أشكال حرية التعبير في المملكة

العمل المطلبي ودوره في تحفيز فاعليات التغيير

علي الدميني

 تعيش بلادنا مرحلة مخاضات صعبة وهي تواجه أسئلتها المعلقة واستحقاقاتها المؤجلة، في ضوء تراكم الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية. وقد شجعت هذه الحالة على ارتفاع وتيرة طبيعة الحراك الاجتماعي المطلبي، حيث نشهد الكثير من قوى المجتمع ـ المعبرة عن أطيافه الثقافية والفكرية والمناطقية والطائفية ـ وقد انخرطت في عملية التعبير عن آلامها وتطلعاتها وأحلامها بحياة تكفل لها حقوقها في الحرية والعدالة، والمساواة، وتكافؤ الفرص، في دولة المؤسسات والقانون.

وقد أخذت أشكال التعبير عن هذا الحراك خلال العامين المنصرمين اساليب مختلفة، تراوحت بين الحديث او الكتابة النقدية في الوسائل الاعلامية المتاحة كالصحف ومحطات التلفزة، وبشكل أكثر شجاعة في الانترنت، و بين شكل آخر اعتمد مفاعيل الصوت الجمعي عبر حشد التواقيع على البيانات والمطالب الاصلاحية الشاملة، فيما برزت مؤخرا حركة الشارع عبر المظاهرات المحدودة في بعض مدن المملكة.

وإذا كانت الأشكال السابقة تمثل التعبير الحضاري المتاح عن الحراك الاجتماعي المتمسك بالوحدة الوطنية والمتطلع إلى آفاق الأمل بالبدء في عملية الاصلاح الجذري الشامل الكفيل بحل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة، فإن ظاهرة التطرف والعنف المسلح التي طالت معظم مناطق بلادنا، لا تعبر عن آلية حراك إجتماعي إصلاحي محمل بالأمل، وإنما تعبر عن حركة راديكالية يائسة لدى التيار المتشدد، تتوسل به لإقامة بديل آخر.

وبالرغم من أنني أنطلق هنا من إيماني بحق كافة القوى في التعبير عن حقوقها، ولا أهمش دور الاوضاع المتأزمة التي يمكن أن تقود أي تيار لاتخاذ الشكل الملائم للمطالبة بحقوقه، إلا أنني أدين وبشكل مبدئي قاطع كافة أشكال العنف المسلح كوسيلة للمطالبة بهذه الحقوق مهما كانت مسبباتها.

وهنا، أدون خلاصة لرأيي وتقويمي لاشكال التعبير عن الحراك اجتماعي المطلبي الذي عشناه خلال العامين الماضيين: البيانات والخطابات المطلبية، المظاهرات، العنف المسلح، الميثاق الوطني للإصلاح.

 البيانات والخطابات المطلبية

 تأخذ البيانات الموجهة للرأي العام موقعها ضمن منظومة التعبير السلمية المكفولة للأفراد والجماعات، وللمنظمات المهنية والنقابية والسياسية في المجتمعات المتحضرة، والتي غدت فيها حقوق المواطنة وكفالة حرية التعبير عن الرأي مقوماً أساسيا من مقومات المجتمع.

وتأسيساً على ذلك الحق الدستوري المشروع لحرية التعبير السلمي بكافة أشكاله، فإن منظمات المجتمع المدني المختلفة تقوم بتوظيف البيانات والخطابات المطلبية للتعبير عن آراء منتسبيها إزاء كافة القضايا المهنية والاجتماعية والسياسية الداخلية والخارجية، مستهدفة تأكيد ممارسة حق التعبير عن الرأي، وترسيخ مفهوم التعددية، والاسهام في تشكيل الرأي العام، و تجسيد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار على كافة متسوياته.

وفي بلادنا، لم يتمتع بهذا الحق سوى تيار متشدد من أتباع مذهب واحد من المذاهب السنية الأربعة، بينما حرمت منه كافة المذاهب والطوائف الاسلامية والفعاليات الثقافية والفكرية الأخرى، مما ساعد على تبلور ظاهرة الغلو والتتشدد واحتكار الحقيقة والذي أفضى بعد ذلك إلى تفشي ظاهرة العنف المسلح التي تعاني منها بلادنا بشكل لاسابقة له.

