معالجات حكومية قديمة لمشكلة متجددة

نحو إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة

 مرتضى السيد

 العلاقة بين الدولة والتيار السلفي في المملكة تعتبر من أهم المؤشرات على إمكانية التغيير والإصلاح في المملكة. فالتحالف التاريخي بين العائلة المالكة والمذهب الوهابي أعطى للدولة الحالية شكلها الديني، ومضمونها الثقافي، وتوجهاتها السياسية. كما حدّد التحالف المبادئ التي يقوم عليها الولاء للحكم وللدولة، وبالتالي تقسيم المجتمع الى درجات (مواطنو الدرجة الأولى والثانية والثالثة وهكذا) على أسس القرابة الدينية ثم القرابة المناطقية ثم القرابة القبلية فالعشائرية. ويضاف الى ذلك فأن التحالف بين الطرفين وضع أسس توزيع الثروة والخدمات بين المناطق المختلفة في المملكة، وأرسى قواعد الإستئثار الديني/ المذهبي والسياسي والثقافي، فهمّش الكثيرون وقرّب البعض وفق حسابات واضحة يدركها صانع القرار السياسي ويعتمدها في كل خطواته السياسية.

ولقد فرض التحالف بين المذهب (الوهابية) وبين (العائلة المالكة) تغييراً في تفكير وبرامج كلا الطرفين، حسب ما تمليه الظروف السياسية المتغيّرة، وحسب قوة كل طرف على الأرض وما تمليه من تعديل مستمر لشروط (التحاصص) بينهما، خاصة وأن كلا الفضائين الديني والسياسي متماهيان مع بعضهما البعض، ويصعب فصلهما، كون الأداة الدينية ضرورة لشرعنة (السياسي)، وكون الأداة السياسية (مركبة) يتوسع وينطلق بها (الديني).

يمكن تقسيم التحالف الوهابي السعودي، إن جازت التسمية، الى مراحل ثلاث، قد نكون اليوم بصدد مرحلة رابعة جديدة تضاف لسابقاتها.

 التحالف الديني السياسي

 المرحلة الأولى، وهي مرحلة ما قبل قيام الدولة، حيث تحالف الملك عبد العزيز مع رجال الدين في احتواء حركة الإخوان التي نشأت باستقلالية عن الطرفين، فأعطوها زخماً جديداً حتى أصبحت (الإخوانية) وهي الوجه الآخر (للوهابية) المذهب والحركة والجيش الجديد الذي اقتحم به ابن سعود الفضاء السياسي فصنع معجزته بفرض سلطانه على معظم مناطق الجزيرة العربية. الإتفاق الذي أقامه ابن سعود كان مع طرفين شبه مستقلين: مع زعماء القبائل، خاصة مطير وعتيبة، ومع المشايخ المقيمين في المدن والقرى من آل الشيخ وغيرهم، والذين استطاعوا احتواء وتأطير القبائل في وسط الجزيرة العربية من أجل خدمة المشروع السياسي السعودي. تطلب الإتفاق أن يكون زعماء القبائل مع قاعدتهم، القيادة كما الجنود في الجيش السعودي، فأصبح لفظ الإخوان يعني (الجيش السعودي). أما الهدف من زاوية رجال الدين الذي بدأوا بإرسال البعثات الى الهجر من أجل التوعية والتحريض الديني، فهو (نشر الدعوة السلفية/ الوهابية).

توفر من ذلك التحالف، قيام جيش عقائدي يرى الآخر كافراً يستحلّ ماله ودمه وأرضه وحتى عرضه، وهذا أضفى الشرعية الدينية على التوسع السياسي العسكري السعودي الى المناطق خارج إطار نجد، حيث لا يمكن لمفعول الشرعية التاريخية المركزة في عبارة (ملك الآباء والأجداد) أن تجد لها أذناً في المناطق الحجازية والشرقية والجنوبية. رجال الدين وفروا شرعية الحكم السعودي داخل نجد، والأهم شرعية المعارك والتوسع والقتل على أساس ديني. بمعنى آخر، فإن هدف رجال الدين هو نشر الدعوة، وهدف الملك عبد العزيز هو بناء المُلك أو (الدولة) أما جيش الإخوان العقائدي فهو الأداة، التي كانت تغزو فيما مضى للنهب، فأصبح غزوها جهاداً وأصبح سلبها غنائم من الكفار.

