مرة أخرى يوقف عن الكتابة

النقيدان وأزمة الحريات العامّة

 كلّما قلنا أن وضع البلاد يميل الى التحسّن، على الأقل في هامش الحريات الإعلامية، من أجل الخروج من نفق الواحدية الفكرية والسياسية.. جاء الينا الأمراء بقرار جديد يوقف هذا أو ذاك عن ممارسة حقه الطبيعي في إبداء الرأي. والأستاذ منصور النقيدان ابتلي بعداء المتطرفين الدينيين كما عداء السلطة (الغبيّة). فإن سلم من أحدهما لم ينج من الآخر.

مقالة النقيدان الأخيرة، والتي كانت سبب إيقافه، على ما يبدو، كانت بمناسبة الحدث السبتمبري، وكان عنوانها: (11 من سبتمبر.. صورتنا الحقيقية) كشف فيها عن مشاعر الكثيرين الذين ابتهجوا بالهجوم على اميركا في عقر دارها، وكيف ان الناس تدافعوا نحو الفضائيات ـ حتى بين من حرّم استخدامها ـ ليروا الزلزال الذي أصاب العدو في مقتل!

وألمح النقيدان الى أن (المدارس والثانويات، الجامعات، والمساجد، كانت تعج بالتأييد والتبريك، ومع ضرب أفغانستان كان التجنيد للقاعدة يجري في كل ثقب، وحدود اليمن لو حدثت أخبارها لكانت أسماراً. بعض ضيوف برامج التليفزيون السعودي لم يكونوا يخفون تأييدهم المبطن للقاعدة. الإدانات الباردة تثير الاشمئزاز. كانت باهتة لا حياة فيها ولا رواء. بل كانت مصطنعة. بعد تفجيرات الرياض اتصل بي صديق كان قد أجرى لقاءات صحفية كثيرة مع شرائح متعددة. قال: لقد أذهلتني كمية النفاق التي نتمتع بها. كلهم يؤيدون تفجيرات أمريكا، ويرون المنفذين لتفجيرات الرياض الأخيرة مجتهدين ولكنهم مخطئون. وعند أخذ مشاركاتهم للنشر أدانوا كلهم واستنكروا!).

وسخر النقيدان من جيمس زغبي الذي يقول إن مركزه في دراسة له (أثبت أن 99% من المجتمع السعودي يرى أن ما حدث في سبتمبر جريمة). واضاف: (إن كان الحال على ذلك فليس لدينا مشكلة! ولم حديث المسئولين السعوديين عن التحذير من التعاطف مع ثقافة الموت؟ وما حقيقة ما يقال ونشر في الصحف من أن مئات من الأئمة والخطباء قد فصلوا؟ ولم الحديث عن دورات تأهيلية لهم؟ ولم السعي لإعادة النظر في حلق تحفيظ القرآن؟). وتابع: (أول خطوة إلى العلاج هي الإقرار بأن لديك مشكلة، ما لم تعترف بالمشكلة فلن تستطيع القيام بأي خطوات تصحيحية. تطلب الأمر أكثر من سنة حتى جاء الإقرار بأن 15سعودياً كانوا مشاركين فيما حدث. كما اقتضى أن يقع تفجيران مؤلمان في الداخل حتى يكون هناك إذعان بأن لدينا مشكلة، في ثقافتنا وفي فهمنا للدين. إنه لثمن باهظ جداً).

