هل هي عريضة (سلفية) (نجدية)؟
ملاحظات تفكيكية لشكل ومحتوى عريضة (الإصلاح الدستوري أولاً)
حمزة الحسن
تقدّمت 116 شخصية وطنية بعريضة مطالب وطنيّة أثارت جدلاً في
الشارع السعودي، بسبب غياب عدد من الشخصيات المعروفة وامتناعها
عن التوقيع. حوت العريضة الأخيرة (نداء وطني: الى القيادة والشعب
معاً: الإصلاح الدستوري أولاً) نقاط قوّة عديدة من حيث المضمون
ومن جهة الموقعين عليها، ربما اعتبرها البعض نقاطاً سلبيّة في
حدّ ذاتها؛ وبالطبع لا تخلو العريضة من نقاط ضعف بارزة وإشكالات
حاول المسؤولون الأمنيون ومن هم في هرم السلطة استثمارها لإضعاف
التيار الإصلاحي في المملكة. في هذا المقال بحث لجوانب الإشكالات
وملابسات تحرير العريضة وما يعتقد أنه جوانب ضعف وقوة فيها.
وجهة العريضة
تتوجه العريضة بندائها الى طرفين متناظرين: القيادة والشعب. ولقد
كانت خطابات الإصلاح المطلبية طيلة العام الماضي تتوجه بنداءاتها
ومطالبها الى المسؤولين الكبار في العائلة المالكة، لأنهم يمسكون
مفاتيح الإصلاح إن أرادوا، ولأنّ قناعة التيار الإصلاحي بالعمل
السلمي الهادئ والبطئ تستدعي التعاطي المباشر مع المسؤولين
بآليات (مريحة) لا تبدو عليها شوائب الضغوط، ولا يظهر منها
التحدّي المباشر.. لهذا كانت العرائض تتوجه الى المسؤولين
مباشرة، بعيدة عن الضغوط وبعيدة عن الشارع ـ وإن احتوت همومه
وتطلعاته ـ ومستخدمة العبارات والمسالك والآليّات التي يقرّها
الطرف الآخر المسؤول ولا تجرح كبريائه.
في هذه المرّة، كان الخطاب موجهاً الى القيادة والشعب معاً، أي
أنه تضمن رسالتين مختلفتين، قد يراهما المسؤول متعارضتين، أو يرى
فيهما تحريضاً للشارع واستقواءً به لفرض مطالب الإصلاحيين على
القيادة التي بان تلكؤها في الإصلاحات. هذا القراءة تبدو صحيحة.
فدعاة الإصلاح يستشعرون بأن المسؤولين في قمة الهرم السياسي غير
جادين بما فيه الكفاية فيما يتعلق بالتغيير والإصلاح؛ وبعد تجربة
سنة من العرائض المتواصلة، لم تسفر النتيجة إلا عن وعود اعتبرها
الكثيرون (هزيلة) وكل البوادر التي أظهرتها الحكومة ـ بما فيها
المجلس البلدي نصف المنتخب ـ تبدو غير مشجّعة، وقد تكون التفافاً
على الإصلاحات وتعطيلاً مستديماً لها. لذلك يمكن القول بأن توجيه
النداء الى الشعب يحمل في طياته تهديداً مبطّناً بتحريكه الى
ساحة المواجهة، بعد أن عجز الإصلاحيون وعجزت الوسائل التقليدية
في إيصال الرسالة الى المسؤولين واضحة بحيث تدفعهم الى التجاوب
الصحيح والسريع.