وهكذا أصبح لكل طرف منفعة من نوع ما في مواصلة (الجهاد) داخل الجزيرة العربية: الملك يريد الحكم والدولة، والمشايخ يريدون نشر مذهبهم وفرضه خارج حدود نجد في المرتبة الأولى ومن ثم المنافع الأخرى الإقتصادية وغيرها، وأما الإخوان فكان يحدوهم ورعهم الديني كأتباع لا يفقهون في السياسة الى تلبية أمر الله بالجهاد، وتحصيل المنافع الإقتصادية بدل أن تكون تحت عنوان النهب والغزوأوهووووو، مع فارق في حجم الغنائم على أية حال.

بالسيطرة على الحجاز في يناير 1926، أو قبله بقليل، بدا أن التحالف بين الأطراف الثلاثة قد بدأ بالتزعزع. فالجيش الإخواني لم يكن يبحث عن إقامة دولة، بقدر ما كان يريد التوسع دون توقف تحت مدّعى الجهاد، وهو أمرٌ غير ممكن عملياً دون الإصطدام بمواقع الإحتلال الإنجليزي شمالاً وشرقاً وجنوباً. وتوقف الجهاد، أو ما كان يسمّى (تعطيل الجهاد)، يفقد الجيش الإخواني قيمته ومكانته وغنائمه!، خاصة وأن الملك عبد العزيز لم يمنح قادة الجيش (ابن بجاد والدويش وغيرهما) دوراً سياسياً في المناطق المحتلة حديثاً في الحجاز، فكان أن قامت الثورة، أو ما كان يسميه جلال كشك، صراع الثورة والدولة.

رجال الدين من جانبهم، وإن وجدوا أنفسهم من الناحية العقائدية أقرب الى الإخوان، باعتبارهم حواريهم وتلامذتهم، وكل ما لدى هؤلاء من أفكار ومعتقدات يعود إلى تعليمهم وتعليماتهم.. رغم هذا، فإن خلفيتهم المدينية المحافظة، وانشغالهم الدؤوب بـ(توهيب) أو (تنجيد) الحجاز، وهضمه واستتباعه، جعلهم يتلكؤون في دعمهم الصريح للإخوان، وإن وجد بينهم من كان يميل نفسياً ويشتمهم لساناً (الشيخ عبد الله العنقري مثلاً). ولا يخفى أن الإخوان كانوا يميلون الى المشايخ ويثقون بهم أكثر من ثقتهم بالملك السعودي، ولكنهم دهشوا من وقوفهم ـ غير المبرر من وجهة نظرهم ـ الى جانب الملك مع اعتراف المشايخ الصريح بأن موقف الملك خاطئ، ولكن حسب رأيهم لا تجب الثورة عليه لأنها تؤدي الى إفساد وفساد أكبر.

ارتدّ الإخوان الى قبليتهم، وراودهم شعور بالخديعة وأنهم استغلّوا لا لأهداف دينية بل دنيوية، خاصة بعد أن تمّ تجريدهم من الغطاء الديني، فأصبحوا بين ليلة وضحاها مجرد خوارج جهلة وغلاة، الى آخر الأوصاف التي كانت تطلق عليهم. وهكذا استمرت الثورة نحو أربع سنوات انتهت باستئصال الإخوان وزج قادتهم في السجن ثم القضاء عليهم فيه، حسب تقارير بريطانية.

 مأسسة المذهب الوهابي

 وبهذا دخلت العلاقة بين التيار الديني الوهابي وآل سعود للمرحلة التالية، وهي مرحلة (القبول) بالدولة القطرية، والعمل في داخلها وفي إطار حدودها، وهذا يعني (تعطيل الجهاد) ضد الكفار ممن هم يقطنون خارج الحدود في دول الخليج واليمن والعراق والأردن وغيرها. لم يكن أمام المشايخ إلا القبول، فقد كان الإخوان ذراع المشايخ العسكري ـ لو أرادوا ـ وبالقضاء على ذلك الذراع القوي، تمّت إعادة هيكلة العلاقة بين طرفين غير المتكافئين، لصالح الدولة مقابل ما يمكن تسميته بـ (الدين).

