بكائيات ألم عثمانية
الدولة السعودية تدخل عالم الإحتضار
محمد علي الفائز
لكل أمّة أجل، ولكلّ أجلٍ كتاب. دولٌ تنشأ وإمبراطوريات تنهار،
حكام يذهبون ويأتون، والدول والحضارات كما الأفراد ـ حسب توينبي
ـ تمر بشتى المراحل حتى تصل الى الشيخوخة فتموت. بعضها لا تدعه
الأقدار فيكمل شيخوخته، فهناك دول وإمبراطوريات ماتت وهي في عزّ
قوتها وأوج عظمتها وجبروتها، أو هكذا كانت الأمور تبدو من بعيد!
ثلاثة قرون من الحديث عن انحطاط الإمبراطورية العثمانية سبقت
نهايتها. فالحديث عن الإنحدار المستمر
Decline
استمرّ طيلة القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، وتطوّر
الحديث عن (رجل أوروبا المريض) الذي طالت فترة احتضاره وبالتالي
لم يكن هناك بدّ من قتله بدلا من أن يموت حتف أنفه، فكانت الحرب
العامّة الأولى التي قوّضت الإمبراطورية الى الأبد.
إن مؤشرات انهيار بلدٍ أو نظام سياسي ما، رغم وجودها ووضوحها، لا
تمنح الباحث سوى فرص التخمين في المدّة المتبقية من عمر الدولة
أو النظام. إن مفهوم (إنحدار) أجهزة الدولة يشير الى فترة زمنية
تميل فيها الأوضاع الى الضعف المستمر أو التقلص أو تكون أقل قدرة
على توفير الرضا الشعبي. من الضروري في حال استخدام كلمة
(إنحدار) أن تقرن ببعض المحددات المانعة للتعميم، بحيث يكون
المفهوم أكثر قدرة على شرح الحالة من خلال المقارنة والتي يمكن
ان تفيد كمقياس لحجم الإنحدار، والمدة الزمنية التي مرّ بها.
وفي الحديث عن الإنحدار ينبغي القول بأنه ليس مطلقاً وليس
حتمياً، فإذا ما حدد تاريخ التراجع في الدولة، فإنه قد يأتي
الإنطباع بحتمية إضمحلالها، في حين أن العلاج ممكن، وإذا ما كان
العلاج قاصراً نسبياً، فهو في هذه الحالة قد يطيل عمر الدولة دون
أن يشفيها بالضرورة. ولذا قد تطول فترة المرض دون أن تموت
الدولة، وقد يتطور المرض فينهيها. أضف الى ذلك، أن الإنحدار في
جانب من الجوانب يؤدي الى تدهور في الجوانب الأخرى. الإنحدار
الأمني يؤدي الى انحدار اقتصادي والعكس صحيح أيضاً، والأخير يقود
الى انهيارات اجتماعية وخدمية، وهكذا. فالإصلاح كما الفساد أشبه
ما يكون بعملية متواصلة مترابطة الأجزاء من جهة التأثير والتأثر.
وفي حين يطلّّ الباحثون على الأوضاع من زوايا عليّة ويقاربونها
قدر الإمكان بمنهج أقرب الى العلميّة، ينخدع الكثيرون بمظاهر
الإستقرار التي تطفو على السطح أحياناً، أو لا يقدّرون حجم
المشكلة القائمة، وتجذبهم مظاهر السلطة والقوة، من أمنٍ وجيش
وغيره. بعض الصحافيين الأجانب كما كثير من المواطنين العاديين
وحتى المطبّلين لنظام الحكم، لا يقرأون أو لا يستطيعون قراءة ما
تحت السطور، وقد لا تسعفهم الأرقام ـ خاصة في بلد كالمملكة التي
لا يوثق بإحصاءاتها الرسمية ـ في تشكيل صورة واقعية عن الوضع
القائم، الذي غالباً ما يكون ظاهره مختلفاً بنسبة كبيرة عن
واقعه. ولهذا، يفاجأ من يفاجأ حين تضطرب الأوضاع في بلدان بين
ليلة وضحاها، فتتراكم الغيوم بعد أن كان الجوّ صحواً، وتظهر
أصوات العداء والمعارضة بعد أن كان الجميع يتوقع أنها أُخمدت أو
أنها غير موجودة، وينكشف الكثير من الماضي السيء الذي كان سبباً
في توتر الجو السياسي أو الإنقلاب غير الطبيعي في الأوضاع.
الذين يحذّرون من نهاية النظام السياسي بل مشروع الدولة بأكمله
في المملكة، كما نفعل نحن هنا، لا يستهويهم التبشير بنهاية نظام
يجب أن (يتقاعد) أو مبالغات حاقدين حاسدين ـ حسب التعبير الرسمي
ـ يروجون الإشاعات ويبثون روح التخذيل. من حسن الحظ، أن من
يميلون للحديث وربما البكاء على مصير الدولة (المحتوم) هم من
النخبة اللصيقة والدائرة الضيقة أو المتعاطفين بشكل كبير مع
(الوضع القائم) والمتصالحين معه. أمثال هؤلاء، بدأت نغمات
كتاباتهم تتخذ طابع الحزن والألم والشعور بالعجز في إمكانية
إنقاذ الأوضاع، وفي إقناع المسؤولين الكبار بالتجديد والإصلاح
قبل أن يقطع الوقت الدولة بسيفه فيمزقها إرباً إربا.