وفي ظروف حرمان كافة مكونات المجتمع المدني من حق التعبير عن آرائها، فإن البيانات والخطابات المطلبية التي وقعها الكثير من اصحاب الرأي والخبرة والمهتمين بالشأن العام في بلادنا خلال العامين الماضيين، تغدو ـ من الناحية الأولى ـ تعبيراً واضحاً عن حالة حراك إجتماعي مطلبي واسع يؤكد على حق الأفراد والجماعات في التعبير عن مواقفهم ورؤاهم، وفق معادلات القدرات الذاتية للمجتمع وتراثه المطلبي مع الظروف الموضوعية الداخلية والخارجية. كما أنها تقوم (من الناحية الثانية) بدور الحاضنة التأسيسية لنهوض مكونات المجتمع المدني المغيبة لكي تلعب دورها التاريخي المأمول في صياغة مقومات الدولة الحديثة في بلادنا.

وبعيداً عن الشعارات والأحلام البراقة، يمكنني التأكيد، كمشارك في الكثير من هذه الوثائق، على الطبيعة الإصلاحية لهذه المطالب القائمة على التمسك بالوحدة الوطنية، وبناء دولة المؤسسات والقانون، والالتفاف حول القيادة السياسية لبلادنا، ومطالبتها في الآن ذاته بتنفيذ كافة المطالب الاصلاحية الشاملة الدستورية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية للحفاظ على كيان الدولة ودعم استقرارها وأمنها ورخاء شعبها.

ولعل من اللافت لنظر المتابع لتفاصيل الخطاب المطلبي المعبر عن المطالب الحقوقية للطوائف الدينية (شركاء في الوطن، الوطن للجميع، والجميع للوطن) وتلك المعبرة عن حقوق المرأة (وثيقة المرأة السعودية) ملاحظة إعتمادها مبدأ الاصلاح الوطني الشامل كمدخل للقضاء على كافة أشكال التمييز الذي يعيشونه، كما يلاحظ أيضاً أن الخطاب المطلبي (الحقوقي والسياسي) في كافة مراحلة التاريخية في بلادنا كان يمر بوتائره العالية متصاديا مع ارتفاع حدة الأزمات الداخلية وما يرافقها من تجليات التحديات والمؤثرات الخارجية منذ الخمسينات وحتى اليوم، إلا أن العقد الأخير منها قد تميز بدرجة عالية من الشمولية المطلبية المستمرة، وهو ما يؤكد الحاجة الملحة للاستماع إلى تلك المطالب والبدء الفوري بتنفيذها، في ضوء ما حددته خطابات ووثائق المطالب المقدمة إلى القيادة السياسية في العامين الأخيرين.

 المظاهرات

 كفل الاعلان العالمي لحقوق الانسان الذي وقعت عليه بلادنا حقوق التعبير السلمي عن الرأي، ومن ضمنها حرية التجمع والاعتصام والتظاهر، وتضمنت وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) المقدمة لسمو ولي العهد الأمير عبد الله حفظه الله، فقرة تطالب بكفالة حقوق التعبير عن الرأي ومن ضمنها حق التجمع، ولذا فإنني من المطالبين بضمانة العمل بتطبيق هذا الحق، ولكنني أيضا أقدر حداثة ممارسة مجتمعنا لهذه التجربة، ولذا أدعو إلى سن القوانين المنظمة لمشروعية هذه التظاهرات، بحيث يتم الحصول على الترخيص بقيامها من الجهات المعنية والتي تحدد المكان والزمان المناسبين لها، وضمانة تهيئة الترتيبات اللازمة للمحافظة على تعبير المظاهرة عن مطالبها بالطريقة السلمية التي لا تخل بالنظام العام ولا تسمح بالتعدي على الممتلكات العامة أو الخاصة.

 التطرف والعنف المسلح

 وبالرغم من أن ظاهرة الغلو والتطرف في التعبير عن الرأي بالكلمة، أو باستخدام أدوات القتل ظواهر بشرية محايثة للوجود والاجتماع البشري، إلا أنها تأخذ حيزاً أكبر، وتصبح خيارا وحيدا حين يتم تكريس الثقافة الأحادية الطابع في المجتمع (العائلة، العمل، الوطن) وذلك من خلال منح حقوق السيادة لطرف دون الآخر، كالأخ الأكبر دون الأصغر أو الولد دون البنت، والمصلح الديني دون المصلح الاجتماعي، أو هيئة الأمر دون هيئة التربية والـتأهيل، وتشجيع التعليم الديني أكثر من التعليم العام (كمدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية الدينية)، والسماح للجمعيات الدعوية الدينية باحتكار مجالات النشاط التثقيفي دون غيرها من جمعيات المجتمع المدني. وبذلك يتم تكريس فاعلية الاستقطاب الأحادي، فيصبح المجتمع أكثر انغلاقا وأقل تسامحا مع الرأي الآخر، سواءً في أساليب الحوار أو في مكونات مواد التثقيف أو في مساحات التعبير المتاحة أمام الجميع للمطالبة بحقوقهم الحياتية الأساسية والاعلان عن مشاريعهم النهضوية لتطور الوطن.

