هل تصلح الدولة ما أفسدته السلطة؟

 

هل ثمة ما يفسّر قراري القيادة السياسية في بلادنا في إعلان انتخاب نصف أعضاء المجلس البلدي وتالياً التعديلات الواردة في نظام مجلس الشورى في ضوء التطلعات الاصلاحية لدى التيار العريض من السكان؟

يبدو أننا قد وصلنا الى مرحلة تفرض طرح المزيد من الاسئلة حول الاصلاح السياسي بسبب البون الشاسع بين رؤيتين ستاتيكية تقليدية وديناميكية واقعية: رؤية الطبقة الحاكمة، ورؤية التيار الوطني العام، الذي كان شديد الوضوح في التعبير عن أجندته في الاصلاح السياسي عبر وثيقتين متقنتين شكلاً ومضموناً، ورؤية الطبقة الحاكمة التي لم تعبّر عن نفسها سوى بقرارات وصفها أحدهم في تعبير تضادي ساخر بأنها أشبه ما تكون بخطوات أمامية للوراء. فما تأمله دعاة الاصلاح في تغييرات جوهرية في مجالس الشورى والمناطق جاء عكسياً من خلال البدء من أبجدية اصلاحية خارج اطارها الزمني الاصلاحي. 

لم يظهر حتى الآن أن هناك إرادة عليا في الاصلاح بمفهومه الشامل كما عكسته عرائض التيار الوطني بكافة أطيافه الايديولوجية والسياسية، فالمنهج الذي تسير عليه الحكومة ينزع الى تجاوز أي رغبة شعبية في التغيير السياسي، ويؤكد بأن الاصلاح أملاً معلّقاً في الهواء وأن ما يترجم على الارض هو ما تمليه حاجة ومصلحة أهل الحكم.

إن هذا المنهج، كما يفسّر نفسه عبر القرارات الأخيرة،  يصدر عن إحساس متعاظم بالخطر من تكسّر السلطة الى أجزاء تفقد معها العائلة المالكة تدريجياً إرثها السياسي ومجدها التاريخي، وهو المنهج الذي يطبع سياسات الدولة في التعاطي مع الشأن العام بكافة أبعاده الاقتصادية والامنية والدينية. فارتفاع معدلات البطالة وتفاقم الازمة الاقتصادية قد لا يعني لولاة الأمر مشكلة وطنية بقدر ما ينظر اليه بما يعكسه من مخاطر على السلطة وتماسكها، تماماً كما أن تدهور الاوضاع الأمنية وسقوط الضحايا في عمليات إرهابية لا ينظر اليه بما يحمل من تهديدات لأمن المواطنين بقدر ما يتركه من تأثير على استقرار السلطة واستمرارها. وحتى التوترات الاجتماعية التي خلقها الخطاب الديني المتشدد لم تجر معالجتها في زمن كان ـ ومازالت بعض إنفلاتاته الخطيرة فاعلة ـ يصنّف السكان الى مؤمنين ومشركين وأهل توحيد وأهل ضلال، ولكن حين إرتد الخطاب على صانعه الأول واصماً إياه بنعوت كان قد زرعها فيه ليقذف به مخالفيه حتى خشي من إنهدام السلطة، إستنفرت الأخيرة كل قواها محثوثة بالدفع الخارجي والدولي من أجل تخضيد شوكة التشدد في الداخل فدخلت معه في معركة وجود كي لا يتمدد داخل حريم السلطة. فاعترافات الخضير والفهد كما توحي إجاباتهما أنهما تراجعا عن فتاوى كانت تمثل إعتراضاً على مبدأ الولاء للسلطة وليس لكون هذه الفتاوى قد زهقت أرواح، وخرّبت ممتلكات، تماماً كما فعل رجال دين آخرين في المؤسسة الدينية الرسمية شهروا سلاح التكفير في وجه خصومهم وبعضهم طارت رقابهم أو كادت بسبب فتاوى القتل التي كانت تصدر بمرأى ومسمع السلطة وفي أحيان أخرى بأمرها. هذا كله يفيد بأن السلطة أصبحت تدرء عن نفسها أخطاراً من صناعتها ولكنها في الواقت الراهن مهددة لها، مستبعدة مادون ذلك حتى وإن زعزعت أمن السكان ومعاشهم اليومي. 

ولذلك، فإن المشكلات التي تواجه الدولة تعالج وفق رؤية شديدة الخصوصية، تتعالق بدرجة كبيرة مع كون السلطة إمتيازاً خاصاً لابد من كف من هم خارجها ـ زعماً ـ عن الدخول فيها بدون إذن من أصحاب الأمر. وما لم تتبدّل هذه الرؤية فإن أية إصلاحات مرتقبة ستبقى هامشية وأسفل ـ بمسافة شاسعة ـ سقف التطلعات الشعبية في الاصلاح السياسي.  

