الحوار الوطني..بانتظار الافعال

 تحت عنوان (الغلو والاعتدال..رؤية منهجية شاملة) عقد اللقاء الوطني الثاني للحوار الفكري في مكة المكرمة في السابع والعشرين من ديسمبر ولمدة خمسة أيام متتالية، شارك فيه أكثر من ستين شخصية من بينهم عشر نساء. وكان اللقاء الذي ضمّ ممثلين عن الطيف المذهبي والفكري في المملكة قد عقد في أجواء سرية، حيث قدّم خمس عشرة بحثاً خلال اللقاء مع إستعلان جزئي لفقرات من هذه البحوث، اضافة الى جلستي الافتتاح والاختتام اللتين بثتا عبر شاشة التلفزيون المحلي.

إن التصريحات الصادرة عن مسؤولين في مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني خلال فترة انعقاد اللقاء الوطني تنبىء عن خشية من فشل التجربة، وهذا ما برر الابقاء على سرية الجلسات، وكانت الانتقادات قد تزايدت بعد اللقاء الأول في يونيو الماضي حول سرية اللقاء وموضوعاته وحجم التمثيل، والنتائج العملية المتواضعة التي أعقبت اللقاء، في وقت كان ينتظر فيه المواطنون تحوّلاً حقيقياً في الذهنية السائدة وشفافية تامة لمناقشة القضايا الكبرى التي تعاني منها الدولة، اضافة الى أن اللقاء جاء في فترة ضغط شعبي واسع لدفع الحكومة على البدء بإصلاحات سياسية واقتصادية شاملة وفورية، الامر الذي فرض نفسه على اللقاء الوطني للحوار الفكري، حيث واجه المشاركون في هذا اللقاء ضغوطاً من أجل نقل مطالب الوطن الى السلطة من خلال هذا اللقاء الوطني الذي ألقى المجتمع عليه ثقلاً كبيراً لجهة تحويله الى قناة للتعبير عن مطالب المواطنين.

إن ما يلحظ على اللقائين الاول والثاني إنشغالهما شبه التام بموضوع التطرف الديني الذي عانت الدولة من آثاره الانفجارية، مما أثار سؤالاً عريضاً حول سر مشاركة شخصيات فكرية ودينية من كافة أرجاء المملكة لمناقشة قضية خاصة مقتصرة على الحكومة والتيار التكفيري الجهادي، بما فسّر بأنه استغلال من قبل الدولة لهذا اللقاء عبر دعوة المتضررين من السياسة الدينية في البلاد من أجل معاضدة الدولة في محنتها مع تيار كانت هي السبب في نشأته، وكانت تستخدمه في مراحل سابقة ضد المشاركين في هذا اللقاء. في الجانب الآخر هناك من يرى بأن اللقاء كان يرمي الى تحقيق أغراضاً متعددة مثل إشاعة أجواء الحوار والتعددية والقبول بالآخر، ومن ثم توفير بيئة صالحة لعملية الاندماج الوطني عن طريق صناعة مناخات مؤاتية يكون فيها الجميع مؤهلاً بدرجة كافية لمرحلة الاصلاحات السياسية والاجتماعية والفكرية. ويضيف البعض بأن مثل هذه اللقاءات تؤسس لعملية المشاركة الشعبية والاندماج الوطني في أبعاد مختلفة فكرية واجتماعية وسياسية.

إن دخول العنصر النسائي في اللقاء الثاني يمثل علامة فارقة بالنظر الى الغياب التام والمقصود لهذا العنصر في مناشط الدولة ومؤسساتها. وبالرغم من أن البحوث الخمس عشرة التي قدّمت خلال اللقاء لم تتضمن بحثاً خاصاً بالمرأة، الا أن مجرد مشاركة العنصر النسائي في المداخلات وفي فعاليات لقاء فكري على مستوى وطني يعد خطوة في الاتجاه الصحيح. فالمرأة الغائبة كعنصر فاعل في العمل الوطني، وفي المشاركة السياسية والادارية تبقى موضوعاً يستحق لقاءات متخصصة من أجل إزالة القيود القانونية والعرفية التي حرمت المرأة من الاضطلاع بدورها كشريك في هذا الوطن، وحان الوقت كي تسهم المرأة في عملية التنمية الوطنية الشاملة. ولاشك أن لقاءً فكرياً كهذا يعتبر مدخلاً مناسباً لازالة معوق أساسي أمام المرأة التي يمثل العرف الاجتماعي والفهم الديني القاصر سبباً أساسياً لاخراجها من مسرح عمليات الدولة والمجتمع.

