الإصلاح السياسي في السعودية والخيارات الصعبة

 محمد الهويمل 

لم ينل موضوع سياسي اجماعاً صلباً كما ناله موضوع الاصلاح السياسي في السعودية هذه الايام. فالكل حكومة وشعباً يجمع على ان الاصلاح السياسي قدّر هذا البلد. فالالحاح الشعبي على الاصلاح السياسي في السعودية لم يعد خبراً استثنائياً بل الاستثنائي فيه هو ما يترجمه هذا الخبر من تعبيرات سياسية جماعية سلمية أم عنفية او حتى إشارات ثقافية تفسر الى حد كبير عمق القناعة وصلابتها بضرورة إخراج الدولة من الازمة الطاحنة التي تمر بها عن طريق تبني مسار إصلاحي ديمقراطي.

الضغوط السياسية المتراكمة قد يكون وراء إستشعار كثير من الامراء الى الحاجة للتصريح بأن ليس هناك امام دول المنطقة مجتمعة سوى خيار الاصلاح، بما يترجم الى حد ما الموقف الرسمي في السعودية، هذا الموقف الناشيء سواء عن قناعة داخلية أم عن ضغوط داخلية وخارجية خانقة. نشير هنا الى ان الادارة الاميركية قد عبّرت عن موقفها ازاء الاصلاح السياسي في السعودية في سياق مشروع سياسي اميركي في المنطقة، كما جاء على لسان وزير الخارجية باول العام الفائت ثم ظهر صريحاً على لسان مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية لاحقاً. المشروع السياسي الاميركي يتدشن، كما تعكس شروحات الحاشية السياسية الاميركية،  بالاطاحة العسكرية بنظام بغداد يعقبها إحداث تغييرات هيكلية في النظم السياسية المجاورة.

وفيما يتعزز الاتفاق على الاصلاح السياسي في السعودية رسمياً وشعبياًً، يتولد السؤال المركزي حول اتجاهات الاصلاح السياسي وحدوده. ولذلك سنحاول هنا تسليط الضوء على خيارين في الاصلاح السياسي في السعودية:

ـ خيار خارجي وتحديداً اميركي.

ـ خيار داخلي وينفلق الى خيار شعبي وخيار حكومي.

 

الخيار الاميركي: إصلاح أم تقسيم

  يجدر القول ابتداءً بأن خيار دمقرطة السعودية كان مهملاً في التفكير الاستراتيجي الاميركي خلال العقود الماضية من قبل مؤسسات سياسية اميركية (مثل معهد الشرق الاوسط) وربما بعض المنظرين السياسيين الاميركيين مثل مارتن انديك وهنرى كيسنجر، فالاخير لا يخفي معارضته لأي تطوير ديمقراطي في السعودية.

إن إجهاض الخيار الديمقراطي في السعودية يستقوي عادة بـمبررين: الخوف من وصول تيار أصولي راديكالي الى السلطة، وهو خوف أشيع في كتابات المنظرين السياسيين والصحافيين الغربيين. المبرر الثاني: هو تهديد المصالح الحيوية الاميركية وتحديداً النفطية منها، فالديمقراطية قد تفسح الطريق امام مشاريع الاستقلال الاقتصادي وقد تمارس المجالس التمثيلية المنتخبة دوراً في تعطيل الاتفاقيات النفطية بين السعودية والولايات المتحدة الاميركية.

هذان المبرران اكتسبا مزيداً من القوة في عقد التسعينات مع إنهيار الاتحاد السوفيتي وظهور بوادر راديكالية دينية في شمال افريقيا وتحديداً الجزائر أو حتى مصر، واحتفظ المبرران بقوتهما حتى لحظة ارتطام أول طائرة انتحارية بأحد برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ثم جاء  إنهدام البرجين في الحادي عشر من سبتمبر ليقدّم مكانها مبرراً آخر يصر على إجتثاث الخطر الاصولي من جذوره ولكن هذه المرة من انبثاثاته في الدولة السعودية نفسها.

فالهلع الشديد الذي أصاب قادة الدولة السعودية من ضلوع مواطنيها في إسقاط البرجين، قد أخفى وراءه تهديداً جديّاً ولكن هذه المرة من حليفها الاستراتيجي الذي قرر استبدال أسس العلاقة مع الحكومة السعودية، والتي أخذت من الناحية العملية حيز التنفيذ منذ تنفيذ المخطط الاميركي واسقاط نظام بغداد، ومنذئذ بدأت تجري عملية ازاحة لمراكز الجاذبية  إستعداداً لاستبدال الخارطة السياسية للمنطقة.

