرار السياسي في البلد، إذ أن تعدد وتنوع بؤر التوتر يعني لكثيرين بأن السعودية أصبحت مرشحة للسقوط، إن لم يكن سقطت بالفعل، في دوامة العنف والحرب الأهلية وتالياً الانهيار. وإن قرار خوض معركة مفتوحة مع الجماعات الارهابية يتوقف بدرجة أساسية على مستوى الخطورة التي تصل اليها ظروف البلد الأمنية والسياسية.

العائلة المالكة باتت الآن في سباق مع الزمن من أجل إثبات جدارتها وحفظ مصيرها السياسي، من خلال خوض معركة متقنة ضد خصم غير عادي، أي تنظيم القاعدة. فأي عملية عسكرية قادمة ستأكل من رصيده السياسي ومشروعيته وجدارته، لأنها عملية يخطط لها وينفذها عناصر كانوا جزءا من الحلف الاستراتيجي والتاريخي، فهي حرب مع الذات، ومع خصم يدأب رغم كل الظروف والتدابير الصارمة المحيطة به على النفوذ الى قلب السلطة وتقويضها من داخلها، وهذا ما تكشف عنه قصص الاكتشافات عن مخابىء أسلحة وخلايا إرهابية وخطط لحملات عنف متوالية.

 في السادس والعشرين من أغسطس الماضي أعلن رسمياً عن العثور على عدد كبير من القنابل وقذائف الـ"اربى جى" ورشاشات الكلاشنكوف والطلقات والعملات وأجهزة اتصالات في العديد من الأماكن في المملكة إضافة الكشف عن خلية إرهابية تم التعرف على أعضائها، بحسب ما نقل التلفزيون السعودي. وبخلاف ما تم الاعلان عنه في الثاني عشر من أغسطس عن مقتل أحد أعضاء الخلية الارهابية واعتقال ثلاثة آخرين، فإن بيان وزارة الداخلية المعلن في السادس والعشرين من أغسطس ذكر بأن تبادلاً  لإطلاق النار وقع مع عدد من الاشخاص الذين لاذوا بالفرار في حي الأمانة في منطقة الرياض.

في إستباق لأية إنطباعات قد يخلقها بيان وزارة الداخلية في السادس والعشرين من أغسطس، حاول المصدر الأمني تأكيد حصرية الحدث في ذات المجموعة التي جرت مواجهتها في الثاني عشر من أغسطس، وإعتبارها امتداداً له، حيث جاء في البيان: (أنه إمتداداً لما أعلن عنه في 12 اب /أغسطس بأن مجموعة من الإرهابيين كانوا يستقلون سيارة هايلوكس قاموا بإطلاق النار على إحدى فرق الدوريات الأمنية بحى شبرا بالرياض ولاذوا بالفرار بواسطة سيارة أخرى عدا أحدهم والذي تم القبض عليه بعد إصابته فقد تم العثور على هذه السيارة لاحقا في إحدى ضواحى محافظة الدرعية (شمال الرياض) بجوار إحدى المزارع وقد وضعت عليها لوحة تخص سيارة أخرى.

كمية الاسلحة والتجهيزات اللوجستية التي تم العثور عليها تكشف عن إعداد وتصميم الجماعات الارهابية لجهة تنفيذ عمليات متقنة ومصممة لتقويض أركان السلطة، على غرار ما كانت تقوم به الحركات الجهادية في أفغانستان والشيشان وغيرهما. فالعدد الكبير من قاذفات الآر بي جي المصممة في الأصل ضد المركبات، اضافة الى أسلحة رشاش وكاميرات وستر واقية وأجهزة اتصال وكميات من المتفجرات، تشير الى أن هذه الجماعات تعد نفسها لخوض معركة شرسة وتطمح لتحقيق أهداف كبيرة. وكما في المرات السابقة، فإن تهريب الاسلحة تم عن طريق الحدود الجنوبية مع اليمن وتحديداً منطقة جيزان التي إستعملتها الجماعات المسلحة لتمرير شحن السلاح لجهة تخزينها في منطقة المكرمة.