وبدون الذهاب إلى التفاصيل الطويلة والكثيرة، يمكن القول بأن ظروف توحيد المملكة قد استدعت الكثير من مركزة النشاط الثقافي والاجتماعي والدعوي الديني، مع الإعلان عن حق المواطنين في مناطق مختلفة من المملكة بالاستمرار بالعمل وفق تنظيماتهم الدينية والمدنية كالمجالس البلدية في مكة، ومجلس الشورى، وتمتع الشيعة والاسماعيلية بحقهم في ممارسة شعائرهم الدينية حسب ما اعتادوا عليه. ولكن التطورات اللاحقة وعلى مدى سنوات طويلة ألغت تلك الحقوق وفرضت تفرد تيار ديني باحتكار مرجعية الفتوى والرأي ونشر الثقافة الدينية في مختلف أرجاء الوطن. وقد أدى هذا الاحتكار إلى إلغاء الحوار داخل التيار الديني الواسع، وشرعنة بروز تيار متشدد فرض نفسه كوجه وحيد لصورة الإسلام، ومنحه حق التفرد ورفعه إلى مصاف التقديس الذي لا يقبل رأيا سوى اجتهاده.

وحيث لم تتبلور في بلادنا أشكال المؤسسات الدستورية أو المدنية، فقد تم رفع شعار الأمن والأمان كشعار بديل للمطالبة بحقوق المواطنة الأساسية، وكبديل عن تشكيل دولة المؤسسات القانونية التي تنبني على وجود دستور مكتوب، ومجلس شورى منتخب يجسد المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وسن القوانين المدنية ومراقبة أداء الحكومة، وكذلك في قيام سلطة قانونية مستقلة للقضاء.

 الرهان الشعبي ورهان الخارج

 ما هي العلاقة بين الرهان الشعبي على ضرورة التغيير وبين الضغوط الخارجية؟ وما هي مشروعية تمثيل النخب الصغيرة للشارع؟ ولماذا لم تقم بتفعيل المطالب بين الجماهير قبل رفعها إلى القيادة السياسية؟

فيما يخص العامل الداخلي فإنه ينبغي الانطلاق من أن تراكم التجربة الانسانية ـ ضمن ظروف المكان والزمان ـ تعتبر بحد ذاتها ثورة في داخل أنساق القيم او المكتسبات المعرفية او الاحتياجات، وهي ثورة عليها عبر ما ينتج عن تلاقح وتثاقف إرادي أو قسري مع العالم عبر وسائط الاعلام الاختراقي لجدران الرقابة الاخلاقية والثقافية والرسمية على السواء. إن التدافع الشعبي نحو التغيير هو نتيجة طبيعية لمجمل تراكم المكتسبات الثقافية والاقتصادية واستجابة لفاعلية العوامل المؤثرة على الظرف الموضوعي في جانبه الذاتي وجانبة الخارجي أيضاً.

وحين يتم في داخل المجتمع تغييب فاعلية مؤسسات المجتمع المدني السياسية والنقابية والثقافية عن التعبير عن مطالب وآراء الأفراد و الجماعات، فإن الرهان الشعبي يعمل على تضخيم دور العامل الخارجي نتيجة لعدم استجابة المؤسسات الرسمية لضرورة التغيير. وهو رهان متغير وذو سمة مزاجية في التعبير عن ذاته، إما بالاحباط وتكريس روح التخاذل أو اللامبالاة، أو بالانفجار في لحظات بشكل لا يمكن التنبؤ به، ومن ذلك المظاهرات ـ غير المتوقعة من الكثيرين ـ التي حدثت في أكثر من مدينة سعودية.