الادارة الاميركية بتغيير وجه المنطقة تطمع في تغيير الخارطة الجيوبلويتيكية وسيلحقه تغييرات اقتصادية حيث بات من المرجح ـ استناداً على مؤشرات راهنة ـ تخفيض أهمية النفط السعودية من خلال تصعيد الدور النفطي المستقبلي للعراق، مع إضافة التعهد الاميركي لروسيا بشراء كميات كبيرة من نفطها والذي قد يطيح في وقت لاحق بالكفاءة السوقية لمنتجات اوبك.

السعودية بلا شك تعيش قلقاً جديّاً على المستوى الرسمي من التفكير السياسي الاميركي في الوقت الراهن، ولذلك يفهم المراقب بوضوح ميولها الشديدة نحو البحث عن حلفاء جدد تستقوي بهم على حليف الأمس، بعد أن فشلت معارضتها لأي تدخل عسكري اميركي في العراق. إن القلق السعودي يشتد حين يضاف اليه التغييرات السياسية المتوقعة من الجانب الاميركي في السعودية وهي تغييرات باهضة جداً، تماماً كما هي التعويضات السياسية والاقتصادية وحتى الايديولوجية التي تطلبها الادارة الاميركية من السعودية بعد احتلال العراق.

الاصلاح السياسي في السعودية من وجهة النظر الاميركية يتجاوز حدود التغييرات الشكلية المتوقعة في مجلس الشورى، أو تفعيل مواد النظام الاساسي الخاصة بالحقوق المدنية، أو حتى تطوير صلاحيات مجالس المناطق، وهي تغييرات ينظر اليها غالباً على أنها مؤشرات ايجابية على نوايا الحكومة أو إستجابات مشجعة من جانبها على التغيير السياسي.

في واقع الامر، أن قائمة التغييرات المعدّة اميركياً للسعودية لا تقف عند حد المجال السياسي بل تستوعب ايضاً المجال الاقتصادي يكون فيها رهان الانضمام الى منظمة الجات حاضراً ولكن بالخضوع للشروط الاميركية في مشاريع الاستثمار النفطي والغازي، والمجال الديني وبخاصة تنقية التعليم الديني الرسمي وتهميش دور المؤسسة الدينية، واخيراً تأسيس مناخ مؤات للصلح مع اسرائيل. ومن أجل تحقيق هذه القائمة من التغييرات سيكون الأفق مفتوحاً امام الادارة الاميركية للتعامل مع قوى داخل السلطة السعودية او حتى قوى سياسية مرشحة للبروز واستثمار الظروف السياسية الحالية التي تمر بها الحكومة السعودية من أجل تحقيق ما نبذته الاخيرة من مطالب إصلاحية في أوقات سابقة.

ولعل الخطر الداهم بالنسبة للعائلة المالكة في السعودية يدور حول سلاح التقسيم الذي لوّح به مسئولون كبار في الادارة الاميركية، بل هناك مؤسسات ومعاهد مازالت تعمل على صياغة اطروحة تشتمل على أدلة مقنعة من اجل تفكيك السعودية وتحويلها الى اجزاء متناثرة مع حصر العائلة المالكة في حدود نجد في حال رفضت الاستجابة للشروط الاميركية في التغيير.

  الخيار المحلي: إصلاح حقيقي أم رهان على الزمن؟

 في الحديث عن الاصلاح السياسي من منظور شعبي، لحظ جاوس في "الملكليات النفطية" ان العرائض السياسية التي رفعها التياران الديني والليبرالي الوطني الى الملك فهد بين عامي 1991ـ 1992 والمطالبة باجراء اصلاحات سياسية في البلاد لم تتضمن مطلباً باجراء انتخابات حرة.

ولكن عام 2003 هو بلا شك شديد الاختلاف، إذ أن العرائض المرفوعة حتى الآن لولي العهد جاءت بمطالب ديمقراطية واضحة، يضاف الى ذلك كتابات المثقفين، وروّاد الندوات الحوارية في الانترنت، وتعبيرات المواطنين، والتي توحي مجتمعة بأن سقف المطالب قد جرى رفعه بدرجات تفوق بمسافة كبيرة سقف عام 1992 رغم ردود الفعل التي أثارتها التغييرات السياسية الشكلية التي أعلنها الملك فهد في مايو 1992 باعلان الانظمة الثلاثة: النظام الاساسي، نظام مجلس الشورى، ونظام المناطق.

