حين تسقط الخيارات

حتمية المواجهة بين مجتمع الحرمان والدولة

 عبد الله الراشد

 كيف يمكن تفسير ما جرى في الرياض وجدة وعدد من المدن السعودية..هل كان مجرد مجموعات متناثرة إحتشدت في وقت واحد إستجابة لنداءات داخلية وخارجية للاحتجاج على أوضاع إقتصادية وإجتماعية وسياسية متدهورة؟ هل ثمة ما تخفيه هذه الحوادث غير المسبوقة في مناطق يعتبر التظاهر فيها تقليداً منبوذاً أو لا تملك خبرة في هذا الشأن كما هو الحال في مناطق أخرى (المنطقة الشرقية تحديداً). ولماذا تتفجر المظاهرات في المدن.. فهل ثمة ما يربط بين المدينة والسخط الشعبي؟ وما هو الأفق المفتوح لنشاطات إعتراضية داخلية، وهل هي مرشحة للتمدد والتصاعد؟ وكيف سيكون رد فعل الحكومة؟ وهل تملك خيارات غير تقليدية، أي غير الخيار الأمني القمعي لمعالجة السخط المتفجر؟   

 يقول نيكولاس جونسون أن (الشغب هو شخص يتحدث..إنه رجل يصرخ قائلاً: إستمع لي أيها السيد.. فهناك شيء ما أحاول إخبارك به ولكنك لا تسمع). فالصوت الذي انطلق في الخفاء لم يلق أذناً صاغية، فلا بد حينئذ أن يُسمع في الهواء الطلق، إن لم تكن السلطة قادرة على إخماده لحظة انطلاقه.

يعرّف البعض الشغب بأنه (عنف جماعي عفوي نسبياً يتناقض مع التقاليد السائدة). ولكن الشغب ليس دائماً مصاحباً لاستعمال العنف بل جرت العادة أن يطلق على الأعمال المصاحبة للمظاهرات التي يتخللها تخريباً للممتلكات بأنها أعمال شغب، ولكن هذه المصطلحات تبدو غير محايدة فإن لكل حكومة معاييرها في توصيف حالات الاحتجاج التي تواجهها.  وغالباً ما ينظر الى أشكال الحشد من منظور الاهداف المحرّضة عليها، ونوعها، والظروف النفسية للمشاركين وطبيعة تفاعلها. فهناك فرق بين حشود مسالمة وأخرى ناشطة بحكم تباين خصائصهما من حيث درجة العدوانية، والصمود في المواجهة، والتماسك، والتعبيرية وكثافة الحضور.

يفرّق كثير من الباحثين بين الشغب والاضطرابات وبين الثورات والانتفاضات وأشباهها إعتماداً على النوايا الكامنة والمحركة لهذه الاعمال باتجاه إسقاط الحكومة. فهناك تشديد على درجة التصعيد في مظاهر الشغب وليس على أصل حدوثها، وفي الغالب ما ينظر الى التصعيد من خلال رد فعل الحكومة من حيث استدعاء الحرس الوطني وقوات مكافحة الشغب ونزول الدبابات أو إطلاق الرصاص والغازات المسيلة للدموع..

هناك من يسلط ضوءا كثيفاً على الفترة التي تستغرقها حالات الشغب، وعدد المشاركين فيها، وعدد الجرحى والمعتقلين وحجم الاضرار، ونمط الاعمال العدائية السائدة، ومستوى الحراك الاجتماعي، ودرجة فجائية الحدث، كأدوات قياس وانعكاسات لمستوى السخونة التي تصل اليها الاعمال الاحتجاجية في بلد ما، وتالياً التنبوء بما تفسر عنه من نتائج.