لا شك أن المراقبين للعمل الإصلاحي المطلبي في المملكة، أدركوا
مبكراً، بأن العرائض وحدها لن تأتِ بالإصلاحات ولو في حدودها
الدنيا، ما لم تتسلح بدعم وزخم شعبيين. ولربما لاحظ عدد من
الإصلاحيين أن الحكومة ورغم اعترافها بأن واجهات التيار الإصلاحي
لها صوتها وقوتها، إلا أنها كانت تدرك وبعمق أزمتهم، وهي عدم
قدرتهم ـ أو عدم رغبتهم ـ في تحريك الشارع السعودي وحشده باتجاه
مطالب الإصلاح. ولهذا تأتي العريضة الأخيرة، في توجهها للمواطنين
بالنداء لتقول بأنهم عازمون على تفعيل القوى الشعبية من جهة، ومن
جهة ثانية أنهم (قادرون) على فعل ذلك ـ إن تطلب الأمر، وتمادى
المسؤولون بالتسويف والمماطلة.
قبل بضعة أشهر كان الحديث المتداول بين الشخصيات الإصلاحية يدور
حول ما إذا كان من المفيد الإستمرار في إرسال العرائض الى
المسؤولين، وظهر في تلك الأثناء إتجاه يدفع بتوجيه نداء الى
المواطنين السعوديين، يوقعه دعاة الإصلاح، يشرحون فيه رؤيتهم
الحاضرة، ويلقي الضوء على موقف المسؤولين اللامبالي، ويطالب
المواطنين بالقيام بأعمال محددة كالتظاهر كوسيلة ضغط جماهيرية.
غير أن البعض اعتبر ذلك تصعيداً مبكّراً وغير متدرّج، فكان أن
خرج النداء الى جهتين مختلفتين تمثلان مصالح مختلفة وتحملان
رؤيتين مختلفتين لما يجب أن تكون عليه المملكة في المستقبل.
الخطاب المزدوج في عريضة واحدة أوقع الموقعين في مأزقين حادّين:
أحدهما: إن الخطاب الموجّه الى الشعب لا يمكن أن يكون خطاباً
سريّاً، بل لا بدّ أن ينشر على الأشهاد، في حين تتطلّب لعبة
الحكومة (كتمان) العريضة وأسماء الموقعين عليها، وعدم تسريبها
الى الصحافة أو ما أشبه، خشية إغاظة السلطة التي لا تقرّ النشر
العلني، وتقبل (النصيحة في السرّ)!. ولذا كان التساؤل: إذا كانت
العريضة موجّهة للجمهور السعودي، فلماذا لم يطّلع عليها مبكراً،
بحيث يتوافق تاريخ إيصالها الى المسؤولين مع تاريخ نشرها العلني،
مذيّلة بأسماء الموقعين أنفسهم؟
الثاني: إن لغة الخطاب غلبت عليها الشعبية في الصياغة مع مضمون
مكثف للجانب الرسمي، وهذا ناتج من جهة أن الطرفين المستهدفين
بالعريضة يجب أن يكون لكل منهما خطاباً خاصاً مختلفاً عن الآخر.
فالمسؤول ـ على سبيل المثال ـ ليس بحاجة الى أن يدرك قيمة
الإصلاح، ولا أن يؤتى له بالشواهد الدينية من آيات وأحاديث، فليس
هذا هو المعبر الى ذهنيته، ولا هذا النوع من الحشد الخطابي
الديني يغيّر من قناعاته إن كان في الأصل جاهلاً بها. الحديث مع
المسؤولين هو حديث سياسي، وهو حديث يفترض أن ينفذ الى عمق الأزمة
ويبيّن جوانب خطرها وطرق حلّها واستعراض وسائل الحلّ وأدواته
ونتائج تباطؤه وغير ذلك. أما الخطاب الشعبي، فقد يكون من المناسب
أن تخرج له الإصلاحات بثوب لا يتعارض مع عقيدته أو ما يظنّه من
ثوابت دينية، إن كان يعتقد بذلك فعلاً. والمواطن بحاجة الى خطاب
(توضيحي) يجيب على الأسئلة التي تدور في مخيلته، قد يكون بينها
أهمية الإصلاح السياسي وتأثيره على وضعه المعيشي، وعلى حقوقه في
العمل والحرية والحركة والفكر؛ وكذلك توضيح دوره في العملية
السياسية والنضال الوطني بصورة دقيقة، وغير ذلك. والخطاب الشعبي
ينتقي اللغة السهلة، والمفاهيم المبسّطة، كما يحوي على قدر من
التحفيز والعاطفة بغية الحشد وتحقيق التواصل والإحتضان للمطالب
الأساسية والدفاع عن دعاة الإصلاح إذا ما تعرضوا لمكروه.