هذه الرؤية تعكسها بوضوح قرارات القيادة السياسية في بلادنا خلال العقد الأخيرة، إذ تأتي غالباً محمّلة على تأكيد الهيمنة المطلقة والنهائية للطبقة الحاكمة، ولهذا السبب فإن القرارات التي تم العمل لفترات طويلة على إعدادها بإتقان في الدوائر العليا تفقد قيمتها المعنوية لدى السكان فور لحظة الافصاح عنها، لأنها تأتي دائماً على خلاف مع رغبة المجتمع. وبصورة إجمالية، فإن القرارات التي صدرت عن القيادة السياسية طيلة العقد الماضي وحتى الوقت القريب كانت دائماً مخيّبة للآمال وصادمة في أغلب الأحيان، كونها تعالج مشكلات السلطة ذاتها وليست مشكلات الوطن الذي يراد إعادة تشكيله وفق أسس جديدة تكون فيه حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم واضحة ومحددة وتقوم على أساس حقوق متبادلة وواجبات مشتركة. كل ذلك مازال بعيداً حتى الآن لا لكونه مطلباً يتسم بالمثالية بل هو الى الواقعية أقرب ولكن لأن إرادة أهل الحكم مازالت دون الوصول الى مرحلة تكون قادرة على تقدير الأمور كما هي على الارض.

في التعديل الأخير لنظام مجلس الشورى ما يفيد بالرغبة الجامحة نحو تركيز السلطة وإحتكارها، فما يعطيه الملك باليمين يسترده بالشمال. فالتعديل في مواد النظام لا يتجاوز الشكل الفني والاجرائي، وأن المضمون منه يهدف الى تكريس مبدأ الحكم الفردي. بكلمة أخرى، أن التعديل يشرعن لاحتكار السلطة عوضاً عن تقاسمها، من خلال نقل جزء من سلطات مجلس الوزراء الى مجلس الشورى، على أن يتم التعامل بناء على التعديل الجديد مقتصراً على طرفين هما مجلس الشورى والملك، الذي حظي قبل ذلك بالنصيب الأعظم في عملية صناعة القرار من خلال مواد النظام الأساسي.

وبينما كانت عرائض التيار الاصلاحي تؤكد على إحداث تغييرات تكوينية في نظام مجلس الشورى من أجل تأهيله للاضطلاع بمهمة السلطة التشريعية، عبر تغييرات جوهرية في مضامين نظامه، جاء التعديل الأخير لحبس المجلس في مساحة المناورة السياسية الهامشية التي قررت له منذ البدء عن إعلانه، أي حصر دوره في إطار المشورة والتناصح وأخيراً الاقتراح بحسب التعديل الأخير، وفي كل الاحوال فإن للملك وحده إصدار ما يشاء من قرارات في الموضوعات المختلف عليها بين مجلسي الوزراء والشورى.

ما يدعو للغرابة أن مجلس الوزراء رغم كونه يضم صفوة القوم الماسكة بزمام الأمر، والتي تدير أجهزة الدولة، يعجز عن إمتلاك سلطة مكافئة لسلطة الملك في عملية صناعة القرار، بل إن الملك وحده بحسب الصلاحيات المخوّلة اليه بناء على مواد النظام الاساسي وغيرها أن يعدّل ويبدّل ويقرّ ويشطب، فكيف يكون حال مجلس الشورى الذي يدنوه في المرتبة من حيث الصلاحية والمقامات السياسية لدى الاعضاء.

ثمة نظرة متفائلة للتعديل في مواد مجلس الشورى يجدر الالتفات إليها، وخصوصاً في بلد كالسعودية التي تعاني من جمود سياسي وبخاصة في عملية صناعة القرار منذ مرض الملك عام 1996، حيث أصبحت السلطة منقسمة بين عدد من الامراء الكبار، فيما يمثّل بقاء الملك الحالي مؤشراً على خلاف حاد داخلي حول تقاسم السلطة، بالنظر الى عجز الملك عن القيام بمهام الحكم، وحتى حضوره في مجلس الوزراء لا يتجاوز حدود الفترة التي تستغرقها لقطات كاميرا التلفزيون، ثم يغادر الصالة تاركاً الامراء الكبار والوزراء من بعدهم يتداولون شؤون البلاد. وفي كثير من الاحيان ينشب الخلاف داخل جلسات المجلس فيضطر الوزراء من خارج العائلة المالكة مغادرة الصالة من أجل تسوية الخلاف بوساطة أحدهم. إن التعديل الأخير قد يؤسس لحل مستقبلي لمشكلة تتفاقم حالياً إثر تضخم أدوار وصلاحيات بعض الأمراء، بما يتطلب في المرحلة اللاحقة قوة حسم مدعومة. ويقال بأن الاصلاح السياسي الذي يأتي عن طريق ملك حائز على صلاحيات مطلقة يملك فرص نجاح أكثر من ذلك النوع الذي تكون فيه السلطة موزّعة بين عدد غير محدود من المتنفّذين. ولهذا السبب يقال أيضاً بأن الملكيات المطلقة تكون أقدر على إنتاج وتعميم برامج لبرلة الدولة، فهي تشق طريقاً آمناً ومستقراً للانتقال بالدولة الى مرحلة تكون فيها أضرار الانتقال طفيفة أو لا تحمل تهديدات مباشرة على وحدة الدولة.