ولكن كيف يسلك الاحتجاج طريقه وصولاً الى أعمال إعتراضية جماعية؟

إبتداءً يميل الناس عادة الى إخفاء كراهيتهم للحكومة، وبخاصة حين تكون المعارضة ضعيفة، بمعنى عدم وجود ظواهر احتجاجية واسعة النطاق، فحينئذ يصبح التعبير عن المواقف من الحكومة كامناً في صدور أصحابه، أو في حدود ضيقة للغاية، سيما حين تكون الاوضاع العامة مستتبة بفعل قدرة الحكومة على فرض النظام أو بسبب إنحصار مظاهر السخط وسط فئة دون باقي الفئات.

ولكي يصبح التعبير عن الكراهية علنياً يتطلب ظروفاً أخرى تفقد فيها الدولة القدرة على ضبط الاوضاع، وتصبح في الوقت ذاته أوضاع السكان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ضاغطة الى الحد الذي يصبح السكوت عنها غير محتمل. ولكن هل التعبير عن السخط وحده يكفي لتغيير الاوضاع؟ بالطبع كلا، فالسخط بمفرده لا ينتج ثورة، مع أن السخط المتعاظم يعد ثورة كامنة. ولكن وصول السخط الى لحظة الفعل يتطلب شرطاً آخر، يمكن تلخيصه على النحو التالي: لكي تعبّر عن السخط في أفعال يجب أن تعتقد بأنه علاج، كما أن الافعال السياسية التي تستهدف التغيير تتطلب درجة من الأمل وتوقع النجاح. ولهذا السبب فإن وجود إحتياطي كبير من الطاقة الثورية الكامنة لدى الساخطين يجعل الحاجة الى اشعال الثورة ضيئلة، لأن هناك ما يكفي من مبررات لوصولها الى مرحلة التفجر.

وهذا يقودنا الى نقطة أخرى على درجة كبيرة من الأهمية تتصل ببلوغ الحالة النفسية لمجتمع الساخطين، حيث إن إمكانية العنف الجماعي تتفاوت بشكل قوي بالنظر الى درجة الشدة التي تصل اليها الاوضاع وحجم الحرمان النسبي بين أعضاء المجموع. فحين يكون الاختلاف بين التوقعات والقابلية على تحقيقها من قبل الحكومة كبيراً يجعل السخط شديداً وتالياً توالد فرص المواجهة الداخلية بين المجتمع والسلطة. مع إلفات الانتباه هنا الى أن ثمة حالة خاصة تؤجل لحظة المواجهة وهي توافر عدد كبير من الطرق البديلة لارضاء توقعات الناس تؤدي الى تأجيل بصورة تلقائية السخط، والعكس صحيح أيضاً. فحين لا يجد الغضب طرقاً سالكة للتعبير عن نفسه أو يواجه بقسوة فإن النتيجة هو تصعيد في الوضع. إذ أن اللجوء الى خيار القمع من قبل الدولة لا يفلح فحسب في إمتصاص التوتر أو إدحاض مفعوله بل قد يؤدي الى نتائج عكسية حيث يغذي خياراً من هذا القبيل نزعات العنف الكامنة لدى الجمهور الساخط، وبخاصة حين لا يظهر في الأفق خيارات أخرى لدى الدولة في إنتاج معالجات جذرية ومباشرة لأسباب السخط، إقتصادية كانت أم سياسية أم اجتماعية.

 وبطبيعة الحال، فإن التصعيد يتفاوت من حيث درجة شدته بالنظر الى رؤية الساخطين لنظام القيم التي تختلط بوسائل التعبير عن سخطهم. ففي الماضي كانت تحول ما يعتقد بأنها قيماً دينية تملي طاعة ولاة الأمر، وحرمة الخروج عليهم، والتحذير من الفتن، والتمسك بعرى الجماعة القاضية تلقائية بوحدة السلطة السياسية، الا أن هذه القيم تفقد تأثيرها حين تكون درجة الحرمان قد وصلت الى مرحلة متقدمة، في ظل تفاوت فاضح بين حياة الحاكم وعائلته وحياة مجتمع الساخطين..فبين بذخ السلطة وإدقاع المجتمع تتولد الثورات الشعبية.

