مصرع (القبيلة) أم (الدولة)

 قامت الدولة السعودية على تمازج معهود في تراث الحضارة الإنساني على قاعدتي القبيلة والدين. فقد تبنّى الدين كما القبيلة مشروع الدولة ـ إن جازت التسمية ـ وحارب الممالك المجاورة حتى أقامها. الدين، كان وحده العامل الحاسم، في إخضاع القبيلة، وتفجير مخزونها العنفي، أو بالأصح كان وحده القادر على تحويل أو تحوير القيم القبلية في نهر (السياسة) ليخدم مشروع الأخيرة ويحمل أطرافاً محددة الى السلطة. لا شيء، كما تدل التجربة السعودية وغيرها، كالدين (محرّضاً ومخضعاً) في نفس الوقت. (محرّضاً) حين يتحول الغزو القبلي الى جهاد، والأنهاب الى غنائم، وفي نفس الوقت (مخضعاً) القبيلة الى الدين، أو بإسمه، لا فرق. فتنال حينها الدولة أو الكيان الجديد مشروعية تعتمد في الإساس على الخضوع الطوعي للعناصر القبلية التي هي نافرة بطبعها متمردة على الإخضاع، خضوعها لسلطان السياسة.

كان هذا حال الدولة السعودية ـ الإمبراطورية ـ شأنها في ذلك شأن الإمبراطوريات التي قامت في العالم، وبينها العالم الإسلامي الذي حمل راية الفتح فيه والتوسع، القبيلة المحرّضة دينياً، سواء كان الآخر المستهدف، مسلماً أم غير مسلم. فلا إخضاع للقبيلة بدون الدين، ولا قيام لسلطة إمبراطورية مستقرة ـ لتكن سعودية مثلاً ـ بدون إخضاع الدين لاحقاً للدولة بعد أن يخضع بدوره القبيلة.

بين مشروع الدولة السعودية ومشروعيتها مسافة بعيدة. فبعد قيام الدولة، بعيد احتلال الحجاز، وجد ثمّة اكتشاف من قبل القبيلة، بأنها لم تكن سوى أداة الدولة وما أن تقوم يذهب بامتيازاتها نفرٌ آخر، لينزوي دورها حين تتوقّف الفتوحات، بسبب أن الإمبراطورية وصلت الى أقصى حالات توسّعها فاصطدمت بقوى أخرى أو دول أو إمبراطوريات أقوى منها فتوقفت عن الزحف. الذي حدث بعد ذلك الإكتشاف، أن مرحلة الفتح الوهابي توقفت وآن لمشروع الدولة ـ بعد الفتح والثورة ـ أن يبدأ.. اكتشف القادة القبليون (الإخوان بزعاماتهم المعروفة: ابن بجاد وابن حثلين وابن لامي والدويش وغيرهم) أن الدين الذي استلهموا منه شعارهم (هبّت هبوب الجنّة وينك يا باغيها) لم يكون سوى وسيلة، وربما كان لبعضهم (أكذوبة) و (خديعة)، فكانت الثورة الإخوانية، ومن ثمّ نهايتها الدموية، تلاها أن قامت الدولة وأعلنت في 23 سبتمبر 1932. ومنذئذ لم يكن خضوع القبيلة ـ في المملكة ـ إلاّ لسلطان القوة، وشيء من سلطان الدنيا، أما الدين فإنه كان غطاءً لكي تقنع القبيلة نفسها بأنها لم تخضع للأمرين الأولين، أو إدراكاً منها أنها غير قادرة على مواجهة مشروع الدولة، واعتبرت الخضوع الديني تبريراً للذات والأتباع.

شرعية القوّة ثم شرعية الإنجاز المادي بسبب الطفرة النفطية، كانا الأقوى في إخضاع القبيلة. ولكن الأخيرة التي لم يتم صهرها في بوتقة وطنيّة، بقيت محافظة على صلاتها الداخلية، وحافظت على شيء من الإطار الهلامي الإنتمائي المقابل لانتماء الدولة والمواطنة الصحيحة، شأن القبائل في ذلك شأن المناطق التي أُخضعت بسلطان القوة. والقبيلة رغم ضعفها فضّلت الصمت رهباً ورغباً، طالما ان سلطان الدولة قاهر.. ولكنها حين أحسّت بضعف السلطة وتهافت مشروعيتها ـ الدينية والوطنية ـ بدأت تطلّ برأسها من جديد، وبدأت في غياب وضعف مؤسسات الدولة الخدمية في تسوير نفسها وتسييس روابط أبنائها، وتأمين مصالح أفرادها ما استطاعت. حين تضعف الدولة ـ كما يحدثنا التاريخ ـ يعلو الإنتماء القبلي، وهو أمرٌ شهدناه في العراق منذ حرب الكويت، وكذلك الإنتماءات الأخرى الأثنية والدينية. يأتي بعدها مناكفة السلطة ومواجهتها والخروج عليها بمجرد أن يظهر عليها الوهن.

القبيلة في الوقت الحاضر ـ كما الدولة السعودية نفسها ـ كما الإنتماءات الأخرى المذهبية والمناطقية، تعيش حالة من المخاض، حيث تضعف الدولة وسيطرتها، وتعلو سلطة الأخريات التي تتحفّز لحفر نهاية الدولة. الصدامات العنيفة التي شهدتها المملكة تبشّر بالمزيد منها، وهي في كثير من خلفياتها لم تخرج عن أطرها القديمة ـ مذهبية ودينية ـ. وإذا كانت القبيلة قد حملت وحَمت مشروع الدولة، فإن الأخيرة فشلت في الدمج الإجتماعي وصناعة الهوية الوطنية، وبالتالي فإن تلك القوى نفسها التي تصور البعض أنها أضعفت حتى الموت تستعد لمعركة ثانية، قد تشهد على يديها (مصرع الدولة) كما شهدت قيامها وتأسيسها. فالدين والقبيلة اليوم في المملكة عاملان متحالفان لتدمير الدولة كما كانا عاملين تحالفا لقيامها.