الدمج بين الخطابين السياسي الرسمي والشعبي أوقع العريضة في
ضبابية المستهدفات، كما أوردها مستنقع الحشو الزائد في بعض
المواقع والتقصير في الشرح في مواضع أخرى. فعلى سبيل المثال: لم
ينل مطلب (الملكية الدستورية) توضيحاً كافياً للجمهور، بينما هو
واضح المعنى لدى النخبة السياسية؛ وفيما يتعلق بحركة الشارع، جاء
الخطاب عاماً في كثير من المواقع، وكانت هناك حاجة للتفصيل،
والتنقيط، بحيث لا تضيع المستهدفات التي يتوجه بها الخطاب للشارع
السعودي في زحمة النصوص الدينية.
اللغة الدينية للعريضة
تميّزت لغة العريضة الجديدة بلغة دينية صارخة لم تشهدها كل
العرائض السابقة. فلماذا جاءت على هذا النحو؟ وهل كانت سبباً في
عدم توقيع الكثير من الوجوه الإصلاحية عليها؟. لا بدّ ابتداءً
القول بأن الإصلاحيين عموماً، حتى العلمانيين منهم، لا يضعون
أنفسهم في مواجهة مع الدين الإسلامي، ولم تبدُ منهم أطروحات تدعو
لإقصاء الدين عن الحياة السياسية والإجتماعية في المملكة، فدور
الدين لا يمكن إلغاؤه، وجلّ ما يراد هذه الأيام هو (فصل المؤسسة
الدينية عن المؤسسة السياسية) وليس فصل الدين عن السياسة. من حيث
المبدأ ليس هناك حساسيّة تجاه الصياغة الدينية للعرائض السياسية،
وقد تضمنت العرائض السابقة شيئاً من هذا، ولكن العريضة الأخيرة
جاءت صارخة الشكل، ويعود ذلك الى الأسباب التالية:
1 ـ أن المتصدّي للعريضة هذه المرّة هو الدكتور عبد الله الحامد،
وهو من الشخصيات الوسطية الدينية؛ ويبدو أنه شعر لأسباب مختلفة
بأن التيار الديني في نجد عامّة غير ممثل بنسبة صحيحة، وأن هناك
آخرين قد مُثّلوا بأكبر من حجمهم (الشعبي) وأنهم كانوا يقودون
حركة المطالب (العرائضية) ويضعون نصوصها. في هذه المرة رأى
الحامد أن الإسلاميين المعتدلين هم من يجب أن يقود العملية ويجذب
إليها عدداً من الموقعين كانوا قد رفضوا في السابق التوقيع على
العرائض الأخرى بحجج كثيرة، ليس من بينها بالقطع لغة الخطاب،
بقدر ما تعلق الأمر حينها بما يمكن تسميته (داينمو) العريضة، أي
أولئك الأشخاص الذين تبنّوها وأعدوها وجمعوا التوقيعات بشأنها.
وقد رأى بعض الإسلاميين النجديين، أنهم (أكبر) من أن (يلتحقوا)
بمشروع يقوده (علمانيون) حسب تعبير بعضهم، ويوقع عليه (روافض
وصوفيون)! وهذا هو سبب عدم توقيع محسن العواجي ومحمد الحضيف
وغيرهما.