ضرورة الإقرار والإعتراف بالمشكلة دفعت الأستاذ النقيدان لتشريح التصور الرسمي السائد آنئذ فقال: (بعض الذين أفتوا بمشروعية ما حدث في أمريكا من تفجيرات وشجعوا وألبوا ودعموا القاعدة وابن لادن لمواصلة الجهاد ضد الكفار لم يتعرض أحد منهم لمساءلة لأكثر من سنة كاملة، حتى ثبت تورطهم بعلاقات تربطهم بخلايا وتنظيمات داخلية. لقد كان المسئولون يعتقدون أن بالإمكان تفادي ضررهم في الداخل. ربما كان الخوف من أن يكون أي تشديد أو ملاحقات أمنية ضد أولئك سبباً في أن يوجهوا عملياتهم للداخل. وكان اليقين بأن بالإمكان التحكم بذلك، وأن بالإمكان التعامل مع العمليات الإرهابية والمسئولين عنها والمتورطين فيها بقسوة مفصولاً عن التعامل مع ثقافة الغلو والتطرف الحاضنة لتلك التوجهات والتي يتم تلقينها في كل مركز صيفي، وفي كل مسجد وجامع، وفي كل حلقة تحفيظ، وفي المخيمات الدعوية، والبرامج الدينية في التليفزيون وإذاعة القرآن الكريم وحتى في فتاوى تنشر في الصحف، والكتب والمنشورات التي تباع في المكاتب أو توزع مجاناً. أخيراً أدرك أصحاب القرار والمعنيون أن ثقافة التطرف، ثقافة الدم، أن الفهم المتشدد للدين، أن الغلو والخارجية التي ضربت أطنابها وعششت في أدمغة جيل بأكمله مسئولة مسئولية مباشرة عن كل ما حدث).

إن ثقافة التطرف قد تبدأ بالآخر ولكن تنتهي الى تدمير الذات. يقول النقيدان: (ما نحن بأمس الحاجة اليوم إليه، إدراك أن الإرهاب الفكري الذي مورس ويمارس على الآخر المسلم الشيعي أو الصوفي، أو الليبرالي أو العلماني أو.. أو.. هو الوجه الآخر للتنظيمات المسلحة. إن فتاوى كانت ومازالت يتم تداولها منذ سنوات لأحد كبار العلماء في السعودية وممن يتمتعون بجماهيرية كاسحة، تسيء إلى أصحاب المذهب الشيعي تحتاج اليوم موقفاً حاسماً. أمثال هؤلاء يجب أن يوقفوا عند حدهم وأن تتم محاكمتهم وإدانتهم لإثارة النعرات الطائفية، وأي تساهل مع هؤلاء سيكون له آثاره السيئة على الجميع. من الحكمة الآن القيام بإجراءات كثيرة وتنفيس وبحبوحة من حرية الممارسة والتعبير، تفادياً للمقبل من الأيام ورتقاً لخرق بدأ يتسع).

ولعلّ كل ما قيل يمكن هضمه، لكن الجرعة التي لم يستطع المتطرفون هضمها تضمنتها هذه الفقرة: (لقد أثبت أبناء الطائفة الشيعية أنهم أكثر حرصاً على وحدة هذا البلد واستقراره، مع كل الفرص التي كان من الممكن أن يجد البعض فيها فرصة لما يدعيه المتطرفون الذين أثبتت الوقائع أنهم هم الخطر الحقيقي مهما ادعوا أنهم الأكثر أصالة وسلامة معتقد وألصق بالتعاليم).

ويخلص الكاتب الى حقيقة (أننا كنا صانعين ومساهمين في خلق ذلك الوحش الكريه الذي خرج عن السيطرة. ولكننا حينما نساعد أنفسنا بصدق فستمتد إلينا الأيادي لتشد من أزرنا. قد تكون المهمة كبيرة وشاقة. نعم. فالأمر من الصعوبة يتطلب معجزة هي أشبه بالمستحيل. فكل ما حصل نحن مسئولون بنسبة كبيرة عنه، مهما قمنا بتبرئة ذواتنا. وعلينا نحن فقط دون غيرنا مسئولية القيام بتلك المراجعات، أن نقدم للعالم ديناً أكثر تسامحاً وأكثر تعايشاً مع الآخرين، ديناً ينأى بحامليه عن أن يكونوا ألأم الناس، وأكثرهم خسة ودناءة، وأكثرهم نكراناً للمعروف، وهم يتبجحون أمام العالم أنهم خير أمة أخرجت للناس).

ألهذا الرأي الجرئ يستحق الرجل إيقافه عن الكتابة؟! هذا ونحن ـ كما يزعم الزاعمون ـ نحاول الخروج من شرنقة الفكر التكفيري ونحارب الإرهاب والتطرف!