وكما في الإمبراطورية العثمانية، انبرى مجموعة من المخلصين في
كشف عيوب الحكم وكتبوا رسائل وتقارير الى السلاطين يحذرونهم من
النهاية، من حسن الحظ أن العديد منها نشر، وكان اولئك يقرأون
الحاضر فيرون المستقبل. واليوم هناك من يقدم النصح الحذر مشافهة
وكتابة وسراً وعلانية، وسواء من المصنفين ضمن الأصدقاء والمحبين
المقربين من الدائرة الضيقة للحكم، أو من المحايدين أو حتى من
يصنفون كمعادين ومعارضين.. كل هؤلاء يتفقون على تشخيص الداء
وتحديد الدواء كما ويتفقون على أن عواقب الإهمال هو نهاية للمريض
(الدولة).
تشابه
التجربتين العثمانية والسعودية
ونحن هنا حين نطرح ملف انكسار الدولة السعودية، ونقاربه بحذر
بالإمبراطورية العثمانية، فلأنّ التشابه بين الإثنين في النشأة
والظروف والمشاكل قد تجعل من المصير متماثلاً أيضاً. فكلا
الدولتين نشأتا بصفة إمبراطورية، أي قامتا على الحرب والتوسّع
ومبررات دينية. وكلا الدولتين ـ رغم اختلاف الظروف ـ واجهتا أزمة
(الوطنية ـ القوميّة) وبالخصوص مسألة التحوّل أولاّ من دولة
إمبراطورية الى دولة ـ وطنية قطرية، ومسألة إعطاء أهمية للروح
الوطنيّة والمشاعر الجمعية، والتعاطي مع الأثنيات والهويات
الأخرى وفق روح عليا. قيل أن أحد أسباب نهاية الإمبراطورية
العثمانية هو تفشي الروح القومية بين سكانها، تلك الروح كانت
مؤسسة على عناصر ثلاثة مهمة: الدين ـ العرق ـ اللغة.
وبالرغم من أن الدولة السعودية مضى على الإعتراف بها كدولة قومية
أكثر من سبعين عاماً (منذ إعلانها في سبتمبر 1932).. فإن روحها
ونزعتها الإمبراطورية لاتزال طاغية حادّة جارفة، تستطيع معرفة
ذلك من خلال موقع الدين/ المذهب الرسمي كمبرر ومشرعن للحروب
(الجهادية) ضد الآخر في الداخل والخارج، وأيضاً من خلال التركيز
غير الإعتيادي على مكانة العائلة المالكة ـ كما في الإمبراطوريات
عادة ـ ودورها الذي لا يبقي لأحدٍ دوراً في مركزية السلطة. يضاف
الى ذلك، فإن الروح الإمبراطورية تتعارض ـ كما هو واضح في
التجربة السعودية ـ حتى مع الحدود الدنيا من المشاعر الوطنية أو
القومية التي يمكن أن تحفظ الدولة من الزوال.
الدولة السعودية اليوم لاتزال في مرحلة انتقالية نحو الدولة
القطرية، ولاتزال عناصر التمكين الإمبراطوري التي ظهرت في بدايات
القرن العشرين تمارس فعلها ونحن في مطلع القرن الواحد والعشرين،
بحيث أنها ترفض ما قبله العثمانيون في منتصف القرن التاسع عشر في
فترة الإصلاحات (التنظيمات) التي ظهرت في عهد السلطان عبد
المجيد، سواء إصلاحات كلخانة المقرة في 4/11/1839، أو إصلاحات خط
همايوني المقرة في 18 فبراير 1956، تلك الإصلاحات التي أقرت
المواطنة والمساواة في الضرائب والتمثيل لمختلف الطوائف والأديان
في الحقوق والواجبات، خاصة في التمثيل الإداري المحلي ومن ثم
العلوي في السلطة. وكذلك إشراك الجميع في الجيش والمدارس
الحكومية، وإقرار حرية ممارسة الشعائر الدينية والتأكيد على
الولاء للدولة وغير ذلك.. في حين يصرّ السعوديون الى يومنا هذا
على منهج الإستئثار بالسلطة، ليس للعائلة المالكة فحسب، بل لنجد
التي تمثل الخلفية الاجتماعية المهيمنة، ولايزال التمييز الطائفي
ـ يشابه تمييز القرون الوسطى ـ ويشمل مسلمين لا ذميين، استدرك
العثمانيون ذلك فألغوا الجزية ضمن إصلاحاتهم. في حين وحتى
الثلاثينيات الميلادية من القرن العشرين كانت فئات عديدة من
المواطنين في المملكة تدفع ضرائب هي بالضبط تحمل معنى الجزية
وتقوم على فلسفتها، كضرائب الرقبية والجهادية والروسية!
يكفي أن ندرك بأن العائلة المالكة العثمانية! نجحت وبشكل أكبر
بكثير من نظيرتها السعودية في السمو على كل الإنتماءات في الدولة
وتأكيد مرجعيتها بقليل من التحيّز. نشير للتدليل على ذلك، أن نحو
نصف رؤساء وزراء (الصدر الأعظم) الإمبراطورية كانوا عرباً
ويونانيين وألبان وغيرهم من القوميات التي تتشكل منها
الإمبراطورية. حتى مفتي الامبراطورية، كان الكثير منهم غير
أتراك، بل أن لفظة (تركي) كانت تطلق على سكان الأناضول من
المزارعين، وكانت تستخدم للتعبير عن السخرية والإستهزاء بالآخر.
واستمر هذا حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر!
