بعد إعتراف رموز التشدد

متى تبدأ الدولة مراجعة الذات

 محمد علي الفايز

 التحوّلات المتسارعة في بلادنا وبخاصة خلال العام الحالي، وفّرت مناخاً مؤاتياً لبدء مرحلة جديدة تكون فيها القوى السياسية والاجتماعية مؤهلة للشروع في عملية مراجعة شاملة لمتبنياتها الفكرية والسياسية. فالخضّات العنيفة التي هزّت البلاد خلال هذا العام مثّلت، الى حد كبير، التعبيرات القصوى للقناعات العقدية المبثوثة بين جيل الشباب..هذا الجيل الذي تربّى على أفكار وتعليمات خلال عقدين من الزمن وغرست فيه معاني محددة حول الدين والكون والمجتمع، ثم ساهمت الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية المتردية في تكريس ميول ذات طابع خاص ومتشدد في هذا الجيل الذي وعى الدين متماهياً مع كونية المشروع الجهادي، المراد تنفيذ بنوده في كل بقعة من بقاع المعمورة بحسب إملاءات هذا الوعي الديني.

إن التدجيح المتواصل للوعي الديني بتطلعات كونية راديكالية لم تنبّه أحداً قبل سماع دوي التفجيرات في غير فضاءنا، وقبل سقوط الضحايا من غير أبناءنا، وقبل إنهمار الدم من غير أجسادنا، وقبل تساقط ركام المباني على رؤس غير أطفالنا. فقد كان الجميع مأمون الجانب، طالما أن الدمار يشاع خارج الحدود فيما تظل مساكننا آمنة مستقرة. ولكن بعد الثاني عشر من مايو والثامن من نوفمبر فإن إجتياحاً خطيراً قد وقع لأمننا واستقرارنا وحتى مصيرنا، ومن هناك بدأت الحاجة المتأخرة الى المراجعة، وليتها بدأت قبل ذلك، حين كانت الدولة تضخ المليارات على المشاريع الجهادية في أرجاء المعمورة. وفي كل الأحوال فإن المراجعة بدأت، ولكن هل هي بداية صحيحة؟  

ابتداء لابد من القول أن المراجعة لا تقتصر على مدرسة فكرية محددة، بل هي ضرورة عقدية ومصيرية للدولة والمجتمع بكافة مدارسه الفكرية وقواه السياسية والايديولوجية. وإذا فشلت الدولة حتى الآن في خوض معركة الذات من أجل تصحيح أخطاء الحاضر والمستقبل، فإن المدارس الفكرية والقوى السياسية ليست معفية من الانخراط في عملية المراجعة الداخلية لمخزونها الفكري ومواقفها السياسية ورؤيتها الكونية.

قد تبدو حاجة التيار الديني المتشدد الى المراجعة أكثر من غيره من التيارات الفكرية والسياسية بسبب الأثر التدميري الذي أحدثته المتبنيات العقدية التي إعتنقها المتعاطفون معه والمتصلون به، وقد يجنح بعض أتباع التيارات الاخرى الى تشديد الحصار على التيار الديني المتشدد من أجل إجباره على التراجع عن فتاواه ومواقفه الدينية والسياسية، الا أن حاجة الاتجاهات السياسية والجماعات الدينية الأخرى ليست بقليلة، لسببين رئيسيين: أولاً أن المراجعة مطلوبة في كل الأحوال، لكون ما تحمله من أفكار وما تتمثله من مواقف ليست معصومة عن الخطأ، وبالتالي فإن التصحيحات الداخلية ضرورة بقاء بالنسبة لأي جماعة فكرية وسياسية. وثانياً: إن ثمة إقترافات فكرية وسياسية وبدرجات متفاوتة تتطلب من كافة الجماعات موقفاً جريئاً وتاريخياً من أجل التراجع عنها، تمهيداً لاشاعة أجواء مصالحة وطنية منتظرة. إذ لا يمكن لهذه الاجواء أن تسود فيما تتمسك كافة الجماعات حد الاستبسال والعناد بمواقف ونظرات ظهر لاحقاً أنها معلولة أو خارج زمانها.

 لقد إعتادت بلادنا على المعارك مع الآخر درءا للأخطار المحدقة بالذات، حتى صارت القوى السياسية والاجتماعية تتبنى منهجاً معمولاً به لدى الحكومة في مقارعة الخصوم. إن الاستحثاث الملحوظ في الآونة الأخيرة نحو دك حصن التيار الديني المتشدد وتحميله سوءات الماضي والحاضر يلتقي دون ريب مع توجه رسمي لغاية في نفس السلطة، ولكن ما يجدر الالتفات إليه بأن هذا التيار بكل إفرازاته المفجعة ليس القوة الوحيدة العاملة على الساحة الداخلية وليس أيضاً المغذّي الأوحد للتشدد. فلماذا يتم إغفال جريرة الدولة في صناعة التيار ورعاية رموزه، وماهو دور الجماعات الأخرى في صناعة ثقافة التسامح، والتعددية واحترام الرأي الآخر، واخيراً في عملية التغيير الاجتماعي بكافة أبعاده الحقوقية والمدنية.

كل الذي تحدثوا عن حاجة التيار الديني المتشدد للمراجعة هم معنيون بنفس القدر بمراجعة أفكارهم ومتبنياتهم وفي مقدمتهم الدولة، المسؤول الأول والأكبر عن ظواهر التشدد والعنف. في غمرة مسلسل العنف وأصواته المدوّية تسعى الدولة الى الهروب من المواجهة مع الذات، تلك المواجهة المنتظرة منذ زمن طويل من أجل تصحيح أخطاء متراكمة عليها وتتحمل الجزء الأكبر من إنفجارات وتبعات التطرف.

فقد  حظيت دعوة الأمير طلال بن عبد العزيز لمحاكمة رموز التشدد الذين قدّموا تراجعاً علنياً على شاشة التلفزيون الرسمي،  حظيت بقبول لدى قسم غير قليل من الناس، ولكن هناك قلة من توقفت عند هذه الدعوة تحليلاً ونقداً. فهذه الدعوة تنزع الى تبرئة الذات ومحاكمة الآخر، أي حليف الأمس، والأخطر أنها تهدف الى إختزال التجربة التاريخية للتحالف الديني السياسي بكل معضلاتها ومآزقها، بحيث تمارس فصلاً تعسفياً بين طرفي التحالف دفعاً نحو تحميل الديني مسئولية ما جرى من انتكاسات أمنية وسياسية على المستويين المحلي والدولي.

وإذا ما أريد لمسعى التصحيح والاصلاح أن يحقق ثماره المرجوة فلابد من توسيع إطار الدعوة بحيث توّجه الى كافة الاطراف الضالعة في صناعة التطرف بخطابه الديني، وسياساته النبذية، وأشكاله التعسفية الصارمة الناشئة عنه، والتي أضّرت بغالبية السكان. إن من الخطأ سوء استغلال حوادث العنف لتصفية الحسابات السياسية والداخلية، ويتعاظم الخطأ حين تجد القوى الاجتماعية والسياسية الوطنية نفسها مستدرجة لمعركة بالنيابة عن الدولة لتحقيق أغراض ليست لهذه القوى مصلحة فيها، هذا إن لم تتحول الأخيرة إحدى ضحايا الدولة في معركة من هذا القبيل.