في الأزمة السعودية

 مرتضى السيد

 تمثل الأزمة نقطة تحوّل تاريخي للدول، وتقدم مسألتين بالغتي التناقض، فهي من جهة تشير الى (خطر) محدق بالدولة، ومن جهة ثانية تشير الى (فرصة) يمكن لصانع القرار أن ينتهزها بحيث يتمكن من التغلب على المشاكل البنيوية التي تردد كثيراً في اتخاذها، عبر (إعادة بناء) الدولة، أو بشكل أدق (إعادة بعث الدولة) من جديد.

حين يتحدث المثقفون السعوديون عن حقيقة أن الدولة السعودية تعيش أزمة، أو أنها تقترب من أزمة، فإنهم يلحظون في الغالب هذين الجانبين: الخطر، والفرصة. في حين أن المسؤولين من الأمراء الذين يمسكون بدفّة الدولة، يميلون الى رؤية الخطر مكبّراً، أما الفرص التي أمامهم في بعث الدولة فيرونها ـ بسبب ضعف الرؤية واختلاطها ـ خطراً أيضاً! إنهم لا يرون إلا ضوءً أحمراً واحداً. وهذا ما يدعو الى التساؤل: لماذا تصبح أدوات الحلّ والإنقاذ للوضع السعودي المتأزم حالياً، أدوات خطر وينظر اليها على نحو كبير من الريبة والشك؟ وكيف استطاعت دول خليجية عديدة من تطوير رؤيتها تجاه الديمقراطية من اعتبارها خطراً ماحقاً ترفضه، الى خشبة إنقاذ للدولة والعائلة المالكة ـ كما في البحرين؟ وكم من الوقت تحتاج الحكومة السعودية لتصل الى ما وصلت اليه الدول الأخرى؟

هذه الأسئلة تستبطن تساؤلات أخرى لها علاقة بشخصية صانع القرار (العمر، والمستوى التعليمي والفكري، والتجربة وغيرها) وكيفية صنع القرار في المملكة. فالقرارات المصيرية التي تتطلبها (الأزمة) تتردد في اتخاذها النخب المعمّرة، والمحافظة، وضئيلة التعليم، فمستواها لا يسمح لها بوضع تقدير صحيح لحجم المنافع والأضرار، ولا يعطيها فرصاً كبيرة للمناورة، كون عودها تصلّب على نمط معيّن من الإدارة. في حين أن إدارة الأزمة تتطلّب نوعاً مختلفاً من الإدارة يتّسم بالحسم، وتجنّب ردود الأفعال، والتصريحات والوعود التي لا يمكن تلبيتها.. إدارة تتخذ قراراتها بناء على معلومات دقيقة وتحليل دقيق لحجم المشكلة في فضائها المحلي والخارجي.

الخروج من الأزمة السعودية يعني تغيير الوضع القائم، الى أفضل منه، بأقلّ الكلف مادياً وبشرياً. كما يعني عدم خلق مشاكل جديدة، أو إنتهاج سياسات تولّد أزمات أخرى، ففي أقلّ الأحوال يفترض أن تكون هناك خطط في المدى القريب تقوم على إحتواء المشاكل وتجميدها ريثما تعطي الخطط بعيدة المدى أُكُلها.

غير أن صانع القرار السعودي، في مواجهته للأزمات المتعددة، لم يتعامل معها بأيّ صورة إستثنائية.. لم يتخذ أيّ قرار مفصلي في كل جوانب الحياة السياسية والإقتصادية والفكرية والإجتماعية، بل كل ما لديه إستمرار على النهج القديم، وبنفس الأخطاء، وحتى صور الضبط الأولى والبديهية التي يتوقعها المواطن كالحدّ من الفساد الإداري والمالي وتوفير الحدّ الأدنى من الخدمات العامّة لم تتحقّق.. وكأن المملكة لا تواجه بالفعل أزمة من نوع ما! ولربما يكون شكّّنا في محلّه فيما إذا كان المسؤولون السعوديون يدركون أو يعتقدون أنهم وبلادهم في أزمة. فما نراه من سياسات لا ينبئ عن مجرد الإعتراف بوجود مشكلة، فضلاًً عن السعي لحلّها.

جانب آخر يجب الإلتفات إليه، أن الأزمات في المملكة تتوالد وتتكاثر، بعضها يتخذ صفة العرض لأمراض أخرى، وبعضها بسبب سوء الإدارة. فتصاعد العنف المحلّي له جذور فكرية معروفة، إضافة الى المناخ السياسي والإقتصادي المتردّي، ولكن ملفّ العنف الذي كان متوقعاً، تصاعد بسبب منهج (الحلول الأمنيّة) والإفراط في بعض الأحيان في استخدام العنف وخرق المحرمات الإجتماعية كاعتقال الزوجات والأقرباء، وكانت النتيجة أن المواطن نفسه فقد الأمن واتجه الى السلاح لحماية نفسه في غياب السلطة.