الغريب أن تهمة التتريك التي جاءت للعثمانيين ما بعد فترة انقلاب
1908 على السلطان عبد الحميد والتي لم تمارس إلا في العقد الأخير
من عمر الإمبراطورية، نرى أسوأ منه يمارس بعد مائة عام في أكثر
من بلد عربي، حيث النزعات الإقليمية والطائفية حاكمة،
ولاتزال السعودية الى اليوم، وهي التي تعد نفسها في تناقض تاريخي
مع السلاطين العثمانيين على أرضية دينية، وخاضت معهم حروباً
دينية، لاتزال تعتمد على الفئوية النجدية والمذهبية كعنصر تغليب
في إدارة الدولة واستمرارها.
الأكثر إدهاشاً من حيث المقارنة بين العثمانيين والسعوديين، أن
محاولات الإصلاح والتجديد في جسد الدولة العثمانية لم يتوقف منذ
لاحت بوادر الضعف والتراخي، وقد اتخذت في البداية طابعاً عسكرياً
باعتبار العسكرية ميداناً قابلاً للإنكشاف في الحروب، ويظهر فيه
الضعف. ففي عهد السلطان عبد الحميد الأول (1773-1789) وبعد هزائم
تعرض لها العثمانيون أحدث تنظيمات جديدة في الجيش، واستحدث كلية
هندسة عسكرية، وأنشأ وحدة مدفعية، وعدداً من مصانع السلاح
والمدافع. وفي عهد خلفه سليم الثاني (1789-1807) استمر في إصلاح
الجهاز العسكري، وجهز أحواض صناعة السفن، وعمل على التخلص من
الجيش الإنكشاري فتآمر رجال الدين مع قيادات الجيش وقتلوا
السلطان! ثم جاء السلطان محمود الثاني (1808-1839) الذي نجح في
التخلص من الإنكشارية، وانطلق في الإصلاح الى ما أبعد من العسكر،
فأنشأ المدارس، والوزارات، فكانت كل تلك الإصلاحات توضع ضمن
مبررات وفلسفة دينية شأنها شأن إصلاحات خلفه السلطان عبد المجيد.
لم تطرق الإصلاحات المباشرة في الميدان السياسي، من جهة وضع
الدستور والإنتخابات الا في عامي 1876، 1877 على التوالي. لم
تستخدم لفظة الدستور، وإنما القانون الأساسي، لنفس الأسباب التي
واجهت السعوديين في التسعينيات الميلادية من القرن العشرين أي
بعد أكثر من قرن من إصلاحات العثمانيين، حين وضعوا ما أسموه
بالنظام الأساسي. فلفظة الدستور ارتبطت بالقانون الوضعي، وكلا
الدولتين قامتا على أساس ديني ـ جهادي، ولم تكونا قادرتين ـ كل
حسب ظرفه التاريخي ـ إلا أن تضعا التغيير في الإطار الديني
والإبتعاد عن المسميات المثيرة.
في عهد السلطان عبد الحميد، شهدت الإمبراطورية إصلاحاً ثقافياً
وتعليمياً واقتصادياً يكاد يكون شاملاً، لكن الحراك السياسي توقف
بعد عام من انتخابات 1877، حيث تعطل الدستور فعلياً حتى عام
1908، وكأن التجربة السعودية تأبى إلاّ ان تتماشى مع أختها
العثمانية، فمجلس شورى الحجاز مات دون أن يعلن نعيه في الصحف،
منذ قيام مجلس الوكلاء ومن ثم مجلس الشورى، وبعد نحو نصف قرن قال
البعض أنه تمّ (إحياء) مجلس الشورى السعودي المعيّن، وأن الشورى
لم تغب عن المملكة طيلة العقود الماضية وإنما هي مجرد إعادة
تشكيل وتنظيم لا أكثر.
غير أن التطورات الإقتصادية والتعليمية والثقافية وفي المواصلات
والإتصالات، لم يصاحبها إيجاد أقنية سياسية موازية يمكنها امتصاص
آثار التنمية الإقتصادية وتضخم الطبقة الوسطى، فكان انقلاب 1908
على عبد الحميد. السعوديون من جهتهم واجهوا مشكلة شبيهة
ولازالوا، فالتنمية الإقتصادية المقطوعة عن السياسة أو التي أريد
لها أن تكون بديلاً عن التنمية السياسية والإصلاح السياسي، تلك
التنمية فشلت في إلغاء الحاجة الى الإصلاح السياسي، وإن نجحت الى
حين في تأجيله، ولكنها بعد توقفها ـ أي التنمية الإقتصادية ـ فإن
الإصرار على غلق الأبواب السياسية كما في الماضي أمرٌ يشير الى
جهل بل الى مقامرة بمستقبل الدولة ونظام الحكم نفسه.
وفي حين تبدو محاولات العثمانيين واضحة في الإصلاح، فإن
السعوديين لم يشهدوا لحظة إصلاح أو مراجعة إلاّ تلك اليتيمة
والمحدودة أيضاً، التي جاء بها فيصل عام 1964. أثبت الأمراء
السعوديون أنهم إما أقلّ إدراكاً بواقع الأزمة التي تمرّ بها
دولتهم، وإما أن يكون استرخاؤهم الظاهري سببه الإستسلام القدري
بسبب الشلل التام في إدارة زمام الدولة.
ومثلما وجد سلاطين آل عثمان في المؤسسة الدينية عقبة أمام
الإصلاح، فإن آل سعود أنفسهم وجدوا ذات الأمر، مع فارق مهم بين
الإثنين هو أن الأخيرين لم تكن لديهم محفزات الإصلاح مثلما كانت
لدى العثمانيين. وإذا كان الأخيرون لم ينجوا من تبعات تأخير
الإصلاح السياسي، فانتهوا فعلياً بثورة العسكر، وانتهت
امبراطوريتهم بالضربة العسكرية القاضية، وقامت دولة علمانية
متطرفة مشوّهة في ردّة فعل حادّة على الماضي، لم تزد الأتراك
إلاّ تخلفاً على تخلف!