لم تحظ التغييرات السياسية في عام 1992 بتأييد شعبي، بل واجهت رفضاً ضمنياً ترجمته  عرائض لاحقة صادرة عن قوى دينية ووطنية. وفي واقع الأمر، أحدثت الانظمة الثلاثة إحباطاً عاماً بين القوى الاصلاحية باختلاف توجهاتها السياسية والايديولوجية.  وما توسمه جاوس في تحوّل مجلس الشورى الى جهاز رقابي على اداء السلطة التنفيذية او حتى وسيلة لمحاسبة المسئولين لم يتحقق حتى في حدوده الدنيا، بل كان ثمة اصرار على ابقاء الدور الشكلي للمجلس كإجابة مفبركة لأسئلة سياسية في الخارج، في حال أثير موضوع الاصلاح السياسي في السعودية.

ولكن، كانت الاجابة الداخلية على الانظمة الثلاثة مدوّية في  الثالث عشر من نوفمبر عام 1995 بالقرب من مبنى الحرس الوطني بالرياض  ثم في 25 يونيو 1996 في الخبر. وبصرف النظر عن الاجراء الشكلي الخاص بالتحقيقات، فإن ثمة تفسيراً ملفوظاً بين دعاة الاصلاح في السعودية يتجه الى اعتبار هذين الحدثين رد فعل غير مباشر على فشل السلطة السعودية في الارتقاء الى مستوى التوقعات الشعبية او حتى دونها بقليل، بل إن الانظمة الثلاثة بالمضامين القليلة الشأن التي جاءت بها والاحباطات التي خلقتها بين المواطنين أوحت بأن ثمة بوناً شاسعاً بين دعاة الاصلاح وبين الحكومة وأن هذا البون لا يمكن تجسيره ـ في نظر البعض ـ بسهولة ما لم تتدخل عوامل اخرى مثل العنف كما يجري حالياً في مناطق مختلفة من السعودية وعلى أيدي أناس كانوا في يوم ما في دائرة "الحلفاء" او "المأمون شرهم" او العامل الخارجي (الاميركي مثلاً) او انهيار النظام بفعل عوامل ضعف ذاتية (كانهيار أسس الدولة الريعية).

تطلع دعاة الاصلاح الى التغيير السياسي في السعودية يتجاوز بلا شك أفق التغيير المرسوم داخل الاسرة المالكة، ولكنه في الوقت نفسه يتسم بالواقعية الشديدة، كما توحي بذلك العرائض والافكار المستعلنة أو الثاوية في ثنايا الكتابات السياسية المنشورة في الصحف المحلية او الكتب او حتى المنتديات الحوارية. فالاستجابة الراهنة لدعاة الاصلاح تتجه الى السير في خط العملية الاصلاحية الجارية في دول الجوار، كما في الكويت والبحرين وقطر. فتأثيم الانتخابات الحرة لأعضاء مجلس الشورى كما توحي عبارات رئيس المجلس السابق الشيخ بن جبير في تصريح له قبيل وفاته والذي يزرع انطباعاً بأن لا اصلاح سياسي مرجو من داخل السلطة. كما أن اللامركزية الشكلية التي تنوي الحكومة التبشير بها عن طريق منح بعض الصلاحيات للمجالس البلدية منفصلة عن عملية اصلاحية في النظام الاداري العام للبلد سيكون محاولة التفاف أخرى لنظام يصعب إخضاعه لنظام التجزئة في الاصلاح.

الاصلاح السياسي في السعودية، باختصار، يتطلب تحقيق أكبر قدر من التمثيل السياسي والمشاركة في صناعة القرار السياسي ويكون ذلك أساساً صلباً لأية عملية اصلاحية مرتقبة، بالنظر الى الاوضاع السياسية والاقتصادية الأمنية الراهنة. فالسياسي منها بات مدركاً في المستويات الشعبية الدنيا فضلاً عن الطبقات الوسطى والعليا، واما الاقتصادي فإن السعودية في ظل تدهور اقتصادي واضح المؤشرات سواء في نسبة البطالة المرتفعة والتي قدرت بنسبة 37,8 بالمئة ومديونية مرتفعة داخلية تزيد عن 200 مليار دولار وعجز مزمن في الميزانية السنوية أمام أحد خيارات معالجة قاسية تبدأ بوضع نظام ضريبي مكلف، وسيتبع ذلك ضرورة توسعة دائرة التمثيل السياسي.

وثمة حاجة هنا الى قراءة الخيار الاصلاحي الرسمي، فالثابت ان الاصلاح بما يستبطن تنازلات سياسية يعتبر خياراً ممقوتاً للحكومة السعودية ولربما لأي نظام سياسي في العالم. ولذلك هناك مسعى حثيث داخل العائلة المالكة نحو امتصاص أي ضغوطات محلية او حتى دولية وتقديم أقل التنازلات مهما بلغت الضغوطات. بيد أن هذا المسعى أخفق في حسم الامور وتحقيق الاستقرار السياسي، وثمة شك في قدرته المستقبلية أيضاً في ضمان بقاء السلطة.