لقد أخضع الدين للدولة، بعد أن كانت العلاقة شبه متكافئة فيما مضى، وصار على الدين العمل ضمن حدود الدولة ووفق آلياتها. لم يكن الملك عبد العزيز يريد إقصاءً للدين (المذهب الوهابي) عن الدولة.. بل كان واعياً لمتطلبات حكمه من حيث الشرعية بشكل يجعل المشايخ يأتمرون بأمره، ويقدّم لهم في المقابل التنازلات غير المؤلمة، والتي هي في كل الأحوال أدنى بكثير من المنافع المنظورة.

كيف يمكن إخضاع رجال الدين (السلفيين)؟ فبهؤلاء يتم إخضاع العامة والتيارات الدينية ورجال الدين الآخرين من المذاهب الأخرى، وهم إنما يقدّمون مصالح للحكم فإنما ينتظرون المقابل. وهؤلاء طرف صانعٌ للدولة ومشرعن للحكم، هم جزء من الواقع وليسوا متطفلين عليه، هم جزء من الحكم لا يحتاجون إلى إشراك بل هم شركاء منذ البداية. لم يكن هناك من حلّ سوى (مأسسة) الجهاز الديني، بحيث لا تنطلق الفتيا إلا من شخصيات دينية محددة، أي تنظيم الإفتاء، وتنظيم النشاط السلفي الدعوي، وبناء المؤسسات الدينية، أي جعلها ضمن مؤسسة بيروقراطية تابعة لجهاز الدولة.

المأسسة للعمل الديني السلفي (فهو المسموح به حصراً) ساعد من جهة في إخضاع هذه المؤسسات لاعتبارات الدولة ومصالحها، ولكنها في نفس الوقت وفّرت غطاءً قانونياً لتمدده أفقيا وعموديا، وصارت رؤاه قانوناً ملزماً، وقواه الإجتماعية سيفاً مصلتاً على رقاب الجميع، كيف لا وقد اصبحت الوهابية هي (دين الدولة الرسمي)؟. لقد عوّضت المأسسة التيار السلفي عن خسرانه لجناحه الإخواني المتشدد، وعوضته عن (الجهاد المفتوح) بغنائم معنوية ومادية داخل الدولة أبقته قوياً، حاضراً ومؤثراً.

لقد أعيدت صياغة التحالف بين آل سعود والمؤسسة الدينية بصورة جديدة، تعكس موازين القوى، وتعكس حاجة الدولة ليس فقط الى المشروعية بل الى بيروقراطيين، وقد تحول رجال الدين الى بيروقراطيين بصورة من الصور، يخدمون ضمن نسق جهاز الدولة، في القضاء والإعلام والتعليم والرقابة والأمن.

وبالرغم من الحدود المائعة بين ما هو ديني وسياسي، فإن الفصل بينهما من الناحية النظرية كان ولايزال مرفوضاً من قبل المؤسستين السياسية والدينية، وهو ما كان يفتح المجال لتداخل مهماتهما وعملهما، واختراق أحدهما لفضاء الآخر. لم يكن هناك تقاسم سلطة بالمعنى الحرفي بين المؤسسة الدينية الناشئة حديثاً وبين ما يمكن اعتباره خدمي وسياسي يتبع لآل سعود، وإنما كان ولازال هناك فضاءان متشابكان، يستطيع أي من الطرفين التمدد للآخر بصورة من الصور وحسب الظرف السياسي والإجتماعي، وأيضاً حسب موازين القوى، وحاجة الدولة او تنازلاتها، وبالعكس. ولهذا تجد سلطة الدولة في عمق المؤسسة الدينية، وكذلك تجد للمؤسسة الدينية ولرجالها دوراً في عمق المؤسسة الأمنية والعسكرية، بما فيها الجيش والحرس الوطني، إضافة الى وزارة الخارجية وغيرها.

استمرت الأحوال لصالح الدولة دائماً، التي استطاعت أن تطوّع الجهاز الديني الذي صنعته وتحكمت في منافذه، دون أن يعني ذلك أن كل ما يصدر عن المؤسسة الدينية وما تقوم به مرضي عنه من الجهاز السياسي، والعكس صحيح. فالتحالف الوهابي السعودي اعتمد المساومات، وتمرّس في الإقصاء للفضوليين الذين يبحثون لهم عن دور، ودافع المتحالفان عن بعضهما البعض كلما ألمّت بالآخر مصيبة، فذلك دفاع عن الذات.