ثمة مخاوف لدى بعض المتحفظين على أغراض اللقاء تتجه الى إعتباره حواراً بين الحكومة والحكومة، إستناداً على ما قدّمه بعض المشاركين من بحوث تميل كثيراً الى بيانات الولاء وسرد قائمة منجزات الحكومة والنأي عن ملامسة القضايا الحساسة التي تتطلب موقفاً فكرياً وسياسياً وطنياً حاسماً وواضحاً. فقد أخذ كثيرون على اللقاء أنه لم يلامس مشكلات المجتمع، بل كرّس موضوعاته لتناول قضية الغلو، مورد ابتلاء الدولة بدرجة أساسية، فيما كانت المنتظر من اللقاء أن يكون (وطنياً) في تمثيله وموضوعاته أولاً، ثم في علانيته فاللقاء قد جرى في الغرق المغلقة، وليس في الهواء الطلق، فلم يعرف عنه الا النزر اليسير، وحتى التوصيات الصادرة عنه كانت سرية. وكان يفترض في حوار بهذا العنوان أن يكون علنياً ويتحوّل الى ما يشبه بحوار مصارحة بين المجتمع والدولة، يكون المشاركون فيه القناة الموصّلة والناقلة لمشكلات المجتمع مع الدولة.

وحتى مع إقتصار اللقاء على تقديم البحوث الفكرية ذات الصلة بالغلو والتطرف، فكون المشكلة ذات بعد وطني كان يجب أن يكون النقاش حولها علنياً يشترك فيه أبناء الوطن عبر وسائل الاعلام المحلية، ومنتديات الحوار العامة والخاصة، بما يجعلها قضية وطنية.

لقد اكتسب اللقاء اهميته من خلال توصياته الواردة في البيان الختامي والتي تجاوزت موضوع الحوار الى الشأن السياسي كالمطالبة بانتخاب أعضاء مجلس الشورى والشأن الاقتصادي كالمطالبة باتخاذ كافة التدابير لمعالجة قضية الدين الداخلي وهدر المال العام ومحاربة الفساد المالي والاداري، والشأن الديني كتجديد الخطاب الديني وتطوير مناهج ووسائل التعليم الديني، ومنح كافة المذاهب الاسلامية في المملكة الحق في التعبير عن نفسها عبر وسائل الاعلام ونشر الكتب وإنهاء التمييز على قاعدة مذهبية في الحقول السياسية والاقتصادية والادارية، وإتاحة الفرصة للمرأة السعودية للمشاركة في القضايا العامة، وإشاعة الحريات العامة وبخاصة حرية التعبير لمناقشة قضايا الوطن. ولكن السؤال يبقى حول آلية تنفيذ هذه التوصيات؟

إن اللقاء مهما كانت التحفظات بشأنه يعد خطوة إيجابية تستحق الدعم والمساندة، وتبقى الآن مهمة تحويل توصيات المتحاورين الى إفعال على الارض، لأن مجرد لقاء المختلفين لا يلغي الحاجة الى تحويل نقاط اتفاقهم الى قررات ومشاريع عمل. إن المرحلة الراهنة بتحدياتها الخطيرة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والامنية تتطلب حلولاً حاسمة وقرارات عملية، وأن الانكباب على تشخيص التحديات وتكريس الجهود لمداولات كلامية محضة يؤدي الى إفراغ مضامين الحوارات الوطنية وفي مرحلة لاحقة يطيح بمصداقية أي حوار لا يترجم الى أفعال.