وبعيداً عن تفاصيل المواجهة المفتوحة بين قوات الامن السعودية والجماعات الارهابية، فإن الأخيرة أفلحت في إسقاط هيبة الدولة وأسطورة الأمن، فقدرة هذه الجماعات على تهريب السلاح والدخول في مواجهة مسلحة مباشرة مع قوات الأمن ثم الفرار دون خسائر، وتكرر الأمر مرات عدة لا شك يثير الدهشة، ويثبت بالدليل العملي هشاشة البنية الأمنية الداخلية. فهناك إحساس شبه عام، يتجلى بوضوح في منطقة الرياض بوصفها المسرح الأكبر لنشاطات هذه الجماعات في الآونة الأخيرة بأن ثمة ارتجاجاً أمنياً غير مسبوق قد حدث وعكس نفسه على الاجندة اليومية لكثير من العوائل، الأمر الذي أشاع جوءا من القلق، فهناك ترقب لبيانات وزارة الداخلية في التلفزيون الرسمي حول حوادث أمنية جديدة أو الاعلان عن نشاطات إرهابية للجماعات المسلحة. ويزداد الأمر سوءا في المناطق السكنية والمراكز التجارية التي يقطنها ويرتادها الأجانب والمرشحة لعمليات مسلحة تنفّذها الجماعات المسلحة. وفي ظل أوضاع ساخنة كهذه تروج الشائعات حول وجود متفجرات في هذا المركز وهذا الحي السكني وهذه المدرسة بما يخلق أجواءً متوترة وسط السكّان المحليين، لا يخفف منها وجود إجراءات أمنية مشددة تفرضها وزارة الداخلية، فالاطمئنان المراد إشاعته بين السكان وتأكيد إستباب الأمن، لا يتحقق منفرداً عبر تكثيف نقاط التفتيش وتعزيز الحضور الأمني، سيما في ظل إستمرار المواجهات، بل لابد من أن يصاحب الاجراء الأمني تغييراً في أوضاع سياسية وإقتصادية واجتماعية توفّر ظروفاً ملائمة لنشوء ظواهر راديكالية لا يمكن القضاء عليها بإستعمال السلاح.

 

العنف مصدّراً

كانت افغانستان أول منطقة إستضافت الموجات الأولى للسلفية المتشددة، وإستثمارها ضمن المشروع الجهادي ضد الاحتلال السوفييتي، فقد أبلى المجاهدون بلاء حسناً في هذا المشروع، ولم يكن الرعاة الأوائل أي الحكومة السعودية والادارة الأميركية وباكستان يدركون بأن أفغانستان ستتحول الى منخفض سياسي حاد ومرجل تغلي بداخله مشاريع سياسية ارتدادية. فمن هناك انطلق المشروع الأممي، ومن هناك أيضاً إنتعشت فكرة تحرير الأوطان واقامة البديل الديني، فقد جرّب المجاهدون مشروع التحرير وبناء الدولة فلماذا لا ينقلون التجربة الى بلدانهم؟

لم يكن يدرك الرعاة بأن خروج آخر جندي سوفييتي من أفغانستان سيعقبه فصل بل فصول من المحنة، فقد عاد المجاهدون الى بلدانهم مدجّجين بمشاريع جهادية أخرى. ولم تدرك الحكومة السعودية بأن قوافل المجاهدين الذين ودّعتهم وسلّحتهم وضمنت رعاية عوائلهم في غيابهم سينتشرون في الآفاق خارج نطاق سيطرتها وسيقودون حروباً دينية وسيتحولون الى أبطال في مناطق نائية تلبية لتطلعات نمت وترعرعت في سوح الجهاد وعلى التراب الافغاني. كما لم تدرك بأن هؤلاء المجاهدين سيقدمون على شن حملة انتحارية بحجم هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتي أدت الى تدمير الصورة السياسية للسعودية في العالم، حتى باتت توصف بأنها وكر الإرهاب ومصنع التطرف.

من أفغانستان إنطلقت كتائب السلفيين المجاهدين نحو جمهوريات آسيا الوسطى، في الشيشان وكوسوفو وحتى قلب روسيا، وكان بروز قيادات سلفية جهادية سعودية في هذه المناطق يبعث البهجة والسرور لدى قيادات سياسية ودينية سعودية، فمازال المستقبل المرعب مستوراً عن التفكير الاستراتيجي السعودي، رغم التحذيرات التي كانت تبعث بها القيادة السوفيتية للحكومة السعودية بوقف تدفق التيار السلفي الجهادي على أراضيها، ولعل ما كان يبعث الاطمئنان لدى القيادة السعودية هو رضا أو سكوت الاخ الأكبر، الذي لم يكن هو الآخر يتوقع سقوطه ضحية لما شارك في سقايته ورعايته.