 تمرد جهيمان 1979: سلطات متزايدة للوهابية

 بيد أن جهيمان العتيبي وحركته الدموية في نوفمبر 1979م جاءت من أجل إعادة ترتيب أوراق التحالف وإعادة القسمة بين السياسي والديني. للحق فإن جهيمان كان يريد إزالة النظام من أساسه، ولكن مؤديات تحركه العنفي السياسي ساق الأمور باتجاه التعديل في الحصص لصالح التيار الوهابي رغم إفناء التمرد بدموية. لعقود عديدة كان هناك ولايزال حتى اليوم إنزعاج شديد بين التيار السلفي من القسمة الضيزى، واستحواذ آل سعود بالسلطة، وحصر المؤسسة الدينية في الزاوية مع تقلص لدورها، كما يرون. ورغم أن هذا ليس دقيقاً وقد لا يكون صحيحاً في الأصل، لكن الشعور بالقوة لدى أعضاء التيار هو الذي يدفعهم للمطالبة أكثر بأكثر من كعكة السلطة. لقد تزايدت قوة التيار السلفي عبر العقود، وعبر تخريج عشرات الألوف من الأفراد من مدارسه وجامعاته، فتكاثر المطالبون الباحثون عن دور أكبر، شأنهم شأن أعضاء الطبقة الوسطى التي نشأت في حضن السلطة وحاولت انتزاع دور لها.

الظرف السياسي في فترة تمرد جهيمان شجّع السلطة رغم سحقها للتمرد على إعطاء المزيد من السلطات للتيار الوهابي. فهناك ثورة في إيران منتصرة على رأسها رجال الدين، وهذه حركت مكامن الغضب عند كثيرين، ولربما راودت بعضهم فكرة السيطرة على السلطة. وهناك أيضاً الملك فهد الذي يعتبر أقلّ الملوك السعوديين التصاقاً بالموضوع الديني، ولربما جعله شعوره بالنقص الديني أكثر رغبة في التنازل من أسلافه، رغم أنه كان يحثهم فيما مضى على تقليص دور المشايخ في السلطة، ولكنه حين صار الرجل الأول استشعر الضعف، وقادته الظروف السياسية الإقليمية الى تقديم المزيد من التنازلات. وجاءت أحداث أفغانستان، فقذف بكرة اللهب الى خارج الحدود، وهذه وسيلة سعودية ذكية ـ على الأقل قبل 11 سبتمبر ـ في إبعاد المعركة خارج الحدود. لتكن المعركة إذن مع الشيوعية، ومع الشيعة والتشيّع الذي كسب زخماً في إيران. أصبح الجهاد المعطل متاحاً في أفغانستان، والعائلة المالكة المتهمة في دينها صارت تعطي المزيد من الجرعات الدينية المتطرفة للشارع، لإرضاء التيار الديني، والملك صار خادماً للحرمين الشريفين، والمملكة موئلا للحركات الإسلامية، وظهرت الندوة العالمية للشباب الإسلامي التي تطبع الكثير من الكتب المحرضة على العنف والطائفية، إضافة الى طباعة المصحف الشريف بإسم الملك.

تمدد التيار السلفي الى كل أجهزة الدولة بغية إرضائه وتحويل معاركه الى خارج إطار الدولة السعودية، وأيضاً بغية توفير المشروعية للنظام الذي لا يريد أن يقدم تنازلات سياسية. لتكن التنازلات إذن ـ سواء كانت دينية أو طائفية ـ للشريك داخل التحالف، وإن مؤقتاً.

لكننا نعلم أن السلطة تجرّ الى المزيد منها، فكلما قوي التيار السلفي كلما طالب بالمزيد، ولم تكن العائلة المالكة تهتم بالآراء الأخرى ـ ولا أراها تفعل الآن ـ ولم يكن يهمها الإنتهاكات الخطيرة لحقوق المواطنين وفتاوى القتل لهم، سواء لجماعات مذهبية (الشيعة والإسماعيليين والصوفيين) أو للتيار الليبرالي بحجة العلمنة والإلحاد وغير ذلك.

بانتهاء الخطر الإيراني وتوقف الحرب العراقية الإيرانية، وبانتهاء مرحلة الجهاد في أفغانستان بانسحاب القوات السوفياتية من أفغانستان، أصبحت العائلة المالكة في وضع أفضل بكثير مما كانت عليه، وكان بإمكانها ـ بعد أن استنفذت أغراضها محلياً ودولياً وإقليمياً ـ أن تعيد هيكلة التحالف من جديد، فتقتطع الكثير من صلاحيات شريكها الديني. لكن ذلك لم يحدث بسبب الغزو العراقي للكويت وما تبعها من حرب.