وبطبيعة الحال، فإن أية تغييرات في بنية السلطة لابد أن تكون مسبوقة ومستندة على رؤية جديدة لطريقة إدارة الدولة، أي وفق تقديرات دقيقة لما يخلقه التغيير في السلطة من مكاسب إستراتيجية تجنيها الطبقة الحاكمة، وبين مقدار الخسائر التي تفرضها عملية التحوّل إثر تنازلات ضرورية من أجل الحفاظ على الدولة والاحتفاظ بالمكاسب المرجوة. ومؤسف القول بأن الطبقة الحاكمة لم تتخلص من هواجسها وصراعها من أجل تبني رؤية متحررة لاستدراك الفائت منها، في ظل ريتم التغيير السريع داخل وخارج تخومنا الوطنية. إن تكثيف الاهتمام على إنقاذ السلطة مع إغفال أزمة الدولة نفسها يفضي غالباً الى تصديع بنيتي المجتمع والدولة معاً، حيث تتقاسم الفئات الاجتماعية والسياسية إهتمامات منفردة، قد تلتقي أحياناً وقد تتصادم في أحيان أخرى، تبعاً لمنطق المصالح والخسائر، وهو المنطق الذي يحكم حالياً حركة السلطة بكل أبعادها.

لم يعد هناك في هذا البلد من ينتظر قرارات متلكئة وخائفة وهامشية، لأن المشاكل وفق ما أسفرت عنه من تجسيدات مرعبة في الاقتصاد والأمن والسياسة تفرض وبإلحاح شديد تقديم حلول جوهرية وشاملة، خصوصاً وأن الدولة لم تعد تملك من (خيارات الضرورة) ما يجعلها قادرة على المناورة على عامل الوقت، فالحل الاقتصادي حتى لو قدّر للدولة إعتماده كخيار ضرورة فإنه لا يمثل حلاً حاسماً، لأن المشكلة تفوق قدرة الدولة على حله بصورة نهائية ولابد حينئذ من تنويع مصادر الحل حتى يأتي بنتائج مرضية للجميع.

ليس هناك من يتطلع لحلول سحرية تأتي بها الدولة، وأن التعامل يجري حالياً مع مشاكل مشهودة وفي بعض المناسبات مدوّية، وإن المنتظر من السلطة هو غير ما تقدّمه من فتات لا يُلتفت إليه لأن أزمة الدولة قد أحاطت بحياة المواطن، وبرغيفه، ومصيره, وأن ثمة قراراً تاريخياً منتظراً لابد أن يصدر عاجلاً.

إن ما يشاع حالياً من أخبار عن أن هناك إرادة عليا بالاصلاح يدحضه ما يصدر عنها من قرارات، وما يقابلها من أنباء مضادة تصدر أحياناً عن أمراء كبار ومتنفذين ما يجعل هذه الارادة عاجزة وفي أحسن الاحوال ضعيفة عن الوصول الى نقطة الحسم. فقد سفّه أحد الأمراء ما يروّج عن ولي العهد بوصفه لوثر الاصلاح القادم في السعودية وقال بأنه ليس في مستوى يؤهّله للعب دور المصلح. والغريب أن هناك من يؤدلج لمضادات الاصلاح في البلاد واصفاً المجتمع بأنه غير مؤهل فكرياً ونفسياً للديمقراطية، متناسياً أن الديمقراطية هي مشروع ممارسة بالدرجة الأولى وليست مادة تثقيفية مدرسية ابتداءً، وكأن الاستبداد يجذب أعواناً له من داخل وخارج السلطة هذه الأيام.      

 إن الأداء السياسي للطبقة الحاكمة وما يصدر عنها من قرارات تعكس قناعة الطبقة بأن السلطة تعدل الوطن، وإذا كان الاستحواذ على السلطة يمثّل مرتكزاً في سياسات العائلة المالكة، فإن الغالبية المتضررة لا تعني لهم السلطة شيئاً بقدر ما تحقق لهم الحد الأدنى من إحتياجاتهم اليومية، وإذا ما فشلت هذه السلطة في الاضطلاع بهذه المهمة فإن وجودها وزوالها سواء بالنسبة لهم، إن لم يكن زوالها ـ بحسب رؤية الأشد تضرراً ـ يأتي بالفرج.