مصادر
الضعف والهرم
منذ بضع سنوات والمملكة تسير في طريق الإنحلال، وكان كثير من
المراقبين يخشون التصريح بهذا (التقييم) خشية الإتهام بشتى
النعوت والأوصاف. لكن المملكة بدأت فعلاً تواجه مصيراً مظلماً،
وكأن عمرها الإفتراضي قد انتهى، وكأن عوامل التحلل قد استكملت
وتنتظر الركلة الأخيرة أو الخطأ الأخير فتسلم الروح.
يمكن تقسيم الدولة السعودية الحديثة الى ثلاث مراحل:
ـ مرحلة الطفولة، وقد طالت كثيراً واستمرت نحو ستة عقود
1902-1962. فالدولة نمت في مرحلة الطفولة بسرعة فائقة ولكنها لم
تخرج منها إلا في أواخر عهد الملك سعود.
ـ مرحلة النضج 1962-1975، وهي مرحلة حكم الملك فيصل، والتي
استكملت فيها اجهزة الدولة وأعيد الإعتبار لها مقابل الشخصنة
الشديدة، وهي الفترة التي استكملت فيها الدولة شخصيتها المحلية
والإقليمية والدولية، والتفتت الى إمكانياتها.
ـ مرحلة العجز والتخريف والإنحدار 1975-2003، وهي الفترة التي
سيطر فيها الملك فهد على الحكم، كولي عهد خالد، أو كملك في عام
1982، وسارت فيها الدولة بغير هدى، أدت الى تراكم أخطائها على
الصعد الداخلية والخارجية وانفجارها الواحدة تلو الأخرى، كما نرى
ذلك اليوم. وبالرغم من أن الكثير من المواطنين يعتبرون الفترة
1975-1982 فترة انتعاش ووفرة مالية عالية، إلاّ ان تلك الوفرة
المؤقتة لم تكن دلالة صحة وعافية، بل العكس تماماً.
ما لذي يجعل المراقب يميل الى هذا النوع من التحليل المتشائم؟
ألا توجد مظاهر للنهاية؟ أدلّة أو إشارات الى المأزق والخطر؟.
بالطبع. فالسعودية كدولة نصف امبراطورية، حسب تعبير وزير المياه
الدكتور القصيبي، مصابة بأمراض يرى الكثيرون أن لا دولة تسلم
منها، كالفساد والرشوة، والمحسوبية وغياب الشورى والنزعة الأمنية
المسيطرة على الدولة وفساد الجهاز الأمني والعسكري أو ضعفهما،
والإمتيازات الأجنبية التي تدفع عبر طرق مختلفة لا تبدو
كامتيازات، إضافة الى فساد الجهاز الديني، وتفشي الإضطرابات
الأمنية وتعيين غير المؤهلين وغير الأكفاء في المناصب، وتدخل
الحريم والأبناء بشكل مباشر في شؤون الدولة والعبث بمقدراتها،
الى آخر الأسباب التي هي داخلية بالدرجة الأساس وأكثر أهمية من
التهديدات الخارجية.
لكن قد يظهر، كما في التجربة العثمانية، وكذلك التجربة العراقية
الحديثة، أن الدول قد تستطيع التغلّب على المصاعب الداخلية (وليس
بالضرورة حلّها) ولكن التهديد الخارجي هو الذي يحسم نهايتها.
بمعنى أن الدولة السعودية، حتى وإن استطاعت تجاهل أزماتها
الداخلية فإن الأزمة الخارجية التي فجرتها أحداث سبتمبر 2001
ستبقى تلاحقها وتقدم المبررات لمن يريد إفناءها.
مصادر ضعف الدولة السعودية، ولسخرية الأقدار، هي ذاتها التي كانت
في يوم من الأيام مصدر نعمتها:
الوهابية:
وفرت عصبية الدولة الدينية، وشرعية حروب نجد واحتلالها للمناطق
الأخرى، وبعد قيام الدولة أصبحت المذهب الرسمي. لكنها اليوم عامل
نقض لبنيان الدولة، مهما تراءى للناظر أنها عنصر قوة له. فهي
أداة تمزيق للمجتمع، وأداة تعويق للتطور والتجديد والإصلاح،
وأداة تأجيج للعنف، وهي فوق هذا توفر أهم مسببات عجز
الإمبراطورية السعودية من التحول الفعلي الى دولة قطرية حقيقية.
بسببها، لم تحسم سيادة الدولة فوق الرؤية الدينية والمذهبية، ولم
يحدد دور المؤسسة الدينية. ومن خلال التجربة، فإن المؤسسة
الدينية في العهد العثماني كانت تشكل العصب المحافظ لجهاز الدولة
بالتحالف مع الجيش الإنكشاري، وكان السلاطين يخشون الطرفين، وحين
بدء بالإصلاح إعترض التحالف الإنكشاري الديني وتآمرا على السلطان
سليم الثاني وقتلاه. إن أي إصلاح منتظر في الدولة السعودية،
ستكون المؤسسة الدينية الوهابية قلعة معارضته، ومن خلفها ستصطف
كل القوى المتضررة من التجديد. عاجلاً أم آجلاً، ستجد العائلة
المالكة نفسها، إما أن تختار المذهبية الوهّابية أو استمرار
الدولة موحدة. تنبّه التجربة العثمانية الى أن النزعة
الايديولوجية للدولة كانت عائقاً امام تحوّل الدولة العثمانية من
أمبراطورية الى دولة شأنها شأن كثير من الامبراطورية التي كانت
تفصل بين الوطن الأم والمستعمرات فيما كان الحال بالنسبة
للإمبراطورية العثمانية خلاف ذلك، حيث كانت تنظر الى كافة
الأقاليم الخاضعة للسيطر العثمانية وطناً عثمانياً، والسبب في
ذلك ان الادلجة الطاغية على سلوك العائلة العثمانية حرمتها من
الانتقال الى دولة قومية تعتمد على مبادىء المساواة والعدل
والانصاف والتوزيع المتكافىء للثروة والسلطة بين المناطق.
