الجمود بحاجة الى الماء الساخن لا الآيس كريم!
الإعلام
السعودي ودور حفّار القبور!
ممدوح المهيني
هل استطاع لهب تفجيرات 12 مايو في الرياض والتي أحرقت قلوبنا
وأدمعت عيوننا أن تذيب هذه القوالب الإعلامية الجامدة؟ لم أكن
حقيقة أتوقع أن تكون القوالب الإعلامية بهذه الصلابة، والآن يمكن
أن نفهم أن قوالب الثلج عندما تذوب تتحول إلى ماء تتشكل بالوضع
الذي تريده، أما القوالب الإعلامية فهي متصلبة على فراغ، ليس
هناك شيء داخلي يمكن أن يذوب ويتشكل. استديوهات رثة، إضاءة
كئيبة، وجوه محنطة، أصوات عريضة، برامج باهتة، موسيقى معاقة
وممسوخة، أحاديث مكرورة جامدة، حوارات مدرسية، احترام مصطنع،
رؤوس تهتز لأعلى وأسفل، فائدة مزيفة، متعة موؤدة، نساء من الشمع
،أطفال من البارود، موت كلي.
صحيح إنه ليس هناك من ورق أصفر يتساقط ويتكدس على زجاج السيارات
الأمامي.. إلا أننا بالخريف. السعوديون يعرفون هذا، الشمس خففت
من اضطهاد الصيف وفي الليل يبدو الجو كئيباً ومضجراً رغم نفحات
البرودة المنعشة. إن هناك شيء يتغير.. ولكن الإعلام المرئي
والمسموع السعودي ليس هواء ورياحاً وشمساً قد يصعب ملاحظة
تغيراتها الطفيفة. بل هو شيء ظاهري واضح تراقبه ملايين الأعين
والأسماع ومع هذا فإن الطقس يبدو أكثر مرونة وليونة وقابلية
للتغيير.
مقدمو نشرات الأخبار ما زالوا يمسكون بـ(أناتلهم) الطويلة ويقفون
في استديو عتيق كئيب.. ويخبروننا بآخر أخبار الجو وتغيرات الطقس
المتوقعة التي تتبدل في كل يوم ولم يسألوا أنفسهم سؤالاً: لماذا
تتكثف السحب في السماء وتتفرق وهم منذ اجتمعوا لم يفترقوا؟
وستكون الإجابة أن قوالب الثلج المجمدة إذا ما تماسكت لا يمكن أن
تتفتت أو تذوب إلا إذا أخرجت من الثلاجة وصب فوقها الماء الساخن،
ولكن أحداً لا يحب الماء الساخن ولا السخونة. الكل مشغول بلحس
الآيسكريم.
في المملكة الآن أشياء كثيرة تحدث ويبدو الآن الإعلام المرئي
والمسموع قزماً في مواجهتها. وهو أحد الأسباب التي أضرت بالوضع
السعودي الداخلي الفكري والثقافي ومن ثم السياسي والأجتماعي
والاقتصادي الحالي لأنه لم يقم بلعب دور نهضوي تنويري تقدمي.
هناك كان دوران يقوم بها، دور دوغمائي نكوصي يقوم به الأصوليون،
ودور سكوني جبان يقوم به أصحاب الشهادات العليا والأصوات
الأكاديمية، وهو موقف لا يقوم بأي شيء إلا مباركة الموقف الرجعي.
وعندما حدث ما حدث لن ينقلب في يوم وليلة على نفسه. إن الإنسان
إذا قام بلف رقبته بسرعة وبشكل مفاجئ قد تنكسر، والإعلام لف
رقبته ولكنها التوت ولم تنكسر وأصبح وجهه في الجهة الجانبية التي
لا تراه فيها، لذلك نحن الآن لا نراه. من يرى وجه هذا الإعلام
الآن؟ من يستطيع أن يراه؟ إن العودة للوضعية الأولى أسهل من
التحرك في اتجاه غير معروف ولا أحد يدل إليه ولا أحد يريده ويبدو
أن طريق العودة سلك فعلياً وهذا ما يعطينا دلالة على ذكاء هذا
الإعلام أو قل دهاءه، في وقت كنا نعتقد أنه جهاز أحمق إلا أنه
قادر على القيام بعمليات تكتيكية خبيثة.