أما فيما يخص العامل الخارجي، والذي يمكن تحديده بشكلين هما تاثر المعارضة المطلبية من الخارج من جهة، وتأثير ضغوط الدول الأجنبية على الوضع الداخلي من جهة أخرى.

وفيما يخص الجانب الثاني، فارى أن السياسات الامريكية الجديدة وخاصة بعد 11 سبتمبر تسعى لفرض سيطرتها الشاملة على العالم وعلى مقدرات وثروات المنطقة العربية تحديدا، وذلك تحت عناوين مكافحة الإرهاب والخطر الإسلامي أو الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة والجماعات الإثنية والدينية، وذلك بصورة ذرائعية تصب في طريق تحقيق مصالحها وسيطرتها المطلقة على المنطقة، واستخدامها كورقة ضغط وابتزاز إزاء المنافسين الآخرين أو إزاء حكومة بلادنا.

وبالرغم من كل ذلك، لا يمكننا إغفال الأهمية الكونية لهذه القيم والمفاهيم باعتبارها تمثل ضرورة وحاجة مشتركة لكل البشر. ولذا يمكن أن تتقاطع مصالح تطوير بلادنا مرحليا مع تلك الشعارات، وعلينا الاهتمام بها والسعي بكل السبل لتعزيز فعاليات تطبيقها في وطننا وفي كل مكان من العالم.

أما فيما يخص تأثير المعارضة الخارجية فإنني أتركه للزملاء المساهمين من خارج المملكة للحديث عن فاعليته فهم أدرى به مني.

هل احتكرت النخب الثقافية في بلادنا (وأفضّل استخدام مصطلح: المهتمين بالشأن العام) أمجاد التعبير عن الحراك المطلبي الاجتماعي، وتمتعت وحدها بتيجان أمجاده وأعطياته؟ وهل حجبت جهودهم حركة الشارع أو استلبته حرية وامكانية التعبير عن مطالبه؟ هل سرقت المجموعات المطلبية الفاعلة خلال العامين الماضيين جهود مجموعات منافسة أخرى؟ هل تأخرت عن حركة الشارع أم أنها أسهمت في فعاليته وتأطيره ضمن معادلات موازين القوى والمساحة الممكنة التي يمكن الاستحواذ عليها؟

أسئلة كثيرة يمكن استلالها من ثنايا العديد من العبارات والتعليقات، والاحاديث التي تتركز حول دور النخب الثقافية او دور المهتمين بالشأن العام في بلادنا؟

ولكي نفي هذا الموضوع حقه ـ ويبدو لي أنه سؤال اللحظة المفخخة ـ، فلا بد من تحديد طبيعة القوى الاجتماعية التي ما زالت اكثر قدرة على التحكم في حركة المجتمع، ومن ثم نقوم بموضعة فعل النخب الثقافية ضمن إطارها العام.

وباختصار، يمكن القول، بأن قوى المجتمع الحديثة، لم تزل مغيبة عن لعب دورها النقابي والفكري والسياسي في بلادنا، وهذا ما يساعد على استمرار تكريس فاعلية القوى التقليدية في المجتمع، وأبرزها قوة مشاعر الانتماء القبلي والمناطقي، والطائفي، فيما تم ترسيخ دور تيار ديني سياسي متشدد ووحيد استطاع أن يكون القطب الأكبر الذي تتجمع في إطاره أكبر حركة إجتماعية فاعلة.

إذن ما هي هذه النخب وما هو موقعها؟

أرى أن النخب الثقافية المنخرطة في الحراك الاجتماعي المطلبي السلمي، تعبر عن تعدد في مرجعياتها، وعن قلة في عددها، وعن ممارسة آلية عمل الأفراد لإنجاز أي مشروع مطلبي جرى التعبير عنه حتى الآن. وبالتالي لم تستطع أن تشكل منبراً متجانساً، أو كياناً ثقافياً ونقابياً صلباً حتى الآن، ولا أعتقد أنها تعمل على إنجاز ذلك أصلاً. لماذا؟ لأن هذا النهج هو التعبير الطبيعي عن حراك ثقافة الأفراد إزاء ثقافة المجموع، وهو الخيار المتاح لتجسيد حراك إجتماعي مطلبي غني بتنوعه ويرتكز على القواسم المشتركة المفتوحة لا البرامج المنسجمة. كما أعتقد أنه وسيلة مطلبية مرحلية مهمة للتأسيس لتعايش تعددية المواقع وتعددية الآراء، وتهيئة المناخ لانخراط المواطنين في العمل المطلبي من خلال مطالبتهم بتكوين جمعيات المجتمع المدني الثقافية والفكرية والسياسية؟

