صراع الإرادات

وطنٌ ينتظر فارساً

 مرة أخرى يتنادى جمع من دعاة الاصلاح ينتمون الى طيف واسع من القوى السياسية والاجتماعية والفكرية لدفع عريضة تذكيرية الى ولي العهد أملاً في انصهار الحلقات المعيقة لقرار تاريخي ينتظره الجميع من أجل (تنفيد عملية الاصلاح الجذري والشامل). فالانتظار الطويل الأمد لبدء إنفراج سياسي حقيقي في هذا البلد لم ينتج حتى الآن سوى تراجعاً حاداً في ثقة المجتمع في السلطة، فالترقيعات في ثوب الدولة ما عاد مغرياً بل أن المبدأ نفسه بات مرفوضاً سراً وعلانية، فالفتوق الحاصلة أكبر وأعمق من أن تقبل عملية من هذا القبيل. إن الاصلاح الجزئي والتدريجي قد يلبي أغراض النخبة الحاكمة، ولكنه بالتأكيد لا يحل مشكلات الدولة، والتي تتطلب حلولاً جذرية وشاملة وحاسمة. فتماسك السلطة واستقرارها لا يتوقفان الآن على خيارات حذرة ومبتسرة، بل على قدرة أهل الحكم في المقاربة المباشرة لجوهر المشكلات وتالياً صنع حلول جذرية لها.

عريضة (دفاعاً عن الوطن) التي وقّعها أكثر من ثلاثمائة شخصية وطنية تأتي في سياق المساعي المتصلة من أجل بلورة موقف وطني عام إزاء وضع بات مرشحاً للانجراف نحو المجهول بل المثير للهلع. فحين صدور وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) في يناير من العام الحالي، ولقاء ولي العهد برهط من دعاة الاصلاح، كان الجميع ينتظر قراراً شجاعاً من القيادة السياسية ببدء برنامج الاصلاح السياسي الشامل والجذري، سيما وقد عبّر الأمير عبد الله عن تطابق وجهة نظره في الاصلاح مع محتويات وثيقة الرؤية، تماماً كما هي العادة المتبعة لدى الأمراء في التعبير عن ردود أفعالهم مع من يلتقون بهم من شرائح المجتمع.

العريضة الأخيرة ذكّرت بالمطالب الواردة في وثيقة الرؤية والمشتملة على المطالبة بإصلاح المؤسسات الدستورية للدولة، وإفساح المجال لتحقيق المشاركة الشعبية، وانتخاب مجلس الشورى، وتأهيله الى مرحلة يكون فيها قادراً على ممارسة كافة الصلاحيات التشريعية والرقابية، والفصل بين السلطات، وتدعيم القضاء، واحترام حقوق الانسان، وتشريع عمل مؤسسات المجتمع المدني، والقضاء على الفساد الاداري وهدر المال العام، وتوسيع القاعدة الانتاجية وتطبيق مبدأ التوزيع العادل للثروة، وطرح حلول عملية لمشاكل الفقر والبطالة والتعليم والصحة والاسكان وتمكين المرأة من وظائفها الاجتماعية والاقتصادية، وتطوير خطاب ديني واعلامي وثقافي وتعليمي ينبذ الواحدية بكافة أشكالها، ويشيع مناخاً تعددياً يسمح بقبول الرأي والرأي الآخر ضمن الدائرة الوطنية والاسلامية والانسانية. إن هذه المذكرة، بالمطالب الواردة فيها، حظيت بإجماع شعبي غير مسبوق، فقد كانت بحق رؤية وطنية تمثل تطلعات مختلف فئات الشعب.

تسعة شهور مضت على اللقاء بين ولي العهد ونخبة من موقعي الوثيقة متوّجاً بوعد قريب بالاصلاح، دون ظهور مؤشرات على إنجاز الوعد، بل كانت هناك من الدلائل ما يفيد عكس الاتجاه الاصلاحي لدى الحكومة.