يجدر الانتباه الى أن دوافع المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية تتفاوت بين الافراد، فهناك دوافع ايديولوجية، واقتصادية، واجتماعية وسياسية، وقد تجتمع الدوافع في مظاهرة واحدة، ولكن قد تصطبغ بأحدها بحسب قوة الدافع وعدد المدفوعين به.

في المجتمعات المنقسمة تتخذ المظاهرات أشكالاً متفاوتة، وتخضع تحت تأثير توجيهات وأهداف وقيادات مختلفة، ما لم تصل القيادات الى إتفاق على خطوط عامة من شأنه خلق نوع من التنسيق المشترك، وهذا غالباً ما يتم في فترات طويلة كونه يتطلب جهوداً كثيفة تستهدف بناء ثقة بين القادة السياسيين من ممثلي القوى السياسية والاجتماعية في بلد ما. 

يمثل وجود قيادات مدينية تقف وراء الظواهر الاحتجاجية عنصراً أساسياً في ادارتها وتنظيمها واستمراريتها، وأن غياب هذه القيادات يجعل الساخطين عرضة لظروف الفعل ورد الفعل العفوي في مسرح العمليات. كما أن وجود قيادات ميدانية سرية لا يجعل المشاركين في الحركات الاحتجاجية بمنأى عن الانفلاتات العاطفية ما لم تكن هناك معرفة سابقة بوجود روح خفية تسري وسط المشاركين.

السلطة أقوى من المجتمع..صحيح ولكن هل أفعال الناس لا تحكتم دائماً لحسابات رياضية أو حتى عقلية، فكل الثورات في التاريخ كان تتم بطريقة عفوية، تلقائية، ولاعقلانية، وأن الساخطين لايخرجون من بيوتهم بعد الانتهاء من عملية حساب دقيقة للخسائر والمكاسب، وإنما تسوقهم أوضاعهم الضاغطة للتعبير بأي طريقة عن سخطهم وايصال صوتهم المكبوت. وفي حالات عديدة حين تكون السلطة أقوى من المجتمع الساخط، يترشح الوضع الى الاضطراب، والتآمر، والعمل العنفي، والعمل السري، أما اذا كان العكس أي حين يصبح المجتمع الساخط أقوى من السلطة الحاكمة عليه يصبح العنف ضئيلاً إذ تكون القوة موجهة من الأكثر الى الأقل عدداً أي من المجتمع الى السلطة.

وحين تفشل الطبقة الحاكمة في تسليم السلطة أو تقسيمها بصورة سلمية يصبح العنف والنهوض الثوري خياراً ضرورياً، إذ إن مفعول الخيارات السلمية يفقد تأثيره السياسي بما يجعل الركون اليه إنهاكاً لارادة المتوسلين به، حيث لا مجال حينئذ الا بإبتكار وسائل ضغط أخرى على الدولة تجبرها على الاستجابة لمطالب السكان والتعامل معها بجدية تامة درءا للمخاطر المترتبة على الاستعمال المفرط لوسائل غير تقليدية في الاحتجاج السياسي الشعبي. فكلما ازاداد اللجوء الى القوة من قبل السلطة أو الجماعات الساخطة ازدادت درجة المواجهة والتصعيد وليس كما يعتقد رجال السلطة بأن القمع وحده الكفيل بإخماد فورات الغضب، فالتجارب المحلية والخارجية تثبت بأن قمع الجماعات الساخطة يشحن طاقة الغضب بداخلها ما يدفعها لانتاج اطارات عمل أكثر تنظيماً وإحكاماً وإدامة.