بتصدّي الحامد للعريضة الجديدة، وقيادة الركب (العرائضي)، تخلّى
السلفيون (الوسطيون كما يسمون أنفسهم) عن بعض اعتراضاتهم،
وكتأكيد على أنهم هم من يضطلع بالمسؤولية، أرادوا تحقيق انتصار
مبكر ليس على الحكومة ولكن على بعض غرمائهم (المتهمين
بالعلمانية) و ذلك عبر تأكيد اللغة الدينية للخطاب السياسي،
وكأنهم أرادوا أن يبعثوا برسالة تقول: إن كان لا بدّ من إصلاحات،
فنحنُ من يصوغها ويقودها!
2 ـ الموقعون من خارج التيار الديني النجدي (السلفي خاصة) ممن
قبلوا بصيغة الخطاب، خاصة وأن الدكتور الحامد على رأسه، رأوا أن
اللغة الدينية ليست مشكلة في الأساس، وحتى وإن أعطت إيحاءات من
نوع ما، فإن المهم هو إشراك أكبر عدد من التيارات المختلفة في
عملية الضغط السياسي من أجل الإصلاح. فإذا كان السلفيون لا
يقبلون الدخول في العمل الوطني المطلبي إلا عبر هذا النوع من
الخطاب، فإن التنازل الجزئي مقبول ومتحمّل، خاصة إذا ما كانت
أهداف العريضة الجديدة تتماشى مع العريضة الأصل (أي تلك التي
حملت تسمية وثيقة الرؤية والتي قدمت لولي العهد في يناير 2003).
كان هذا هو رأي الأستاذ محمد سعيد طيب، والنخبة الحجازية
والليبراليين الإسلاميين الشيعة.
3 ـ ربما كان يدور في خلد الموقعين على العريضة الجديدة أن
الصياغة الدينية للخطاب قادرة على تحريك الشارع وإقناعه
بالإصلاحات. ولربما كانت هذه القضية تشغل بال السلفيين في نجد
الذين يبحثون عن مسوغات دينية أكثر تشرعن الفعل المطلبي، وتلحق
الشارع السلفي (خاصة في نجد) بركب الإصلاحات، بدل اعتماد نهج
التشدد والعنف. ومثل هذه المشكلة قد لا تكون موجودة في المناطق
الأخرى من المملكة، التي تجاوزت في وعيها وحركتها التساؤلات
الأولية وانطلقت الى أبعد من هذه المواضيع التي صارت من
البديهيات.
الإنشقاق في التيار الإصلاحي
عجّلت العريضة الأخيرة بانشقاق التيار الإصلاحي الذي التأم حول
مطالب محددة عرضتها وثيقة الرؤية والتي هي العريضة المركزية التي
يجمع عليها كل السعوديين، وقبل بها المسؤول الأول في الدولة: ولي
العهد الأمير عبد الله بن عبد العزيز. لقد دخل لاعبون جدد، حيث
طغت الأسماء ذات المناصب والمواقع الدينية والتربوية، ولم يكن
عدد الأسماء متوازناً من حيث التمثيل المناطقي والمذهبي، تمّ
تبرير ذلك بالإستعجال وما أشبه. وفي الحقيقة، فإن شيئاً من
(تحصيص) الأسماء الموقّعة قد جرى وفق رغبة المتصدين للعريضة،
فهذه الجهة لها هذه النسبة، والأخرى لها تلك، ولم يدرك كثيرون
كيف جرى ذلك التحصيص، هل هو وفق النسب السكانية العددية، أم وفق
الفاعلية لهذا التيار السياسي أو ذاك، وكل ما جرى كان يأتي
بتقدير وحسابات المتصدّي وميوله الدينية والسياسية والمناطقية،
التي ربما تمّ تضخيمها بسبب الحساسيّات المعروفة.