إن الاستغلال الكثيف والمفتعل أحياناً لقضية الأمن الوطني من جانب الحكومة قد جرى تفسيره لاحقاً من قبل كثير من دعاة الاصلاح على أنه محاولة أخرى للهروب من الخيار الاصلاحي. وعلى الضد من مفهوم الأمن الوطني كما أريد إشاعته رسمياً، رأى موقعو العريضة الأخيرة أن هذا المفهوم ييستند على منطلقات خاطئة، وبخاصة حين يتم ربط الأمن الوطني باستقرار السلطة وتماسكها، وبإعادة الاصطفافات الداخلية خلف العائلة المالكة، فيما يغفل عن عمد الأبعاد الجوهرية لهذا لمفهوم. الربط الوثيق بين الأمن الوطني والاصلاح السياسي يمثل الجزء الغائب في الأجندة الرسمية، ولكنه بالتأكيد يقارب بصورة صحيحة قضية العنف. فالحلول الأمنية المعتمدة في التعامل مع الظاهرة هذه لم تسفر سوى عن خلق مزيد من التوتر فضلاً عن كونها زجّت بكافة مصادر الدولة وطاقاتها داخل مواجهة معروفة النتائج، فيما تظل المشكلات الحقيقية مرفوعة الى أجل مفتوح، دون حسم نهائي.

تؤكد العريضة على أن الحلول الأمنية لظاهرة الارهاب المحلي مآلها الفشل حين تفصل عن الابعاد الاخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الضالعة في تحريكها. فقد تعاملت الحكومة مع العرض وأغفلت المرض، إذ لم يكن العنف سوى تمظهراً وإفرازاً لأزمات أخرى، حيث أمكن القول بان الدولة أرادت بالحل الأمني الهروب من أخطاءها والتعويض عن خسارتها في الميادين الأخرى من خلال التعويل المفرط على الخيار الأمني.

إن الإخفاقات الأمنية المتواصلة كانت كفيلة بإحداث رنين مدوٍ في الأعلى من أجل التنبّه الى أن الحلول الأمنية لظاهرة العنف ترهن الحكومة لخيار المواجهة المنفردة، حيث تبقى المشكلة محصورة بين المتضررين المباشرين، وتصبح حينئذ المشكلة بين طرفين الحكومة وجماعات العنف.

مبدأ الشراكة بين الشعب والحكومة في تسوية مشكلات الدولة الامنية والسياسية والاقتصادية يؤسس لمدخل صحيح للانتقال الى الدولة الوطنية مكتملة التكوين. فالسلوك العام للنظام السياسي ينبّه الى أن الدولة كانت قائمة على إقتناعات خاصة، تلتقي عند نقطة قريبة من علاقة الأسياد والعبيد، بما تمليه من نمط خاص في العلاقة، والحقوق..مفهوم الشراكة كما يدركه الموقعّون على العريضة تقوم على أساس اعتبار أن الوطن ملك عام، يتقاسم فيه كافة المواطنين المسؤولية، والمصالح، والهموم، والمصير.

غياب الشراكة ـ بحسب مضمون العريضة ـ يشكل العائق الكبير أمام اضطلاع الغالبية المطلقة من السكان بمسؤولية درء الاخطار الداخلية عن الوطن، وهو العامل الأساسي في خروج الدولة عن المسار الصحيح. فالموقعون على العريضة يفصحون عن موقف وطني واضح في دعوتهم للاسهام المشترك بين الشعب والحكومة في إيجاد حلول شاملة وجذرية لأزمات لم يكونوا سبباً فيها، بل هي النوايا الصادقة والحس الوطني الرفيع دافعهم نحو بلورة رؤية اصلاحية تعين الحكومة على حل مشاكلها.