العائلة المالكة:
نجحت، كقيادة سياسية، في صناعة الدولة، ولكنها شأن المذهبية
السلفية لم تستوعب معطيات ما بعد قيام الدولة. فإذا كان التفسير
الوهابي الجامد لم يتغير منذ قرنين، ولم تؤثر فيه التغيرات
السياسية الهيكلية، فإن العائلة المالكة نفسها تسير على نفس
الدرب. إنها تتعامل مع الدولة كما تعامل ملوك القرون الوسطى في
اوروبا مع دولهم. إنها تتملك ـ بالمعنى الحرفي للملكية ـ الدولة،
ولهذا حق للبعض أن يسمي الدولة السعودية بأنها
Familial State
وأن إصلاح الدولة يتطلب إبتداءًا تغييراً في ملكية الدولة من
الأمراء الى الشعب
Changing Ownership!
ومشكلة العائلة المالكة أصبحت أكثر عمقاً، فالعصبيّة العائلية ـ
وضمن المنظور الخلدوني ـ بدأت بالإنحلال والضعف منذ أن تكاثر عدد
أمراء العائلة المالكة، حتى كادوا يشكلون مدينة صغيرة بحالهم
(نحو 30 ألف أمير وأميرة)، يصعب في الوقت الحالي إرضاؤهم
بالمناصب، أو إشباع نهمهم من خزينة الدولة، أو التحكم بتصرفاتهم
وتجاوزاتهم التي تصيب المواطنين الآخرين. العائلة المالكة يجب أن
تتحلّل من كثير من أعضائها، وهو مشروع مطروح منذ السبعينيات من
القرن الماضي ولم يبت به، فلا عائلة بهذا الحجم تستطيع أن تبقى
متماسكة، ولا تماسك إلا على حساب الدولة والمجتمع وحقهما في
العيش الكريم. إن ما تحدث عنه إبن خلدون في موضوع تفكك العصبية،
ومن ثم (الإنفراد بالمجد) اي الإستئثار بالسلطة في أعقاب
تحصيلها، حدث ليس على مستوى حلفاء العائلة المالكة، بل بين أجنحة
العائلة المالكة نفسها، فاستثنيت أفرع عديدة، وألغي حقها في
الحكم، كما أن أبناء عبد العزيز أنفسهم في صراعهم على الحكم قد
يبدد السلطة من بين أيديهم، وقد يخرج التحزبات القائمة الى
خارجها شعبياً أو الإستقواء بقوى خارجية كما تشير بعض الأخبار.
من أوجه الشبه الهامة بين التجربتين العثمانية والسعودية، أن
الدولة ومصيرها ارتبطا بإسم عائلة مالكة، وأن ازاحة الأخيرة يؤدي
تلقائياً الى ازاحة الدولة. ينضاف الى ذلك تضخم السلطة وإحتكارها
بيد فئة محدودة داخل العائلة المالكة حرم فرص الاندماج والتمثيل
السياسي للأقاليم في الحكومة المركزية. مع فارق، أن عدد أفراد
العائلة المالكة العثمانية كان قليلاً ولذلك لم يتولَ من العائلة
العثمانية مناصب في الولايات، والجيش، والسفارات كما يفعل أمراء
العائلة المالكة السعودية، حيث تمدد سلطانها الى كافة قطاعات
وأجهزة الدولة بما في ذلك السفارات في الخارج.
النفط:
هو لحمة الكيان السعودي، حسب نداف سفران، وهو الذي منح الدولة
جهازاً متضخماً والأمراء سلطة فائقة التركيز، والدعوة المذهبية
الوهابية انتشاراً عالمياً يفوق حجمها وقدرتها على الهضم! نعمة
النفط بدأت بالتحوّل الى نقمة. باختصار شديد، فإن الكثير من
الثورات والإنفجارات الشعبية إنما تمت بعد انكسار مفاجئ في الوضع
التنموي والإقتصادي، ولقد أدى تقلص المداخيل للأفراد، الى نشوء
أزمة في كل بيت، خاصة وأن الدولة اليوم أصبحت عاجزة، رغم عوائد
النفط الوفيرة، عن إدارة الأزمة الإقتصادية. ومن هنا فإن محاسبة
الجمهور للنظام لا ترحم، ولا تقبل بأي مبرر أن تكون هناك ما يقرب
من 37.8% بطالة بين الذكور، وعدم قدرة على توفير الحد الأدنى من
الخدمات التعليمية والصحية وغيرها. الفشل الإقتصادي، له وجه آخر،
وهو عدم شمولية التنمية، وعدم توازنها مناطقياً. وهذا أدّى الى
تعميق روح انشقاقية عن الدولة، تستند الى مبرر أن مداخيل النفط
ينتجها مواطنون محرومون وينعم بها مواطنون أثيرون لدى السلطة.