إن هذا النشاط المفتوح على كل الخيارات هو الأكثر نجاعة في نظري للاسهام في تطوير فعل القوى الاجتماعية الحديثة لكي تخرج من أسر البنى التقليدية المبنية على الانتماء القبلي أو الطائفي، إلى مرحلة تشكيل القوى الاجتماعية الحديثة التي تعتمد على شراكة المصلحة الخاصة والعامة معاً، وتؤسس للقبول بالاختلاف وحق الآخرين في التواجد والتعبير عن قناعاتهم، وتسهم في تسييد ثقافة التسامح ضد ثقافة الاحتكار والإقصاء أو الانتماء المناطقي أوالطائفي؟

ولنتساءل مرة أخرى: هل يعكس هذا العدد المحدود من النخب الثقافية عن ثقل مختلف القوى الاجتماعية في بلادنا؟ وهل عبر عن هموم الناس واختناقات حياتهم المعيشية اليومية أم اكتفى بهموم المثقفين الذين ينشغلون بالمسائل الدستورية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار؟

وحين نحاول الإجابة على الشق الأول من السؤال، فإن عيلنا التحرز في إطلاق الأحكام، ولذا يمكن القول بأن هذا العدد المحدود من النخب الثقافية يعبر في تنوعه عن قوى عديدة في المجمتع، ولكنه لا يعبر عن كافة القوى والشرائح الاجتماعية، لا من حيث العدد، ولا من حيث محتويات الخطاب، أو أدوات مقاربة تشخيص الواقع وطرح رؤية لحل أزماته. ورغم ذلك فهناك تمثيل نوعي معقول، يمكن البناء عليه وتطويره لكي يستمر في التعبير عن تشكل جنين مشتركات الاجماع الوطني المطلبية العامة حول ما يمكن تسميته بالميثاق الوطني الاصلاحي.

وأخيراً لنسأل: هل أعاقت الحركة المطلبية للنخبة تطلعات الشارع، أم خذلتها، أم تخلفت عنها؟

لكلٍ منا مطلق الحق في تقويم هذه التجربة الوليدة، ولكنني املك الحق الشخصي في القول بأنها أسهمت في خلق مناخ مطلبي إصلاحي شامل، تجلى في وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي قدمت في يناير الماضي لسمو ولي العهد، والتي تضمنت مقاربة معمقة وشاملة لكافة القضايا الدستورية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي ينبغي معالجتها، والمبادرة الفورية إلى تنفيذها من خلال القرار السياسي المأمول.

وبالرغم من أن الاستجابة لهذه المطالب ما زال وعداً منتظرا، إلا أن هذه المطالب قد عززت مشروعية حق الإفراد والجماعات في التعبير عن مطالبهم بالطرق السلمية، وأكدت على حقوق المواطنة، والتمسك بالوحدة الوطنية، والاعتراف بالتعددية الثقافية، وضرورة حل كافة الاشكالات المعيشية التي يعانيها المواطن، وجسّرت أبواب الحوار مع القيادة السياسية، وعمقت فتح أبواب الأمل التي لا يمكن أن تبقى مشرعة إلا باتخاذ القرارات السياسية الهامة، للبدء في تنفيذ مشروع المطالب الاصلاحية الجذرية في كافة مناحي الحياة.

 تقييم الحركة المطلبية

 أما وقد تحدثنا عن أشكال التعبير عن الحراك المطلبي الاجتماعي المرحلي، فلننطلق إلى سؤال الأولويات: ما تقييمنا لاستجابة الحكومة للخطاب المطلبي، وما هي أهم الخطوات المناسبة لتعزيز فاعلية عمل الحراك المطلبي؟

هناك تفاصيل طويلة اكتنفت عملية الحراك المطلبي عبر البيانات والخطابات الموجهة للمؤسسة الرسمية لا يمكن الحديث عنها الآن، ولكن يمكن الإشارة إلى قلة التجاوب مع حركة التوقيع على المطالب رغم اتفاق المعتذرين على ضرورة إعلانها، وهناك من الفعاليات المؤثرة من رأى أن سقف هذه المطالب أعلى من إمكانات المرحلة. وعلى كل حال يكفي هذا الجهد المتواضع أن أعطى مشروعية للتعبير عن الحراك المطلبي السلمي ضمن هذا السقف الذي تضمنته وثيقة (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) ويكفي أنه فتح الباب على مصراعيه للحديث عن أرضية مشتركة تقف عليها غالبية شرائح المجتمع ونخبه الثقافية حتى التي لم توقع على الوثيقة، وكل ذلك دشن مرحلة حوارية مهمة وتوافقا مرحليا يعبر عن شبه إجماع وطني حول صيغة المطالب الاصلاحية الأساسية.

