المملكة المخطوفة

فيصل الزامل

 

الإنطباع الذي خرج به وفد دبلوماسي غربي زار الرياض قبل عدة أشهر بأن التيار الديني المتشدد هو الحاكم الفعلي في المملكة لم يكن خاطئاً البته، فالعطب الذي أصاب سياسات الدولة الداخلية والخارجية جعل هذا التيار المتشدد القوة الفاعلة في توجيه دفة الدولة وبخاصة في مجالي السياسة الداخلية والخارجية، فهي في الداخل تملي على الدولة تبنّي سياسات أمنية صارمة، بفعل نشاطاتها السرية والمسلحة، بما يجعل السكان، والمرافق العامة، والأنظمة واللوائح القانونية، وحتى التحصيص المالي خاضعاً تحت مؤثر المتغير الجديد الداخلي. وينقل أحد الرموز الوطنية في هذا البلد بأن الجميع يدفع ثمن سياسة أمنية خاطئة، فتحت شعار محاربة العنف وجماعات التطرف يصادر أمن الجميع، ويتم تعطيل الأعمال وبرامج التنمية، وتخصص مبالغ ضخمة من ميزانية الدولة لوزارة الداخلية، وكأن الأخيرة تمثل الجهاز الوحيد في الدولة. فقد قبض التيار المتشدد على زمام السياسة الداخلية وصار يوجهها الوجهة التي تلتقي في النهاية مع مصالحه ومصالح فئة المنتفعين في الوزارة.

فالتيار الديني المتشدد باتت يقرر اللعبة وزمانها، ويملي على الدولة بالكامل طريقة في المواجهة، في وقت تتساقط فيه الأوراق من أيدي القادة السياسيين، الذين فقدوا المبادرة وأصبحت سياساتهم قائمة على ردود أفعال، فالسياسة الأمنية الحالية ليست سوى رد فعل على تطور داخلي خطير، منذ أن عادت سيرة السيارات المفخخة الى الواجهة، وهكذا شحنات الاسلحة المهربة، والهجمات الخاطفة. فوزارة الداخلية أصبحت أشبه ما تكون بمؤسسة بيروقراطية خاوية، لا تملك تقرير السياسة الداخلية، لأن هناك أطرافاً جديدة أقدر على صياغة هذه السياسة ولكن بطريقتها الخاصة، وفي واقع الأمر نجحت هذه الأطراف في إسقاط خيارات الدولة الداخلية، وسحبت منها مبادرة الفعل، وهذا ما يجعل التخبط والارتجالية في التعامل مع ظاهرة العنف حاكما. لقد إتسع الفتق على الراقع، وأن وسائل الاكتساح، والقضاء المبرم، والقبض على المجموعة بكاملها باتت تندرج الآن في قائمة التمنيات، فثقوب الجدار باتت كثيرة وواسعة، ويتسرب منها الماء بغزارة شديدة، فشحن السلاح المهرّب من مخازن الداخلية والدفاع والحدود الشمالية والجنوبية تتواصل، ومن يدفع يرفع.

المشهد في السياسة الخارجية أكثر وضوحاً، فاليوم تصيغ جماعات التطرف سياسات الدولة في الخارج، الأمر الذي أدى الى تقطّع أوصال شبكة تحالفات السعودية على المستويين الدولي والاقليمي. ففي ظل غياب دور سياسي فاعل في العلاقات الدولية، تتدهور روابط الدولة السعودية مع الكثير من الدول، بفعل نشاطات جماعات منبثقة من أراضيها، فخسرت حليفها الأميركي بعد الحادي عشر من سبتمبر، وها هي تدفع ثمناً باهضاً في العديد من الدول من أفغانستان الى الشيشان، وكوسوفو وكينيا والصومال وتنزانيا وأندونيسيا والفلبين وتايلاند وحتى روسيا التي زارها ولي العهد مؤخراً فإن ملف جماعات التطرف كان أبرز موضوعات النقاش بين القيادتين الروسية والسعودية، وهاهي اليوم تؤسس لأزمة في العلاقة مع العراق القادم، منذ الاعلان عن تورط سعوديين في نشاطات إرهابية داخل العراق، والحبل على الجرار.

إنسحاب الدولة من مسرح السياسة الدولية يملؤه الآن طرف آخر يقوم بتدمير طريق العودة الى المسرح ثانية، فالنشاطات الارهابية في بقاع عديدة من العالم ستظل تواجه السياسة الخارجية بأسئلة كبيرة، وستتحدد على أساسها طبيعة العلاقة المستقبلية مع الدول التي تتسلل اليها جماعات العنف من بلادنا.

فحملة العلاقات العامة التي دفعت الحكومة ثمنها الباهض في داخل الولايات المتحدة وخارجها لتحسين صورة الدولة تفقد مفعولها كلما تم إكتشاف عناصر سعودية جديدة متورطة في أعمال عنف هنا وهناك، ما لم تتم معالجة جذرية في الداخل، فطاقم الخارجية السعودية يقصر عن أداء مهمته في تحسين الصورة طالما بقيت مكائن التطرف تعمل بأقصى طاقتها في الداخل، وتصدّر نتاجها بصورة متواصلة الى الخارج.

هذا كله يشير بوضوح الى أن الدولة باتت مخطوفة من قبل مجموعة تفرض توجهاتها الخاصة والصارمة على السياستين الداخلية والخارجية، وتملي على الدولة لعب دور رجل المطافىء، ونخشى أن يأتي يوم لا يملك فيه هذا الرجل الماء الكافي أو أن يكون قد إلتهمته النيران قبل بدء مهمته.