ومن جهة ثانية، خرج آخرون من قائمة الموقّعين، ولا نتحدث هنا
عمّن ضغطت عليهم السلطات الأمنية بصورة مباشرة للإنسحاب
واستجابوا وهم محدودون، وإنما أولئك الذين رفضوا التوقيع ابتداءً
على عريضة تحوي صياغة تستهدف ما هو أبعد من النصوص. وفي مقدمة
هؤلاء من يمكن تسميتهم بـ (اليسار السياسي) ويأتي على رأس
القائمة: الدكتور تركي الحمد، والأستاذ نجيب الخنيزي، والأستاذ
علي الدميني، وهؤلاء كانوا أعمدة ركينة في العرائض السابقة، وقد
برروا رفضهم التوقيع على العريضة الجديدة بأسلوب متحفظ لكنهم في
الحقيقة لم يقتربوا من الأسباب الرئيسية الحقيقية التي تدفعهم
للإعتراض.
لقد ذكروا مثلاً، أن العريضة الجديدة لم تتضمن إشارة لمكافحة
الإرهاب والتطرف النابع من منظومة عقدية وفكرية راسخة (تبيّن أن
فقرة أضيفت بهذا الشأن ولكنها لم تكن قاطعة برأي البعض)؛ ومن بين
الإحتجاجات أنهم لم يتفقوا مع المضمون العام للعريضة، ولا من حيث
تحليلها وتوصيفها للمشاكل؛ ويضاف الى هذا الإعتراض ما يتعلق
باللغة الدينية/ المذهبية، وإقحام عبارات تشتّت الهدف كالحديث عن
الصهيونية وأميركا وغير ذلك.
السبب في عدم التوقيع كان بصورة محددة: الإعتراض على أن يكون
التيار السلفي ممثلاً للتوجهات الإصلاحية، وهو ـ حسب رأيهم ـ سبب
نكسات المملكة وتأخرها في هذا المضمار. وقد لاحظ الممتنعون أن
رموز التشدد، على وشك (اختطاف) ورقة الإصلاح لمحاربة خصومهم، دون
أن يكونوا جادين في تبنّيها. فالإعتراض كان ليس على صياغة خطاب،
بل على منهج ورؤية للإصلاحات بعيدة المدى. بعض الممتنعين رأوا أن
تسليم الراية الإصلاحية الى التيار السلفي (العواجي نموذجاً)
إنما هو تسليم الشاة الى الجزّار، الذي قد يذبحها أو يبيعها الى
جزار آخر هو (السلطة).
كان من المتوقع أن يتم الشرخ في التيار الإصلاحي ما لم يتبلور في
قيادة موحّدة تمثل مختلف المناطق وتعبّر عن قواها الرئيسية. ولكن
محاولات في هذا الشأن بدت ضعيفة خلال العام الماضي، الأمر الذي
جعل العديد من الأسماء تطفو على السطح فجأة وتختفي من عريضة
لأخرى. وإذا كان الدكتور عبد الله الحامد، شخصية وطنية لا يرقى
إليها الشك، فإنه واجه انتقاداً لاذعاً بسبب طريقته في إدارة
موضوع العريضة الأخيرة، وأنه لم يكن يبحث عن تسويات بقدر ما كان
يعمل على إقامة تكتلات جديدة داخل الجسد الإصلاحي، تستثني أناساً
وتأتي بآخرين بديلاً. وهناك أيضاً من بين الممتنعين من رأى أن
الآباء المؤسسين لـ (لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية) التي ظهرت
في التسعينيات والذين ابتعدوا أو أُبعدوا عنها بسبب الملاحقة
والسجن والفصل من الوظيفة، قد عادوا من جديد لبلورة مشروعهم
(الخاص) على جسد التيار الإصلاحي، بالرغم من نظرة التقدير التي
يحظى بها أولئك الأخوة: كالصليفيح والرشودي والقصير وغيرهم.