حين تنجح الدولة في الخروج من معاركها مع الحركات الاصلاحية السلمية منتصرة تدحض خيارات هذه الحركات وتزرع  بذور العنف لجماعات أخرى. فكثير من تجارب حركات الاحتجاج السلمي قد فشلت في تحقيق أغراضها لأن الدولة كانت تسير في سياستها دون اكتراث لتأثيرات الضغط الموجّه اليها من هذه الحركات، ولكن عدة مئات من أفراد جماعات العنف تكون قادرة أحياناً على إحداث تغييرات سريعة ومؤثرة وفورية..هكذا حدث في حرب فيتنام حيث أجبرت جماعات العنف الولايات المتحدة على الانسحاب.

يجادل بعض الباحثين بأن المشاركين في الحركات الاصلاحية السلمية يحدوهم الخوف من انتقام السلطة وخسارة امتيازاتهم المادية، ولذلك فهم يتبنون رؤية في التغيير غير راديكالية ويرتضون تغييرات تحقق لهم ضمانات لأوضاعهم المادية والاجتماعية، وهذا ما يجعلهم أقرب الى معارضة الحركات الاحتجاجية المهددة لاستقرار ووحدة الدولة.

ثمة حكومات تستريح الى غياب سخط ظاهر على سطح المجتمع، فيما يغض النظر عن (التذمر الخفي)، أو لأن السخط لم يتسرب بعد الى المدن وبالتالي فإن خطورته لم تعد محسوسة أو جدية الى درجة تدفع الى الحضور الأمني الكثيف وتوفير كافة الاجراءات الوقائية لدرء خطر قلب السلطة. إن فشل السلطة في ادارة الاوضاع المضطربة يعني تقريب المسافة بين السلطة والمواجهة الشعبية كما أن نجاحها يعني تأجيل التفجر الداخلي لسنوات قادمة.

المظاهرات والحشود الجماهيرية قد تبدأ بصورة بريئة أي لا تتجاوز حدود التعبير عن رد فعل على أوضاع يعيشها المشاركون في المظاهرات، ولكن قد تستغل من قبل أطراف أخرى تحمل أغراضاً خاصة، وقد تدخل حتى السلطة ذاتها كطرف في المظاهرات لحرف مسارها أو إجهاضها. ولكن هذا القلق المشروع لا يجب أن يبالغ فيه، خصوصاً وأنه قد يصبح سلاحاً فعالاً بيد الحكومة التي تقوم بتوجيه الاتهام للمشاركين في المظاهرات بأنهم وقعوا ضحية خديعة من أطراف أخرى داخلية أو خارجية، من أجل تبديد الحشد.

فإذا كانت الحكومة غير قادرة على الحفاظ على مستوى معيشي ثابت كما ألفه السكان، فإن السخط المصاحب للانفاق الاجتماعي المنخفض قد ينتج شعوراً مناوئاً للحكومة. وقد يأخذ الاحتجاج الشعبي أشكالاً مختلفة، اضرابات، انتفاضات، ومظاهرات، وأعمال عنف. يضاف الى ذلك إن فشل الدولة في تأمين الحد الأدنى من حاجات المواطنين يترك انعكاسات على إداء الدولة محلياً وعالمياً، فالاقتصاد الهزيل يكون له تأثيرات مدمّرة تتجاوز حدود البلد نفسه.

ثمة سؤال آخر يفرض نفسه: كيف تفكر الحكومة ـ أي حكومة ـ لدرء خطر الثورة وقلب النظام؟