 غزو الكويت: داوها بالتي هي الداء

 كانت نتائج الغزو كارثية على النظام السياسي في المملكة، سياسياً واقتصادياً وطعنت مشروعيته في الصميم. وبدل أن تختزل السلطة من صلاحيات التيار السلفي، بادر هذا الأخير الى المطالبة بالمزيد من الصلاحيات، عبرت عنها مذكرة النصيحة، التي يمكن قراءتها على أنها مطالبة واضحة وشديدة الحدّة لمنحه المزيد من الصلاحيات، التي تخترق المنطقة الضبابية بين ما هو ديني او سياسي لتصل الى الجوهر السياسي. بالطبع لم يكن بين تلك المطالب أي شيء له علاقة بالإصلاحات السياسية أو الحريات العامة. كل ما ركزت عليه مذكرة الإصلاح السلفية هو ان يمنح رجال المذهب الرسمي ومؤسسات الدولة الدينية المزيد من السطوة والسلطة حتى في سفارات السعودية في الخارج.

تردّد النظام هذه المرة، فأعلن عن الأنظمة الثلاثة (نظام المناطق ونظام مجلس الشورى والنظام الأساسي) التي لم تكن تسمن أو تغني من جوع.. وفي نفس الوقت قدّم تنازلات جديدة طيلة التسعينات ليرضي شهية السلفيين المتزايدة للسلطة. وهكذا شهدت التسعينيات من القرن الماضي موجة جديدة من الفكر السلفي الذي احتل مساحات إضافية في وقت تتراجع فيه السلطة السياسية الى الوراء بفعل الإنهيارات الإقتصادية.

لقد داوت السلطة الخطر السلفي المتصاعد بمزيد من العطاءات. فهو التيار الوحيد الذي يهدد شرعية النظام على أساس ديني، وهو التيار الوحيد الذي يمتلك من القوة (بسبب تشربه في أجهزة الدولة واستقوائه بها) التي تجعله مهدداً للعائلة المالكة. وهو التيار الوحيد الذي يمتلك مخزوناً من العنف والفكر المتطرف القابل للإشتعال في أية لحظة. وأخيراً هو التيار الوحيد الذي يشترك مع العائلة المالكة في الخلفية الإجتماعية، والذي يمكنه أن يهددها في بيتها.

ورغم هذا، لم تكن تلك التنازلات الواضحة والصريحة، الإعلامية والمالية والسياسية وغيرها، لتخفي حقيقة أن التيار السلفي يطالب بالمزيد، وأنه غير راضٍ عن كثير من سياسات الدولة الداخلية والخارجية. ولم تكن تلك التنازلات لتتوقف والجمهور السلفي يرى ضعف الدولة وتقهقرها أمامه. فضلاً عن أن تلك التنازلات جاءت بمطالب جديدة لم تكن لتطرح من قبل، مثل الوجود الأجنبي في المملكة، خاصة الأميركي منه، والإنسحاب من المنظمات الدولية، ومطالبة الدولة بالتحول الى دولة جهادية عبر المشاركة في جهاد المسلمين في مناطق العالم المختلفة، باعتبار ذلك وظيفة من وظائف الدولة الدينية.

ولا يغيب عن البال أيضاً، أن الوضع الإقتصادي المتردي أصاب السلفيين كما أصاب غيرهم بسهامه، وإن كانوا الأقل تضرراً. وهذا أدّى الى اقتحام الفضاء السياسي معزّزاً بثورة الإنترنت والإتصالات والقنوات الفضائية التي فتحت عيون السعوديين جميعاً على واقع ومعلومات عن السلطة والعائلة المالكة لم تكن في الماضي معروفة إلا لفئات جد محدودة. وهذا أكسب الحركة السلفية المطالبة بالمزيد من السلطات زخماً جديداً.

 هيكلة جديدة.. معالجة جديدة

 عشية تفجيرات نيويورك وواشنطن، بدا واضحاً أن العالم كله دخل منعطفاً جديداً، والمملكة أصبحت في عين العاصفة نظراً لمساهمة سعوديين في تلك التفجيرات، ونظراً لأن الفكر الذي حمله أولئك محلي الإنتاج بالدرجة الأولى، كانت الحكومة السعودية تدعمه وتعزّز نشره في الداخل والخارج، كجزء من صفقة التحالف بين الوهابية وآل سعود.