يضاف الى هذا، فإن العريضة الجديدة، وهي إذ قرّبت تياراً وأبعدت
تياراً فكرياً آخر له مكانته ودوره في العمل الإصلاحي، فإنها
أشعلت مخاوف جديدة، محورها المنطقة. وظهرت أصوات تقول: هل لا بدّ
أن تكون نجد بتياراتها السياسية والدينية محور الدولة والحكم
والمعارضة أيضاً، رغم أنها لا تمثل أكثرية في المملكة؟ مثل هذه
المخاوف أو المشاعر التي انتابت بعض موقعي الوثيقة بعد أن ظهرت
القائمة النهائية لأسماء الموقعين عليها كان يجب توقعها والحذر
منها وعدم تبسيط الأمور والتساهل في الحسابات السياسية التي باتت
معروفة لدى الجميع. لهذه الأسباب ربما تمنّى بعض الموقعين لو
أنهم لم يوقّعوا على العريضة، أو لو أنهم أدركوا أن المسألة كانت
أبعد من مجرد اجتهاد في الصياغة، أو لو كانت حسابات الخسائر
والأرباح واضحة، بحيث لا تشقّ الصف الوطني، ولا تؤسس لخطاب جوهره
ـ عند البعض ـ مناطقي ديني هو في الأصل متنازع بشأنه، لأنه لم
يكن ولن يكون منزوعاً عن الممثلين له وعن مواقفهم السابقة
واللاحقة تجاه نظرائهم في العمل الإصلاحي الوطني.
قراءة في المضمون
من حيث اللغة العامّة للعريضة، وبعيداً عن مواطن القصور في
التعبير والسبك، فإن العريضة الجديدة جاءت (أخشن) من سابقاتها في
التعاطي مع موضوع الإصلاح وموقف الدولة منه. ربما كان أحد
الأسباب أن العريضة تأتي بعد أن تبددت الكثير من الآمال بشأن
مواقف معتدلة من جانب السلطة، وفشل العرائض السابقة في تحقيق
الحدود الدنيا من الإصلاحات المطلوبة. لذا كانت اللغة قاسية هذه
المرة أكثر من السابق، ويحتمل أن تكون العرائض القادمة أكثر
خشونة.
1 ـ إدانة العنف: بدأت العريضة بفقرة إدانة للعنف المحلّي، ومن
المحتمل أن هذه الفقرة أُقحمت على المدوّنة الأولى، وهي تخدم
أهدافاً متعددة، منها ما يتعلق بتبرئة الذات، ومنها ما له علاقة
بتأكيد المنهج السلمي في العمل الوطني، ومنها ما يتعلق بتسوير
الموقعين من أن يتهموا بأنهم لا يعدو أن يكونوا الجناح السياسي
لتيار العنف. مثل هذا الإتهام الأخير، ليس وارداً بشأن الأسماء
الليبرالية التي سبق لها التوقيع، ولكن أسماءً عديدة وقعت على
العريضة الأخيرة (متهمة) من قبل جماعات شتّى بأن لها خطوطاً
وامتدادات بين جماعات العنف، أو أنه ينظر إليها كمروج (فكري) له،
أي أنها تحمل أفكاراً متطرّفة ضد الآخر، مؤسسة على مفاهيم
(عقدية) سواء كان الآخر سلطة أو أفرادا أو جماعات مذهبية. من هنا
كانت إدانة العنف ـ بالنسبة للبعض على الأقل ـ وسيلة استباقية
للدفاع عن الذات وعن المطالب التي تضمنتها العريضة. ومما يجعلنا
نذهب الى هذا التحليل، هو أن الأمير نايف وزير الداخلية حين
التقى بعشرين من الموقعين على العريضة يوم الإثنين 22 ديسمبر
الماضي، وصمهم بالعديد من الصفات المقذعة والإتهامات الباطلة
وبينها أنهم يمثلون الجناح السياسي للعنف، وأنهم إرهابيون.
بالطبع فإن الأمير كان يقصد بعضاً من الموقعين الجدد، في حين وصف
آخرين بالخضوع للأجنبي، وكان يقصد شريحة ليبرالية أخرى، ووصم
قسمٌ ثالث بأنهم علمانيون، الخ.