قبل الاجابة، يجب التشديد على أن الثورة ليست من نوع الاحداث التي تتطلب قدراً محدوداً من الجهد من أجل تحقيق أكبر الأثر. فالثورات تمثل تعبيرات إستثنائية عن الفطرة البشرية الكارهة للتغيير والانتقال من ظروف معلومة الى أخرى مجهولة ما لم يستند فيه قرار الثورة الى قناعة بأن ما هو مجهول يحمل محفزات واعدة ومبشرة وواضحة بظروف أفضل مما هو عليه الحال راهناً. فالثورات التي وقعت في التاريخ محدودة، أي تلك المرتبطة بسخط وإستياء العامة من السلطة السياسية والدولة.  كما أن الثورات ليست هي من النوع القابل للتفجر بطريقة الأزرار بالقول (لا نريد النظام الملكي بعد الآن، ونحن قد أصبحنا من الآن فصاعداً نظاماً جمهورياً). فليس هناك حاكم في الدنيا يقبل عزل نفسه عن السلطة ونقلها الى المحكومين. ولذلك فإن الثورات تمثل أحداثاً ثقافية وسياسية واجتماعية والتي تفضي الى إبراز ملامح المجتمع وتقسيماته وتطلعاته.  والثورات لا تشتعل الا باكتمال شروطها، وهي الكفيلة بصناعة الروح الموجّهة لها التي تسري في جماعة كبيرة من الناس وتشدهم نحو أهداف مشتركة.  إن الثورات تحتاج الى سنوات طويلة من أجل الوصول الى درجة من النضج كيما تشتعل، ولكن ما يزيد في إسراعها هو دخول عنصر الدم، وإنحرافها الى طريق العنف والمواجهة المسلحة.

نقطة أخرى جديرة بالملاحظة، أن الثورات لا تقع في الأرياف والقرى بل هي صناعة مدينية، وأن المدن هي المسارح الثورية الفعلية وإن كانت بروفاتها وإعداداتها تتم أحياناً في القرى، فانتقال السخط العام من القرى الى المدن يعني إقتراباً وشيكاً من المواجهة بين المجتمع المديني والدولة التي فقدت القدرة على تحقيق الرضا. فكلما ازاداد عدد الناس الساخطين في المدن كلما صارت فرص تشكّل الجماعات الناقمة والثائرة أكبر، أي تلك الجماعات التي يجتمع أفرادها أول مرة بصورة عفوية ولكنهم ما يلبثوا ان ينتظموا في خلايا عمل شبه منظمة.  

لاحظ بيتر جايزوسكي وثوماس هومر ـ ديكسون في بحثهما حول العلاقة بين النمو العمراني والعنف بأن كثيراً من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ارتبطت بالنمو العمراني في الدولة النامية. ولذلك فإن المزيد من النمو يؤدي الى العنف حال تآكلت توقعات الناس بالنسبة للتحسن الاقتصادي والحراك الاجتماعي. ويسلط الباحثان على عوامل رئيسية تتفاعل مع النمو العمراني وتؤدي الى تجارب عنف مدينية، وتشمل هذه العوامل: الازمة الاقتصادية الدورية، وانخفاض قدرة الدولة على التعاطي مع التحديات السياسية، وإرتفاع المطالب الشعبية بالديمقراطية، وتلاشي التجربة الريفية كأساس لتقييم الوضع الاقتصادي النسبي والفرص المصاحبة له.

فالنمو العمراني يتواصل، وفي بعض الاحيان يتزايد بوتائر متسارعة. فقد أصبح حجم المدن مثيراً للدهشة في بعض أجزاء الدولة النامية، فبين عامي 1950 و 1990 كان هناك زيادة بمعدل خمسة أضعاف في عدد المقيمين في المدن في عدد من الدول النامية، أي حوالي 37 بالمئة من السكان من العالم الثالث يعيشون في المدن. وبحسب تقديرات الامم المتحدة لعام 2025 فإن نحو 4.4 بليون أي حوالي ثلثي اجمالي السكان في العالم النامي سيعيشون في المدن. في السعودية، هناك زيادة فائقة السرعة بالنسبة لعدد القاطنين في المدن، فمقارنة بسيطة بين عامي ... و2003 فإن المدن امتصت عدداً كبيراً من السكان ما جعل تركيزاً شديداً للضغط على الحكومة في تخصيص مبالغ مالية ضخمة لتنفيذ برامج تنموية غير متكافئة، وأصبحت نقاط التركيز محددة في هذه البرامج على حساب مناطق شاسعة جرى إهمالها. السعودية ذات النمو العمراني المتزايد بوتيرة متسارعة (3.5 بالمئة سنوياً) في مقابل ركود الناتج المحلي الاجمالي حيث سقوط الدخول السنوية الى 8 آلاف دولار سنوياً وبحجم بطالة تصل الى 37.8  تواجه تحديات خطيرة وجادة على مستوى كفاءة تعاطي الدولة مع إحتياجات سكان المدن. وبالرغم من ارتفاع أسعار النفط، فإن السعودية كان لابد لها من إعادة تقييم إنفقاعها العسكري، وبرامج العقود العسكرية المليارية، والاستثمارات في تحديث الطاقة.