تعرض التحالف المذكور أعلاه، ولايزال، الى ضغوطات حادّة لتفكيكه، ليس من قبل الداخل المشمئز من احتكار السلطة، ومن الضغط الإجتماعي والسياسي على قاعدة التفسير المذهبي الوهابي، بل وأيضاً ـ وهذا هو المهم ـ من الخارج، وبالتحديد من الولايات المتحدة الأميركية. لم يعد التحالف السعودي ـ الوهابي شأناً محليّاً مرتبطاً بموازين القوى وبلعبة السياسة الداخلية لتفادي ضغط من هذه الجهة أو تلك أو من أجل ضرب هذا التيار بذاك. إنه اليوم ـ وبعد أحداث 11 سبتمبر ـ شأن دولي، أميركي غربي بالدرجة الأساس.

ولهذا السبب، توجّهت الضغوط الى الحكومة السعودية من أجل فكّ الإرتباط بين الطرفين (الديني والسياسي) أو لنقل بين (الدين والدولة) أو بين (الوهابية وآل سعود). ولما كان هذا الأمر صعباً وقد يبدو مستحيلاً بالنسبة للبعض، نشطت الضغوط الداخلية والخارجية لـ (تقليص) قوة المؤسسة الدينية، وإضعافها ضمن جهاز الدولة، أو إعادتها الى حجمها، عبر سحب بعض صلاحياتها المباشرة (الرئاسة العامة لتعليم البنات) أو عبر الدعوة الى تطعيم المؤسسة الدينية بآراء مذهبية محلية مختلفة بحيث تمثل عموم الشعب وتحدث التوازن والإعتدال في القرار والفكر الديني، أو عبر الدعوة الى الخروج من آسار الرأي والفكر الواحدي، أو عبر تغيير المناهج أو على الأقل تعديل بعضها، إضافة الى إجراء إصلاحات سياسية تعيد التوازن السياسي الداخلي وفق منظومة أفكار ومصالح مختلفة، الخ.

مسألتان لم يكن في وارد السلطة بالأمس ولا توجد مؤشرات لهما اليوم أن تقدم عليهما، وهما مرتبطتان بشكل أعمق مما يبدو ظاهرياً: الأولى: ليس في وارد السلطة أن تدمر أُسس التحالف الوهابي السعودي، مهما بلغت الضغوط شدّة. والثانية: ليس في وارد السلطة القيام بأية إصلاحات سياسية جادّة. حين وقعت تفجيرات نيويورك لم يتصور صانع القرار السياسي أن تكون الضغوط مكثفة بشكل حادّ، ولم يكن ينوي تغيير مجرى التحالف حتى ضمن الحدود الدنيا مع التيار السلفي. لكن تصاعد حدّة العنف الداخلي فتح ملفات فكرية وثقافية وسياسية، وحاز الطاقم السياسي على مبررات للقيام بإجراء (تعديل) في ميزان قوى التحالف بين الطرفين، وهو ميزان بدا وكأنه لن يميل لصالح التيار السلفي، وهذا ما يزعجه بشكل شديد في الوقت الحاضر.

لكننا مع هذا لم نرَ حتى الآن إرهاصات حقيقية في طريق هيكلة العلاقات بين المتحالفين، وإن كان البعض يرى أنه سيتم بصورة تدريجية، بحيث يحافظ على أصل التحالف من جهة، ومن جهة ثانية لا تؤدي الهيكلة المنتظرة الى تنازلات سياسية لقوى أخرى في المجتمع، أو بصحيح العبارة لا يؤدي الى إصلاحات سياسية تزيد من هامش المشاركة الشعبية. يضاف الى هذا، فإن ما تفكر فيه العائلة المالكة من هذه السياسة هو إرضاء (نسبي) للولايات المتحدة، وإرضاء (نسبي) غير سياسي للجمهور.

 حلول قديمة جديدة

 حسب التجربة التاريخية، فإن المسؤولين السعوديين تعاطوا مع كل الأزمات التي واجهت التحالف باستراتيجية واحدة تتلخص في النقاط التالية:

1 ـ محاصرة العنف عبر قطع الجذور الدينية التي تشرّعه؛ وتحديداً عبر فصل المؤسسة الدينية الرسمية ورموزها عن تيار العنف، ورفع المظلّة الشرعية عن جماعات العنف وبالتالي محاصرتها شعبياً والقضاء عليها بعنف مضادّ.