قبل مدة شاهدت على التلفزيون السعودي الرسمي والوحيد شخصاً يغني
وصُوّر في مكان جدرانه متسخة وقماش الجلسة التي يجلس عليها
مهترئة، كان يغني في الزاوية ويبدو أنه كان أحسن الأماكن.. أخذ
يغني: (درب الحوية بين شعب وغدراني).. هذه الأغنية الجميلة تحولت
إلى أبشع شيء يمكن أن تسمعه في حياتك. ما زال المذيعون يصطادون
الناس في أعالي الجبال ويقطعونهم من متعة الشواء اللذيذة
ليعلمونهم الكذب عندما يطلبون منهم أن يثنوا على الأماكن
السياحية التي شاهدوها. يظهر الشيوخ الكبار كالأطفال: (الحمد لله
حنّا مستأنسين والأماكن جميلة والجو مثل ما تشوفون غيم ومطر..
وننصح جميع الناس أنهم يجون هنا.. بدل ما يطلعون برة.. حكومتنا
ما قصرت). هذا الإعلان المجاني لا يمنح حقه للشيخ التخفيف من
أعباء إيجار الشقة المرتفع التي يتراص فيها أولاده.
لا أحد يعترض أو ينتقد أو يسأل. الكل يلهجون. فرقة من الطالبين.
لا أحد يلتقي مع النساء؛ إنهن عورة، المجال مفتوح للمجانين
واللصوص ومدمني المخدرات والأرهابيين أما النساء فلا. سنتوقع أن
أحد الرجال كان شجاعاً وتخلص من نظرات المذيع الإملائية وقال إن
المكان غير جيد. والأسعار مرتفعة. وعمّال النظافة نائمون.
وسنتوقع أيضاً أن الشريط الذي صوّر فيه يتكوم في كيس الزبالة
المملوء الذي أمام البوابة الرئيسية للتلفزيون، هذه أشياء يمكن
أن تمرر على كبار السن. أما الشباب فهم يعلمون أن هذا كله ضحك
على الذقون. إذا أرادوا أن يسمعوا أغنية لن يسمعوا من يغني: (درب
الحويّة) بصوته البشع، فأليسا تطوف في الشاشات الأخرى تغني (أجمل
احساس بالكون). واذا ما ارادوا ان يشاهدوا برنامجاً سياحيا
فسيتابعون برنامجاً عن ماربيا يشرح كل التفاصيل الصغيرة،
وسيقومون بالحجز من تلفوناتهم المحمولة.
أما إذا أرادوا برنامجا فكريا او ثقافياً او توعوياً أو ارشادياً
وتنويريا فإنهم يتركون إليسا ونانسي عجرم وهيفاء ويعودون
لقنواتهم الإعلامية المحلية التي تقول لهم الحقيقة المطلقة
الكونية النهائية!! انهم يهربون من الآخرين الذين يرتدون ربطات
عنق لأنهم متآمرون عليهم ويريدون أن يلوثوهم ويحرفوهم عن طريقهم
المستقيم المنجي الوحيد.
منذ سنين وهذا الخطاب يعبئ رؤوسهم، وهو خطاب تجهيلي تلقيني
تثبيطي سلطوي اقصائي يتفه العقل والحياة ويتخيل البشر الذين لا
ينتمون لدينه ومذهبه حطب متحركة ترتدي الجينز ستلتهمها نيران
جهنم يوم القيامة.
يرتدي شورتا قصيرا جدا مصنوعا من افخر القماش، ويرتدي (تي شيرت)
أنيقاً جداً، وصندلا بلون خشبي محروق، ويتمشى على الشواطئ ويغازل
نساء مع ازواجهن، ويتكلم بصوت عال، ويصرخ بضحكات مجون، وعندما
تتحدث معه عن التسامح وعلاقتنا بالآخر والقيم الإنسانية، والهوية
الإسلامية وتساوينا مع البشر.. يبدأ بالانتفاض والتشنج وينتهي
الحديث عندما تبدأ الشتائم التي تخترق دخان سيجاره الكوبي ويذكرك
بالولاء والبراء!
انه مصنوع بهذا الشكل. شخص لا يتفكر. ومع انه يضع عدسات على
عينيه او يقوم بعملية لينك لاستعادة بصره، الا انه لا يرى.
هناك من فرّغه وجهله بهذه الشخصية المفزوعة الطفلية الساذجة
الانفعالية. هناك دائماً شخص يتكلم، وهناك آخر يهز رأسه، ولا
يوجد شخصان يتعاركان فكريا بأدب ليتخذ هو قراره فكرياً بدون قيود
وإرهاب فكري وينسجم مع عقله. هناك من يتكلم بإسم السماء وهناك من
يسجد له.