إن التضخم المديني كان يحمل على الدوام عناصر تفجر مستقبلية لم تكن مستدركة في التخطيط الاقتصادي وبرنامج التنمية الشاملة. صحيح أن المدن الكبيرة والحيوية تقدّم فوائد للمجتمعات النامية، وبحسب علماء الاجتماع فإن المدن تزود فرّصاً استثنائية للمقاولات، والابداع وجيل الثروة، ولكن هناك ثمة مشاكل متفاعلة تصاحب النمو العمراني المتسارع. وبحسب كاساردا وبارنيل فإن هذه المشاكل تشمل: معدلات مرتفعة بصورة عالية من البطالة والوظائف المتدنية حيث أن أسواق العمل المدينية تكون عاجزة عن إمتصاص وإستيعاب العدد المتزايد من الباحثين عن وظائف، وتزايد الفقر المديني، وتناقص حاد في الخدمات العامة (مياه غير صالحة للشرب، ونقص تمديدات الصرف الصحي، تلوث الهواء وأشكال أخرى من الحرمان البيئي)، والشوارع المزدحمة، وأنظمة النقل العام المكتظة، وأزمات حادة في الميزانيات البلدية.

من الملاحظات الجديرة بالاهتمام في مظاهرات الرياض أن المشاركين فيها إختاروا رمز بذخ السلطة وفسادها (مركز المملكة) نقطة تجمع وإنطلاقاً لهم، فهم يعبّرون عن فجوة تتسع بين مجتمع يزداد فقراً وحرماناً وسلطة تزداد ثراءً وبذخاً. وتخبر كثير من أحداث الشغب والاضطراب في عدد من دول العالم بأن المتظاهرين قد يلجأوا الى نقل غضبهم  الى الشريحة الأقرب من السلطة والمتحالفة معها والمستفيدة منها مثل التجار والاثرياء.

وبالتأكيد فإن تأثيرات الشغب لا تقتصر على المستوى المحلي بل تمتد تأثيراتها الى المستو الدولي، حيث أن وجود إضطرابات في بلد يحرمها من فرص اقتصادية واستثمارية عديدة، فالشركات الاجنبية تقوم بدراسة الاوضاع الداخلية وإعداد دراسة جدوى الاستثمار لكل بلد قبل تقرير ما اذا كانت تود الدخول الى أسواقه، وأن وجود مكامن احتجاج شعبي يثني كثير من الشركات عن ضخ أموال في بلدان غير مستقرة داخلياً. فالسعودية التي تراهن على إستقطاب مشاريع استثمارية أجنبية تواجه خسارة فادحة حال استمرار الاوضاع المضطربة في الداخل.

ما يمكن أن نخلص به من قراءتنا للتطور الدراماتيكي على الساحة المحلية، أن ثمة تحديات مستقبلية خطيرة تواجه المملكة قد تزج بكثير من الساخطين في نشاطات احتجاجية علنية، وهي مرشحة لأن تأخذ أشكالاً في التعبير غير مسبوقة في حال لم تسرع الدولة في إيجاد حلول جذرية وجوهرية لمشكلات غير قابلة للترحيل، فالرد الفوري على اخفاقات الدولة يجعل من الرهان على الزمن خاسراً في المعادلة الداخلية. وإن نجاح الدولة النسبي في قمع المتظاهرين لا يحول دون تجدد انفجارها بأشكال أخرى أشد ضراوة.