في واقع الامر، أن موضوع الاصلاح السياسي يتشابك غالباً مع موضوع الصراع داخل العائلة المالكة على السلطة، فالقوتان المتجاذبتان في دائرة الاصلاح السياسي تتجهان الى عملية تحرير السلطة ولكن باتجاهين متعاكسين في ظل اتجاه سائد يحاول تشديد الخناق على السلطة ذاتها، فالقوة الشعبية تحاول تحرير السلطة من العائلة المالكة، فيما يشتد التنافس داخل الاخيرة للحصول على حصص متوازنة بين الاجنحة الرئيسية في العائلة المالكة.

في الواقع، إن ثمة صورة قاتمة ترسمها النظم الملكية في العالم حال الحديث عن خيارات الاصلاح السياسي، وطبيعته وحدوده. فالانطباع المتولد لدى كثيرين أن النظم الملكية تكون أقل استجابة لموضوع الاصلاح السياسي وتكون أكثر مقاومة لأي مسارات ديمقراطية قائمة في مناطق اخرى. فالسعودية بنظامها الملكي تفرض سيطرة تامة على الارض والشعب وتقاوم بشدة أي محاولات احتجاجية محلية. هذه الصورة، على أية حال، تبدلت وبدأت الامثلة المضادة تفرض نفسها وتكون أقدر على محو الانطباعات القاتمة عن الانظمة الملكية.

فالسعودية رغم ما عرف عن كونها محكومة بأشد الانظمة الملكية انغلاقاً في القرن العشرين، لم تكن بأسوأ من النظم الملكية التقليدية سواء في أوروبا أو حتى آسيا. فالسعودية لم تعتمد مجرد العصا في التعامل مع الاحتجاجات السياسية المحلية بل كانت الجزرة تفعل في أحيان كثيرة فعلاً عنيفاً في نفوس خصومها، كل ذلك من أجل الحيلولة دون تقاسم السلطة وخروجها من دائرة العائلة المالكة.

ما نود قوله هنا أن السعودية بنظامها الملكي مازالت قادرة على تطوير نظام سياسي مقبول  شعبياً مع خسائر قليلة تكون ثمرتها الثمينة هي الاستقرار السياسي الداخلي وضمان بقاء السلطة لفترات أطول. قدرة النظام الملكي السعودي تتمثل في تبني خيار الملكية الدستورية ((Constitutional Monarchy، فالملكية الدستورية باتت (في القرن العشرين) تعني ديمقراطية برلمانية مزوّقة بالملكية كما في بريطانيا، بينما كانت تعني في القرن التاسع عشر بأنها نظام دستوري ولكنه عاجز عن اختراق صلاحيات الملك. ولكن المصطلح تطور تبعاً لتطور تجارب الملكيات في العالم فبلجيكا والدانمارك كانتا ملكية دستورية بينما روسيا لم تكن كذلك.

ويزيد بعض منظري الملكيات الدستورية على أن الاخيرة تمثل وسائط عالية الكفاءة من أجل تحقيق الليبرالية. ويلح البعض على ان عمليات الاصلاح السياسي في النظم الملكية تكون أكثر أماناً بالمقارنة مع النظم التسلطية الاخرى، حيث يكون الملك قادراً على إدارة دفة الاصلاح والانتخابات الحرة دون أن تمس هذه العملية العرش او امتياز الملك. وتورد الكويت والمغرب والاردن وحديثاً البحرين كأمثلة على الانتقال نحو الديمقراطية في نظم ملكية من خلال تقرير برلمانات حرة تزاول مهامها الدستورية كجهاز رقابي على ادارة السلطة التنفيذية التي تكون بدورها مسؤولة امام الملك.

ثمة مشكل يحول دون تبني خيار الملكية الدستورية في السعودية وهو الصراع على السلطة من داخلها وليس من خارجها. فالتجاذب بين القوى الوطنية والحكومة يتم خارج السلطة وليس داخلها أي أنه يتم بعد خط الاعتراف بآل سعود كعائلة مالكة، ولكن هذا لا يحل المشكل، بينما يفترض خيار الملكية الدستورية تسوية مشكلات الصراع على السلطة في داخلها، والتي تحمل في طياتها تهديدات بتمدد السلطة الحالية للعائلة نتيجة تزايد أعداد المتنافسين. فبين المطالبة بتقليص سلطة العائلة المالكة من خارجها/من الشعب وتزايد التنافس من اجل تمديد السلطة من داخل العائلة المالكة يكون خيار الملكية الدستورية حائراً وقد يؤدي الى مزيد من التعقيد، ما لم تتبلور قوة قادرة على الحسم في ظل تجاذب الاجنحة الراهن.