وجاء زلزال سبتمبر ليفتتح مرحلة كشف حساب عسير لتجربة شاركت فيها عدة أطراف، محلية ودولية، ولكن جاء الكشف متأخراً، أي في وقت لم يعد بإمكان أي طرف إقفال بؤر التطرف، فهذه البؤر بدأت تنشط بطريقة مدهشة منذ نجاح الافراد الخارجين من هذه البؤر في دك صميم القوة الكبرى في العالم. فقد تحوّل الرعاة الأوائل الى ضحايا صنعة اليد، فبعد سبتمبر أصبحت كتائب المجاهدين تنتشر في كل البقع الشاغرة التي تكون فيها المواجهة مع الخصم، الأميركي اليوم.

فهذه الكتائب الجهادية المتحدّرة من عمق الجزيرة العربية تدرك تماماً بأنها غير قادرة على المنافسة في المناطق التي تنشط فيها حركات دينية متجذّرة اجتماعياً وسياسياً، كما في لبنان وفلسطين ومصر، فهي دون المنافسة في هذه المناطق، خاصة وأن تميّزها قائم على التضحية البدنية وهي عنصر غير مفقود في هذه المناطق، ولكن هي البضاعة الايديولوجية غير المغرية التي يحملها هؤلاء القادمون من خارج حدود هذه البلدان.

فألق الجماعة السلفية الجهادية ظل تحقق في المناطق البور، التي تفتقر الى حراك سياسي وديني نشط، وهي مناطق في الغالب فقيرة، ومتخلفة، بما يجعل تجنيد العناصر سهلاً، كما في أفغانستان وباكتسان واليمن والقرن الأفريقي.

وبإستثناء أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن تورط الجماعات السلفية الجهادية في مناطق عديدة من العالم لم يخلق مشكلة جدّية للحكومة السعودية، رغم أن حكومات عديدة أوصلت رسائل إستنكار صريحة للحكومة السعودية إزاء نشاطات جماعات سلفية سعودية في بلدانها. الا أن هذه الرسائل بدأت تستعمل الآن في القضية المرفوعة ضد الحكومة السعودية في دعم الإرهاب.

ولعل أهم مستجد من شأنه أن يحكم العلاقة المستقبلية، هو الوجود السلفي السعودي في العراق. فهذا الوجود يدخل الآن في مأزق ليس بسبب مواجهة الأميركيين، بل لأن هذه الحركة إختارت البقعة الخطأ، أعني العراق الذي لن يكون البقاء فيه سهلاً تماماً كما الخروج منه، وأن نتائج البقاء والخروج سترتد على العلاقة السعودية العراقية.

فالعنف المهرّب عبر الحدود الشمالية الى داخل العراق يبعث رسالة استفزازية لشعب مازال يحتفظ بصور الدعم السعودي المفتوح للنظام البائد، وأن وجود جماعات سلفية مدججة بأيديولوجية خلاصية متمترسة خلف دعم فئات معزولة في الداخل ليس سوى أكثر من عنصر احتراق في مواجهة قادمة، ستقذف بحممها الى خارج الحدود وستصيب الجوار بحروق بالغة الخطورة.

الحكومة السعودية باتت تدرك الآن بأن الانغماس في الشأن العراقي لم يعد، كما كانت تصوّر ذلك لبعض الجماعات، مربحاً. فالعراق ليس أفغانستان أو الشيشان والصومال، فالقضية ليست محصورة في مواجهة مع قوات التحالف وجيش الاحتلال في العراق، فهناك ستكون المواجهة مع الشعب العراقي النابذ لأي تدخل في شؤونه الداخلية، وخصوصاً من جوار ظل وفيّاً لطاغية بغداد حتى لحظة رحيله، وأن تشجيع جماعات سلفية جهادية للعبور الى العراق من الحدود الشمالية ضمن مخطط استعمال الخارج كمكب لنفايات الداخل، وترحيل المشاكل خارج الحدود، لن يبرأ ذمة الحكومة السعودية أمام العراقيين، الذين ينظرون الى سلوك الجوار بحذر شديد وترقب جاد.