سلّطت العريضة ضوءا كثيفاً على ظاهرة العنف المحلي وفق رؤية إصلاحية شاملة، تلتقي مع المتبنى الفكري والسياسي لدى القوى الوطنية والدينية المعتدلة. إن وجود فئة مطلقة الزمام تؤكد وجودها من خلال احتكار حق التعبير عن الرأي، وتتسلح بأشكال متطرفة في فرض قناعاتها، في مقابل حرمان القوى السياسية والفكرية المعتدلة عن مزاولة حقها الطبيعي في التعبير عن آرائها لا ريب أنه وفّر أجواء شديدة التوتر في بيئة كان يمكن لأفكار الاعتدال والوسطية أن تثريها وتحبط تأثيرات نزعات التطرف. 

 ثم ماذا؟

 الامتثال الواعي والملتزم بالوسائل المقررة من قبل الدولة في إيصال الصوت المطلبي لم يثمر حتى الآن عن نتائج تبعث على الاعتقاد الصلب بجدوى الاستمرار في تبني (خيار التناصح) فيما لا أفق واضح كما يبدو في عزم الحكومة على المباشرة بتنفيذ ما وعدت من إصلاحات جوهرية وشاملة بحسب ما ورد على لسان ولي العهد. فقد أثبت الموقعون مرة ثانية أنهم على قدر كبير من المسؤولية والالتزام بما قررته الحكومة من وسائل في التعبير عن المطالب، كما أثبتوا مجدداً حرصهم على التوصل الى صيغة توافقية ومرضية بين الحكومة والشعب، فلم يجنحوا رغم تصرّم المدة المقررة لتطبيق ما ورد في وثيقة الرؤية الى خيارات أخرى كتشكيل جبهة سياسية معارضة أو التحريض على العصيان المدني والاضراب العام، ولم يصدر عنهم ما يفيد بحيادهم عن خيار العرائض، رجاء تحريك المياه الراكدة وتحرر صانع القرار من هواجسه.

وتبقى هناك أسئلة مفتوحة: كيف سيكون رد فعل العائلة المالكة؟، هل ينبغي عليها المضي الى أبعد من الزمن الافتراضي للتغيير؟، وهل عليها أيضاً انتظار تحوّل آليات العمل المطلبي؟ أم أن هناك من الأمراء من يراهن على إنكسار التيار الاصلاحي؟

تفترض هذه الاسئلة أن ظروفاً مستتبة محلياً وخارجياً يمكن تكييفها لجهة إقتفاء سلوك مضاد لارادة الاغلبية الشعبية، والتواري عن مواجهة اللحظة المصيرية والحاسمة. ولكن ما يعكسه المشهد الحالي أن هناك إرادة شعبية جامعة على خيار الاصلاح في مقابل نكوص غير مبرر من جانب الحكومة. فرد الفعل المسرف في فتوره والمحمول على نظرة ريبة تجاه كافة التعبيرات الشعبية عن مطالب ذات صفة إجماعية، لا يعدو أن يكون شكلاً من أشكال القطيعة بين المجتمع والدولة، وإحدى تعبيرات أزمة الثقة المستحكمة في مركز السلطة، وهي كفيلة بتفسير إنحباس العائلة المالكة في هواجسها المقترنة بالخوف من إنهيارات في بنيان الدولة.

لقد سعى التيار الاصلاحي في خطابه السياسي الى إيصال رسالة طمأنة الى العائلة المالكة عبر التأكيد على الثوابت الوطنية والدينية، وكان يفترض إستيعاب هذه الرسالة بالمضمون الذي أراده التيار الاصلاحي من أجل حسم التردد في موقف العائلة المالكة إزاء قضية شديدة الالحاح، يجب الاذعان بوجودها ومقاربتها بصورة صحيحة. التمزق الحاصل في شبكة تحالفات السلطة والانفجارات المتوالية في جسد الدولة والتي أخذت أشكال توترات إجتماعية وأمنية وإقصاءات ثقافية وسياسية وتزايد التفاوتات الاجتماعية وانهيار اقتصادي، وفساد إداري لا شك أنه ـ أي التمزق ـ جرّ الدولة بالكامل الى حافة المواجهة مع المصير المحتوم.