والأزمة الخارجية التي كرّستها أحداث 11 سبتمبر، حاول السعوديون معالجتها بتقديم تنازلات على حساب الوضع المحليّ، فدخلت الدولة في صراع مع مجاميع جديدة من الجمهور لم تكن تحسب نفسها في يوم ما نقيضاً للسلطة أو تحمل بوادر عداء لها. وفي حين تتطلب إدارة الأزمة (حسم) الخيارات الكبرى التي تمرّ بها الدولة: دولة دينية أم مدنية، مذهب وهابي أم تعددية مذهبية وثقافية، شراكة سياسية أم هيمنة عائلية، غَلَبة نجديّة سياسية أم وطنيّة مساواتية (وطنية أم فئوية).. يريد صانع القرار السعودي أن يجمع المتناقضات كلها ليلعب بها جميعاً كأوراق سياسية. ومع استحالة فعل ذلك من حيث المبدأ، إلاّ أن الممارسة الحكومية التي لا تتمتع بقدر من المرونة بحيث تجعلها قادرة على تطبيق استراتيجيتها (في جمع المتناقضات السياسية) فإنها في المحصلة النهائية أدّت الى حالة من الجمود غير المسبوق، وتعطلت لغة الحسم للمتناقضات المزمنة، وأشاعت البلبلة حتى بين المسؤولين أنفسهم بشأن المنهج الذي تسير عليه الدولة.

وبالرغم من ثبوت أن أحد أهم أسس إدارة الأزمة (التنازل) النسبي، في ثنائية الدولة والمجتمع، ترفض العائلة المالكة تقديم أي تنازل، وهي لا ترى الألوان الرمادية بين الأبيض والأسود، ولا تعتقد بالحلول الوسطى التي تؤكد الإصلاح العام الشامل ضمن إطار حفظ مصالح العائلة المالكة. الأخيرة لا تؤمن حتى بمقولة الشاعر: لنا الصدر دون العالمين أو القبر! فكل الإصلاحات المطلوبة حتى الآن لا تخرج العائلة المالكة من صميمها، وهي ليست إصلاحات تستهدف إلغاء العائلة المالكة، أو إنهاء إمتيازاتها المالية والسياسية. وهذا النوع من التفكير، يعمّق الأزمة، ويدخل الدولة والمجتمع في معركة بقاء، لن تكون (الدولة ـ الحكومة ـ العائلة) إلا خاسراً حتمياً فيها.. خسارة جذرية تقتلعها الى الأبد.

لا تتطابق إدارة العائلة المالكة للأزمة القائمة مع منطق تساوي الأفعال مع التهديد، ولا الوعود مع التطبيق، فهي تهدد مواطنيها ونخبها بأسلحة عتيقة تجاوزها الزمن لم تعد تُخيف أحداً، بل أن الإستخدام الكفوء لتلك الأسلحة الأمنية والإعلامية وحتى العسكرية بات موضع شك كبير. كما أن الوعود بالإصلاحات ـ بالرغم مما يحيط بها من شكوك في قدرتها على احتواء الأزمة ـ ومن ثم مخالفتها من قبل الأمراء، أشعرت المواطن بخيانة حكامه الذين فقدوا مصداقيتهم وعجّلت من خيبة أمله فيهم، وبات ينظر اليهم لا (كحلاّل للمشاكل) بل جزء من الأزمة نفسها ينبغي معالجته بأدوات من خارج النسق المحلي. ومن هنا، يكمن خطر استدعاء الحلول الخارجية للمشكل الداخلي، الذي لم يعد يتضمن ما هو معروف من مشاكل، بل يضاف إليه أزمة وجود العائلة المالكة على رأس السلطة. مما يؤسف له، أن العائلة المالكة لا تلتفت أبداً الى ردود فعل الشارع، بل هي ـ رغم وجود أدلّة تدحض رؤيتها ـ تعتقد بأن رد الفعل الجماهيري ليس مهمّاً ويسهل ضبطه أمنيّاً. في وقت ينبغي فيه تأمّل صورة العلاقة بين العائلة المالكة وبين الجمهور والحضيض الذي وصلت إليه في الوقت الحاضر، وما يمكن أن تكون عليه في المستقبل غير البعيد.

المصلحة المشتركة وعلاقة الود التي يجب أن تؤسس على قاعدة الشراكة في المغنم والمغرم بين العائلة المالكة والشعب يجب أن تتغلب في ذهن صانع القرار السعودي. أما الإستئثار بكامل السلطة والتصرف بالمال العام دون حسيب أو رقيب، فإنه لن يخدم الطرفين وسيكون الخاسر الأكبر المستأثر نفسه.

وخلاصة القول فإن المملكة التي تواجه أزمة مصير، لم تعرف قيادتها بعد المبادئ الأولية لإدارتها. كما أن تلك القيادة ترتكب خطأ فادحاً حين تستبعد عنصر (الفرصة) من الأزمة، ونقصد به فرصة تجديد الدولة لشبابها عبر الإصلاحات، باعتبارها تمثل خطراً يضاف الى مخاطر الأزمة نفسها. فإذا ما أصبحت الحلول خطراً، فإن الذي يحدث ـ كما هو واضح اليوم ـ السكون والجمود وانتظار قدر نهاية الدولة وفواتها.