في
الإعلام السعودي المرئي والمسموع
لا احد يتحدث عن عصور النهضة الاسلامية بشكل متعمق وتفصيلي،
وليس فقط كما يحدث في الإعلام بالطابع التبجيلي الافتخاري
القشري، والذي يستخدم كشاهد قوي لدعم أفكار خاطئة ومعارضة لها.
لا احد يتحدث عن الجدل الفكري والعقدي بين مختلف الاديان
والمذاهب والاتجاهات الفكرية. لا احد يتحدث عن التوحيدي والمعري
ومسكويه وابن رشد، لا احد يتحدث عن حضارات العالم، الحضارة
الرومانية واليوناينة والصينية والاوروبية، لا احد يتحدث عن
مفكري النهضة فولتير وجان جاك روسو وديكارت وكانط وسبينوزا، لا
احد يتحدث عن اسطورة اليابان بعد ان سويت مدينتي نجازاكي
وهيروشيما بالارض، الآن اصبحت من اكبر الدول قوة اقتصادية.
لا احد يقول ذلك ولا احد يحرضهم على القراءة. بل ان التحريض يتجه
الي القراءة في طريق آخر. قراءة المنشورات والكتيبات التجهيلية
التي تطلب منا ان لا نسلم على الأيدي التي تغرس في أيدينا حقنات
الشفاء. هل يمكن أن يتطور السعوديون بهذا الإعلام؟ اعتقد ان هذا
امر مستحيل، وانما سيواصل جرّنا للخلف وللعزلة. الشيء الذي
استغرب منه حقيقة ان لا احد يلتفت للاعلام وكأنه أداة ترفيهية
وشئ غير مهم، مع انه بجانب التعليم والتربية المنزلية والمجتمعية
احد العناصر الرئيسية لصياغة التفكير، وكما انه يساهم في اغلاق
العقل وتعتيم الرؤية، فهو ايضا قادر على فتح العقل وتنوير
الطريق. مثلما قام ببناء السياجات الدوغمائية، هو قادر على فتح
الابواب والنوافذ للشمس والرياح والافكار المختلفة.
ماذا
كنا نقول، ماذا يمكننا أن نقول؟
في ذكرى اليوم الوطني، نقول ان هذا الوطن يستحق اكثر من هذا
الإعلام، وليس الامر مجرد استحقاقات وتطلعات ترفيه. ان هذا
الاعلام مضر في صحة الوطن، ومهما بدا مادحاً ومثنياً ومطبلاً لكل
كبيرة وصغيرة، فإن ما يسري في جوفه مضر لذاته ولابنائه. نقول انه
يجب ان تتم عملية تحديث وتجديد شاملة في الإعلام خارجياً
وداخلياً. تحديث في السياسات البرامجية وتحديث في الخطط وتحديث
في الوجوه وتحديث الاستديوهات وتحديث في الأفكار والتخفيف من
الرقابة الغبية تمهيدا لإلغائها، وفتح الابواب للشباب والشابات
الذين يحملون طرح برامجي جديد وحديث.
اما داخليا وهذا هو المهم فهو التحديث الفكري، عبر فتح النوافذ
لجميع الاتجاهات الفكرية لتمر أمام أعين الناس، وعدم فرض طرح
فكري واحد عليهم. من المهم ان ينعتق الطرح من شرنقة التعصب
والكراهية والانعزال والخرافة والاقصاء ليسبح في فضاء التسامح
والحرية والانسانية والعقلانية والتعددية.
الكويت افتتحت منذ فترة قريبة قناتها الخامسة، ولا يمكن بسرعة
تعداد القنوات الإماراتية، السعودية أكبر وتكتفي بإعلام محدود
جداً ومتآكل. ما المانع لو فتحت قنوات أكثر؟ هل هو أمر منطقي أن
لا يتبنى القطاع الخاص قنوات إعلامية موجهة للسعودية والسعوديين،
وتساعدهم في التخلص من موروثات عصور الانحطاط، وتمسك بايديهم
ليسيروا على خط العقلانية والتطور والتحضر، والمساهمة في صناعة
مستقبل البشرية بدلاً من تفجيره بالطائرات!.
في رمضان تنطلق القناة الأخبارية السعودية، لا نريد أمواتاً
جدداً! الاعلام عندما يموت ويدخل في الثلاجة فهو لا يتوقف عن
الذبذبة. بل يلعب دور حفّار القبور. قبور العقول.
(عن إيلاف، 24/9/2003)
|