ولايبدو حتى الآن هناك  من يريد تعليق الجرس..فالدعوة المتواصلة الى الاصلاح السياسي ليست مسموعة فقط، بل إن العائدين من لقاءات كبار الأمراء يحملون معهم خيبة أمل في انفراج يأتي من داخل القصر. وبالرغم من الالحاح على الاندراج ضمن آلية تقليدية في التعبير السياسي عن المطالب، فإن الحاصل النهائي لم يسفر سوى عن تجاهل آخر، وكأن هذه الآلية باتت عاجزة عن تأمين فرص تسوية ممكنة.

ففي هذا العام أفلحت القوى السياسية والاجتماعية الوطنية في الارتقاء بخطابها الاصلاحي الى مستوى التوصل الى صيغ مطلبية حازت على إجماع الغالبية المطلقة من السكان. فالمطالب الواردة في عرائض هذا العام كانت وطنية في روحها واستهدافاتها، تماماً كما أن المشاركين في إعدادها هم ممثلون عن الاطياف السياسية والفكرية في البلاد، وهذا يكشف بوضوح عن أن إرادة شعبية أخذت في التبلور في مقابل إرادة السلطة. إن من المفارقات المدهشة أنه حين فشلت الدولة في إدماج الفئات الاجتماعية، إنبرت الاخيرة لتحقيق هذه المهمة نيابة عن الدولة نفسها، ولكن في ظل ضعف شديد يعتريها، وكأن ثمة تناقضاً بين الاندماج الجماعي وتماسك السلطة، أو أن الدولة حين تعجز عن التحوّل الى دولة وطنية يتكفل المجتمع بتصنيع إرادة وطنية تفرض نفسها على الدولة غير الوطنية، لتحل دولته محل الدولة الراهنة.

ثمة مفارقة أخرى جديرة بالاهتمام عكستها مذكرتا (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) و(دفاعاً عن الوطن) وهي أن الشعور العام بوجود أضرار مشتركة كانت أقدر على توحيد فئات المجتمع. فإن التدمير المنظم للوحدة المجتمعية الذي مارسته الدولة في مرحلة الانتعاش الاقتصادي عن طريق التنمية غير المتكافئة، والتوزيع غير العادل للثروة والسلطة، وسياسات التمييز الطائفي والقبلي والمناطقي، وبالتحديد خلال عهدي الملك خالد والملك فهد، أدى الى إنقسام حاد وعميق في البنية المجتمعية، عكس نفسه في القطيعة بين الفئات الاجتماعية، والمشاعر الفئوية، والعودة للذات الخاصة. ولكن الاخفاقات المتوالية اقتصادياً وسياسياً وأمنياً وشعور القطاع الأكبر من السكان بالتهديد والخطر المشترك، خلقت أرضية جديدة تلتقي عليها الفئات الاجتماعية.

فيما مضى من السنوات كانت كل فئة ترى نفسها وحدها المتضررة من سياسات التمييز المتّبعة من قبل الدولة، ولكن اليوم وقد تمزق الحجاب الساتر عن أزمة خانقة تحدق بالجميع، وباتت أغلب الفئات الاجتماعية تجد نفسها في قارب واحد، فإن وحدة الهموم تكفلت كما يبدو بتوحيد الصف، إذ يرى الجميع بأن الدولة التي أحدثت قسمة ضيزى في مصالحهم، ومشاعرهم، وثقافتهم في زمن الطفرة، لابد من الارتداد عليها متوحدين في زمن الانهيار.  

مهما كانت ردود فعل العائلة المالكة إزاء هذه المذكرة وماسبقها ويليها من مذكرات، فإن ثمة واقعاً بات يفرض نفسه على الارض، فالمجتمع الآن يعيد تشكيل نفسه في هيئة تواضعات سياسية وثقافية قابلة للتحول الى حركة شعبية اعتراضية من شأنها كسر الجمود السياسي، فحسم الخيارات المصيرية لا يتوقف دائماً على أوامر سامية.

 (التحرير)