وحين تقلصت مداخيل النفط، ضاق عدد المستفيدين، وضاقت دائرة
الولاء التي تعتمد (الشرهات) والمناصب وغيرها. ولقد كان ربط
الولاء السياسي بما تقدمه الدولة من خدمات أو من إمتيازات ـ
بالنسبة للبعض ـ أضعف حسّ الإنتماء الوطني من جهة، وعرّض الولاء
السياسي لنظام الحكم لتحدّي السوق، عرضاً وطلباً!
قد يدعم الوضع الإقتصادي الحالي دعوات الإنفصال، إما للحصول على
جزء أكبر من الغنيمة، أو لأن الوحدة السياسية لم تعد جالبة
لمنافع إقتصادية ذات شأن. بالإضافة الى ذلك، فإن التدهور
الإقتصادي الإجتماعي الحالي، انعكس على الأرض جريمة منظمة
ومسلّحة وسخطاً شعبياً عارماَ ضد الحكم السعودي، وأيضاً انعكس
على شكل عنف سياسي متصاعد، وشرعية نظام حكم تسير نحو التناقص
والتآكل بشكل سريع.
الدعم الدولي:
كان للعائلة المالكة منذ نشأتها رصيد كبير بين القوى الدولية
الكبرى، بريطانيا ومن ثم أميركا. وقد وفرت هذه القوى مظلة حماية
للنظام السياسي، وأبعدت عنه شروراً كانت قد تطاله من القوى
الإقليمية أو بعضاً من النار بسبب الإهتزازات السياسية المجاورة.
لكن حماة النظام السعودي، انقلبوا كليّة عليه، فيما يبدو،
فالحامي ليس فقط تخلّى عن حمايته، بل أصبح يمارس مهمة تهديد
النظام السعودي نفسه. بريطانيا وأميركا اليوم، لا يهمهما استقرار
النظام السعودي، ولن يكونا قلقين من إمكانية رحيله، إن لم يكونا
مستعجلين في تحقيق ذلك في أقرب فرص تسنح.
الفشل
في التجديد والإصلاح
ليست المشكلة أن السعودية كدولة تواجه مشاكل متفاقمة. بل
المشكلة الحقيقية أنها غير قادرة على حلّها أو مواجهتها أو حتى
تجميدها والسيطرة عليها. قد يكون السبب غياب في الإرادة السياسية
وعدم الرغبة في التجديد أو الإصلاح، وقد يضاف الى ذلك قصوراً
وعدم قدرة على الحل، أو عدم فهم ووضوح منهجية الحل لدى صانع
القرار السعودي.
لعل طبيعة النظام المحافظة، والمظلّة الأمنية الأميركية المنصوبة
لعقود طويلة، جعلتا صانع القرار السعودي يسترخي كثيراً وهو يرى
المشاكل متصاعدة، فهو اعتقد بأن مدى خطرها محدود، وشعر بثقة
مبالغ فيها بقدرته على مواجهتها وحلّها، خاصة تلك ذات الطابع
الإقتصادي. المشكلة السياسية بدت وكأنها وليدة أزمة إقتصادية،
بسبب تراجع أسعار النفط في منتصف الثمانينيات، لكن رغم تحسن
الأسعار لم تخف الأزمات. فالأزمة السياسية جنباً الى جنب
شقيقتيها الإقتصادية والأمنية، تشكل حلقات مترابطة تضيق الخناق
على نظام الحكم والمواطن معاً.
بين نظام الحكم والتجديد والإصلاح مسافة ذهنية وزمنية بعيدة. منذ
زمن بعيد، قليل من التجديد طرأ على الخطط والسياسات والوجوه
والمناهج في كل أجهزة الدولة تقريباً. فالجمود صفة تستحق أن توصف
بها المملكة بجدارة. الوجوه التي حكمت المملكة في الستينيات
الميلادية الماضية هي نفسها الحاكمة اليوم، وكذلك العقول
والأفكار وذات الخطاب الديني والسياسي الذي ينتمي لقرون عديدة
خلت. لهذا السبب فإن استجابة الحكومة السعودية لمتطلبات الإصلاح
جدّ متأخرة وجدّ بطيئة الى حدّ يمكن القول معه بأن استجابتها
المحدودة تعني بالفعل لا استجابة.. وإنما هي ترحيل للمشكلة الى
المستقبل. وفيما وصلت البلاد الى طريق مسدود، صار مطلوباً إصلاح
هيكلي وشامل وسريع يعوّض عن التأخير ويطوّق المشاكل. ولكن
الأمراء يرفضون هذا النوع من الإستحقاق السياسي، ويريدون البدء
من درجة تحت الصفر، في عملية يقولون أنها متدرجة نحو الإصلاح،
وحتى هذه الخطوة لم يبدأوا بها، ولا يبدو أنهم سيبدؤون قريباً
بأي خطوة إصلاحية، على الأرجح بسبب الشلل الذي أصاب القيادة
السياسية وأقعدها عن اتخاذ القرار.