إننا في معرض تقويمنا لمنجز تأسيسي لرؤية وبوصلة تشير إلى الأهداف، لا يمكن أن نغفل عن أن ما تحقق ليس اكثر من خطوة أولى للتعبير عن الألم، فهل يكفي رفع الصوت تعبيرا عن حاجة مستحقة للاستجابة لمطالب الاصلاح؟ أم أن الظروف تستدعي أكثر من ذلك؟ هذا هو السؤال الذي قذفته البيانات والخطابات المطلبية إلى أعماق البحيرة الراكدة، وهذا هو الهدف المرحلي الذي أنجزته، وعلى الجميع التفكير في تعزيز آليات فاعلية الحراك المطلبي، ولعل الميدان مفتوح أكثر من أي وقت مضى لابتكار الاساليب السلمية الناجعة لرفع سقف الحراك الاجتماعي للمطالبة بالشروع الفوري في تنفيذ الاصلاحات.

يؤسفني أن أشير إلى أن استجابة الحكومة حيال المطالب الإصلاحية مازالت بطيئة وغير عملية، وتشبه الإلتفاف على المطالب أكثر من التعاطي الموضوعي الجاد معها. كان ينبغي ربط انتخابات المجالس البلدية بانتخابات قادمة لمجلس الشورى في غضون ثلاثة أعوام مثلا. وكان يمكن البدء الفوري بتمكين مجلس الشورى الحالي من ممارسة دوره التشريعي والرقابي على أعمال الحكومة ومصروفاتها. وكان يمكن البدء بتشريع عمل جمعيات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الانسان.

ولأن أياً من ذلك لم يحدث فإنني أجد نفسي متفقاً مع من لا يرى في مركز الحوار الوطني، ولا في التصريحات الحكومية، ولا في الإعلان عن الانتخابات النصفية للمجالس البلدية أي دوافع لبعث الأمل، وإنما أجد فيها كثيراً من تكريس علامات الاحباط.

بيد أن ذلك لايجب أن يدفعنا إلى اليأس، ولا بد من دفع عملية المطالب الإصلاحية السلمية إلى آفاقها الواعدة مهما كانت الصعوبات.

كما أرى أن الوطن يمر بمرحلة صعبة، يواجه فيها خياراته القاسية، وعلينا الوقوف ضد الإرهاب ومقاومة اختطاف الوطن من قبل القوى المتطرفة، وهنا أعلن إدانتي لاعمال التطرف والعنف والارهاب، كما أطالب في نفس الوقت القيادة السياسية بالشروع الفوري في تنفيذ مطالب الاصلاح الشامل.

لكن المهم الآن، هو تعزيز آليات الخطاب المطلبي الكفيل بحث الحكومة على أهمية وضرورة الاستجابة للبدء في تطبيق هذه المطالب؟ والسؤال عن تلك الكيفية: هل نذهب إلى خندق العنف المسلح والارهاب الذي ترفضه كل الفعاليات الوطنية المؤثرة والمنخرطة في الحراك الوطني؟

هل نراهن على التدخل الأمريكي الساعي لإعادة رسيم الخرائط في المنطقة و من ضمنها بلادنا، وهو ما رفضه الموقعون على بيان (في خندق الشرفاء)؟

أرى ببساطة متناهية أن علينا الذهاب إلى الجماهير، وتشجيعها على الانخراط في العمل المطلبي السلمي للحصول على حق إشهار جمعياتها ونقاباتها المهنية والفكرية والاجتماعية والحقوق إنسانية؟ وفي خضم هذا الحراك الذي لن يكون سهلا ولا يسيرا ولا قصيرا أيضا سوف تنضج الظروف الموضوعية لتشكيل الاحزاب السياسية المعبرة عن مصالح وآمال كافة القوى الحديثة وكافة الشرائح والطوائف الاجتماعية في بلادنا، فيما بعد.