2 ـ إعادة التوازن من جديد للتيار الديني الرسمي، بمنح صلاحيات جديدة لجناح (السلطة) نفسه، حتى لا تظهر الدولة وكأنها تقوم بدور تدمير (المذهب)، وحتى تسهّل عملية إندمال الجراح التي تعقب المواجهات العسكرية العنيفة.

3 ـ مع الزمن، ومن أحشاء المؤسسة الدينية الرسمية تظهر جماعات العنف والتمرد مجدداً كما تظهر وجوه جديد تقود العنف فيما يتراجع القدامى الى صفوف الإعتدال النسبي، بسبب أن الفكر هو ذاته صانع ودافع للعنف، بمعنى أن المخالب ما تلبث أن تنمو من جديد، فتعود الدولة لتكرار العملية الجراحية في استئصال الزوائد العنفية!

ينسى صانع القرار، أنه نتيجة هذه السياسة أن سلطات التيار السلفي تتراكم مع الزمن، وأن الإنشقاقات حتى وإن قمعت تفضي الى المزيد من الصلاحيات، التي تؤدي بدورها الى المطالبة بالمزيد منها فتكثر الإنشقاقات وتتسارع. المكسب الحكومي ـ في ظاهره ـ يتلخص في تسكين الوضع الى حين، قبل أن يكبر جنين العنف، وكذلك في إبعاد شبح الإصلاح السياسي والتيارات السياسية غير السلفية عن حريم السلطة وإن بصورة مؤقتة.

فهل الدولة الآن، وهي تقف أمام تقاطع طرق، بصدد تكرار للتجربة الماضية؟

أي هل الدولة بصدد استخدام العنف ضد تيارات العنف السلفي من جهة، وضخّ المزيد من القوة للتيار السلفي غير العنيف إرضاءً له ومكافأة لوقوفه الى جانبها، وفي نفس الوقت إبعاداً وتمطيطاً للإصلاح السياسي الذي اكتسب زخماً كبيراً منذ أحداث سبتمبر 2001؟

ما يبدو ظاهراً أن السلطة في المملكة تكرّر معالجاتها القديمة المجرّبة، وهي بهذا تميل الى الحلول التكتيكية، المهدّئة، أكثر من كونها بصدد نهج سياسي جديد، او رؤية جديدة لموضوعة التحالف الوهابي ـ السعودي.

مالذي يجعلنا نميل الى هذا الإستنتاج؟ الجواب: حتى الآن لم تظهر بوادر لمشروع أو رؤية حكومية مختلفة. لا إصلاحات سياسية في الأفق، ولا لاعبين جدد يغيّرون ثنائية الصراع والتحالف الوهابي السعودي، وفي المقابل هناك ضخ للمزيد من الصلاحيات للسلفيين والمؤسسة الدينية، ويمكن اكتشاف ذلك من الحضور الإعلامي المكثّف في وسائل الإعلام الحكومية، وتضييق في الطرف الآخر على حضور الأصوات الأخرى ومنعها في أحيان كثيرة. هناك مواجهة لتيار العنف، وهناك تنازلات حكومية لمن تسميهم بالمعتدلين السلفيين (الذين كانوا بالأمس رموز التشدّد!) والذين بدأوا باستثمار ما قام به نظراؤهم العنفيون سياسياً فطرحوا مؤخراً مشروع الحوار مع جماعات العنف وأعلنوا أنفسهم وسطاء فيه (سفر الحوالي ومحسن العواجي).

إذن قد نكون مقبلين على تنازلات حكومية جديدة للتيار السلفي، ومقبلين على تأجيل أكثر للإصلاحات. فعلاقات التحالف باقية، واللاعبون هم اللاعبون، والبقية ينتظرون نتيجة اللعبة لا أن يشاركوا فيها. ونتيجة اللعبة معروفة سلفاً: قمع لدعاة العنف، وهذا قد لا ينجح تماماً، ومن جهة ثانية سيحصل السلفيون على صلاحيات جديدة، أما دعاة الإصلاح فلهم الديكور والتجميل والوعود المستقبلية.