السؤال: لماذا اكتشف عجز الحكومة متأخراً، لماذا اكتشف ضعفها
وقلّة حيلتها في مواجهة العنف خلال العامين الماضيين فحسب؟ لماذا
فوجئ كثيرون بالتدهور غير المسبوق على مختلف الأصعدة السياسية
والأمنية والإقتصادية وبسرعة أذهلت الكثيرين؟ من كان يحلم بأن
المملكة تنطوي على بطالة محيّرة في عددها وأسبابها؟ من كان يتصور
بأن تتحول شوارع العاصمة بين ليلة وضحاها الى مصائد للموت والقتل
والتفجير؟ من كان يقرأ المستقبل فيتوقع أن توجه السلفية أعنف
ضرباتها لأميركا ولنظام الحكم نفسه، في انقلاب لم تمهد الحكومة
نفسها له، ولاتزال مصدومة بآثاره؟ وأخيراً من كان يتوقع أن تنتقل
أميركا من خانة الصديق الحامي الى العدو المهدد؟ ترى هل كانت
قراءتنا للماضي ناقصة؟ هل حجبت غلالات الجهل والتضليل والدعايات
الفجّة عن أعيننا حقيقة أوضاع كانت تحث الخطى نحو الإنفجار، سنين
طويلة قبل أحداث سبتمبر، التي كانت مجرد تجلياً لجانب واحد من
الإنحدار والإنحطاط؟ هل فقدنا أدوات التحليل المنهجي الذي كان
يمكن أن يعوض نقص المعلومات والإحصاءات والأرقام التي تضنّ بها
الحكومة على إعلامنا المحلي، ولا نقول على مراكز الأبحاث التي لا
نملك منها واحداً؟!
يميل البعض الى أن انحدار الأوضاع بدأ منذ نوفمبر 1979، وهو عام
احتلال الحرم المكي الشريف، وانتفاضة الموطنين الشيعة في الشرقية
ضد التمييز الحكومي الطائفي، وهو عام انتصار الثورة في إيران
وسقوط الشاه، وهي فترة إحتلال الروس لأفغانستان، وهو عام إطلاق
الوهابية من عقالها لتتغوّل داخلياً وخارجياً عبر المراكز
الإسلامية والحرب في أفغانستان ومن ثم الحرب في العراق. لم تتصف
القيادة في المملكة بأي حكمة ونحن نشهد اليوم نتائج معالجاتها
لأحداث 1979. لقد عالجت مشاكل المجتمع (بالتي هي الداء): مزيد من
التنكّر للإصلاحات، والمزيد من جرعات التطرف الطائفي، والمزيد من
العبث بمقدرات الدولة التي بدأت منذ 1982 تشهد عجزاً سنوياً
لازمها طيلة عشرين عاماً، عدا ميزانية العام الماضي.
آخرون يؤرخون بداية الإنحدار والتراجع في الأوضاع السعودية، بعام
1991، عام حرب الخليج الثانية، فقبلها غزا صدام الكويت، وهدد
حلفاءه السعوديين الذين لم يقرأوا خارطة السياسة العراقية ـ
الإيرانية جيداً. ففقدت المملكة معظم مدخراتها المالية لتمويل
الحرب على العراق، وفقدت ـ وهو الأهم ـ جزءً كبيراً من شرعية
حكومتها، وسقطت الدولة والعائلة المالكة في امتحان التحدّي
الإصلاحي الذي تمخض عن فأر صغير للغاية عام 1993! وفشلت الدولة
في الإيفاء بوعودها للحركة الإصلاحية التي فاوضتها في سبتمبر
1993 للتخفيف من غلواء الطائفية ضد المواطنين الشيعة. ومنذ الغزو
العراقي للكويت، تعرض المجتمع السعودي لجرعة ضخمة من المعلومات،
بل من الصدمات أيضاً، كشفت له هزال الدولة، وهزال القيادة، وهزال
الجيش الذي كان ولايزال يستقطع ما يقرب الأربعين بالمائة من
ميزانية الدولة. نقلت أحداث الغزو العراقي للكويت وما تلاها
المجتمع السعودي الى آفاق رحبة من التسييس، واختزلت له مسافات
التضليل والتجهيل لأول مرة في تاريخه، في حين بقيت أدوات الإعلام
وكذا الخطاب الرسمي على حاله، غير مقنع وفاشل. أيضاً تبع الغزو
انهيارات اقتصادية، حيث أصبحت ملامح الأزمة الإقتصادية في البلاد
أكثر وضوحاً، وأصبحت الحاجة الى الحلول السياسية أكثر حراجة، وقد
فشلت العائلة المالكة في تحقيق الإثنين ولازالت بعد عقد من
الزمان تسير من سيء الى أسوأ.
كان يمكن قراءة حادثة الغزو العراقي للكويت كنقطة تحوّل في
المزاج والوجدان الشعبيين، ومسار السياسة السعودية الداخلية كما
الخارجية كان يجب ان يتماشى مع التحول الجذري ذاك. لكنه الغرور،
والجهل، والإعتداد الكاذب والخارق بالنفس، هو الذي جعل الأمراء
لا يبالون برضا (العامة) وصلاح الأحوال. وأثبتت الأيام أن تلك
الظروف السياسية والإقتصادية التي أعقبت حرب تحرير الكويت كانت
الخميرة التي تفجّرت منها حوادث العنف والإختلال الأمني والسخط
العام. واجهت الحكومة كل ذلك بوعودها المعروفة: اعتراف بأن
البلاد بحاجة الى الإصلاح، وأن الإصلاح مستمر منذ قيام الدولة!
وحتى الآن، وأن الأمراء مع الإصلاح، بل يزايدون على الإصلاحيين،
وفي الختام لا شيء تغيّر حتى تلك الخطوة الصغيرة في طريق الألف
ميل.
أحداث 11 سبتمبر 2001، ما كان لها أن تفاجأ السعوديين بشكل خاص،
فهو نتاج زرعهم، بعد عقود من التربية المتطرفة، وكان لا بد أن
ينفجر الحصاد بوجههم. أما من يفاجأ بتفجيرات مايو في الرياض،
فيستحسن أن يقرأ التاريخ السعودي الحديث: ابتداءً من ثورة
الإخوان في أواخر العشرينات الميلادية الماضية، الى مصادمات
الستينيات حول التلفزيون، الى أحداث جهيمان أو السبعينيات، الى
مواجهات التسعينيات. ففي كل مقطع تاريخي تعودنا اعتماد سياسة
(الأسبرين) الحكومية أو إن أحسنا الظن سياسة (تقليم الأظافر).
كان التطرّف في المملكة يصنّع محليّا، فإذا فاض عن حدّه تمّ
تقليم أظافره وبنفس الوسائل المعتادة منذ بداية القرن، وها هم
يكررونها اليوم، في عمل تكتيكي لا يبعد الشرور ولا يستفيد من
دروس الماضي.
أهمية إنعطافة أحداث سبتمبر كونها استدعت العنصر الخارجي، بالرغم
من كونها نتاج لمشكل محلي، وضربت أسفيناً في العلاقات السعودية
الأميركية، وأوصلت المشكل الداخلي السعودي بنظيره الخارجي،
وربطتهما معاً الى حد مقاربتهما في الأهمية. ولكن يمكن النظر الى
الحدث كنقطة تحوّل بغض النظر عن مسبباته. التحوّل المنتظر بعد
زلزال 11 سبتمبر لم يحدث شيء منه، مثلما الكثير من الأحداث
السابقة التي مرت بها الدولة دون أن تستلهم منها عبرة تتجاوز بها
الأخطاء. ولكن في هذه المرّة تختلف المسائل بأن البلاد وصلت الى
وضع حاسم: إما أن تتخذ العائلة المالكة قراراً بالإصلاح السريع،
فتزداد احتمالات بقاء الدولة واستمرارها، وإما أن تتوقف أو ترفض
أو تسوّف وتؤجّل، وفي ذلك نهايتها. خلافاً لأحداث الماضي، الوقت
لا يخدم العائلة المالكة، والجمهور الساخط كما العنف اللاهب كما
الضغوط الغربية لا تنتظر، بل لا تستطيع الإنتظار والمزيد من
التلاعب بالوقت.
أول ما يتبادر من أسئلة يدور حول الكيفية أو الشكل الذي سيأخذه
انهيار الدولة. لا أحد يعلم على وجه اليقين كيف ستسير الأوضاع
المحلية وإفرازاتها: فالعنف مستمر وآخذ بالتصاعد، ويحتمل أن
السيطرة عليه صارت مفقودة. كذلك الوضع الإقتصادي، حيث الإجماع
على أن هناك يأساً من تغلب الحكومة على مصاعب البلاد الإقتصادية،
أما الوضع السياسي فمسدودة معابره ومخرجاته الإصلاحية أو
التنفيسية. شرعية الدولة في إنحدار، وسخط العامة في تصاعد، وجهاز
الدولة البيروقراطي بدأ منذ سنوات (وقد كتب بعض الصحافيين عن
ذلك) لم يعد يخدم العموم وإنما الفئوية المناطقية والمذهبية.
بسبب التجربتين الحديثتين الأفغانية والعراقية، هناك من يعير
العامل الخارجي أهمية بالغة ويتحدث عن ضربة قاصمة أميركية قادمة
للحكم السعودي وللدولة السعودية، تمزّقها شرّ ممزّق. هذا العامل
ـ للحق ـ هو الأكثر إخافة للأمراء السعوديين، الذين يثقون
بقدرتهم الأمنية في مواجهة الإنشقاقات المحلية، مهما بلغت من
قوّة، ولكنهم يشعرون بحراجة موقفهم مع القوى الخارجية حتى تلك
الصغيرة المجاورة.
لكن انفلات الشارع وارد، وهو ما كان يروج له بعض المعارضين منذ
نحو عامين!
ايضاً، من المحتمل جداً أن يتحلل جهاز السلطة، فلا يستطيع
الإيفاء بمتطلبات المواطن الأولية كتوفير الحماية، فضلاً عن لقمة
العيش وقارورة الدواء. والجهاز البيروقراطي هو آخر معقل لحماية
الدولة من التفكك، ومراقبة وضع الجهاز تعطي مؤشراً حول المستقبل.
فبعض منه في تركيبته فئوي، أي يتكون من فئات معيّنة مناطقية أو
مذهبية، كالجيش والحرس والجهاز الأمني والجهاز الديني بمختلف
أذرعه، ومثل هذا النوع من الأجهزة لا يخدم إلا الفئوية ريثما
يجري إصلاحه؛ وبعضه الآخر كالوزارات الخدمية تميل الى فئوية
الخدمة بدل تعميمها لكل مواطن.
إذا تحلل جهاز الخدمة البيروقراطي، أو عجزت الدولة عن توفير
الحماية لمواطنيها، وكلاهما أصبحا مصدر للطعن والإتهام، فإن
الخطوة التالية الطبيعية أن يعتمد المواطنون على ذواتهم في غياب
الدولة، فيعودون من جديد الى الروابط العشائرية والقبلية
والطائفية ـ إن لم يكونوا قد عادوا إليها بعد! ـ لتوفير الحدّ
الأقصى من التأمين والخدمة الإجتماعيين إضافة الى الحماية الخاصة
بالإعتماد على النفس وشراء السلاح كما هو مشهود اليوم. قد يكون
المشهد حينها إنتهاء الدولة بدون إعلان رسمي.
إن مصير الدولة اليوم يتحدد في قدرتها على اعادة ولادة الدولة عن
طريق ما أسماه تركي الحمد بتبديل النسق القديم، الذي لم يعد
قادراً على ازالة انسداد الأفق السياسي، وتحرير الدولة من أزمات
لم يكن بإمكان النسق الحالي التعامل معها بصورة دقيقة.
|