لكن هناك نقطة جديرة بالعناية في موضوع الإدانة للعنف، فالأمير
نايف ربما انزعج كثيراً في كون الإدانة شملت السلطة أيضاً، وليس
جماعات العنف وحدهم. من الواضح أن الموقعين على العريضة،
وبخلفيتهم الإجتماعية والدينية المعروفة كانوا حذرين في توقيع
صكوك التنديد بشكل تعميمي خشية أن يخسروا ـ أو يخسر بعضهم ـ
قواعدهم الإجتماعية والشعبية. لهذا جاء الموقف وسطياً: إدانة عنف
السلطة وعنف الجماعات، ووضعهما في مستوى واحد في الخطأ والجريمة،
وهذا بالطبع لا يرضي السلطات. لقد أدانت عرائض سابقة العنف،
وأريق الكثير من الحبر في الصحافة بأقلام إصلاحية تطالب بالبحث
في جذوره وعدم التماس الحلول الأمنية وحدها. ولكن العريضة
الجديدة اتخذت موقفاً وسطياً، رأت فيه السلطة وآخرون بأنه موقف
مميّع لا يخدم السلطة في حربها ضد خصومها العنفيين. لنقرأ النصّ:
(إنهم ـ أي الموقعون ـ يدينون العنف بكافة أشكاله ومصادره،
داخليا وخارجيا، سواء أكان عنف دول وحكومات، أم عنف أفراد
وجماعات).
وفي تحليل ظاهرة العنف المحلّي، رأت العريضة أن (مكونات العنف
ليست ناتجة حصراً عن مناهج التعليم الديني، وإنما هي حتماً إحدى
إفرازات غياب المشاركة الشعبية، عن القرار الحكومي). فهناك
محاولة للتقليل من دور المناهج التعليمية في بث فكر التطرف
والعنف، أو حتى الدفاع عنها، وإعادة جذور العنف الى الإستبداد
السياسي السعودي، بل وإلى (الصهاينة والأميركان) الذين بأفعالهم
في فلسطين وغيرها أشعلوا العنف (في الخارج). لا شك أن العوامل
الثلاثة آنفة الذكر لها جذور وثيقة الصلة بالعنف المحلي أو العنف
الذي يقوم به سعوديون في الخارج. بيد أن الحكومة السعودية ممثلة
بوزارة الداخلية لا تريد أن تتهم بأنها مساهمة في نشوء ظاهرة
العنف، إما بسبب الإستبداد السياسي أو بسبب اعتمادها على مناهج
تعليمية كان واضحاً أنها تخلق الفتنة والعنف بين المواطنين
أنفسهم قبل أن يمتد الى مؤسسات الدولة ورموزها.
بالقطع لم يكن الموقعون، بمن فيهم الإسلاميون السلفيون الموقعون
على العريضة، يؤيدون العنف، ولكنهم في نفس الوقت لم يشأوا أن
يظهروا بمظهر المصطفّ مع السلطة في حين أن التحليل المنطقي
يحمّلها مسؤولية كبيرة عن وقوعه لأنه إفراز لإنسدادات سياسية
واجتماعية وتنشئة فكرية وتعليمية. وينبغي أن نلاحظ بأن الموقعين
لم يستخدموا لفظة (الإرهاب) بل (العنف) وهذا يدلّ على أن مصطلح
الإرهاب أصبح مائعاً ويستخدم في غير محلّه، حتى بين الطغاة
والمستبدين، أي أنه مصطلح يستخدمه النظام ضد معارضيه، وتستخدمه
الولايات المتحدة والقوى الأخرى ضد الدول المعادية لها. ولهذا
جاء التحفظ ـ وحسناً فعلوا ـ على استخدام لفظة الإرهاب لأن له
أكثر من تعريف وله أكثر من مستفيد.
وأخيراً تجدر الإشارة الى أن الوثيقة ربطت ـ بحق ـ بين استمرار
العنف وبين تلكؤ الإصلاحات السياسية، بما يعني ان تهميش المواطن
سياسياً فاقم العنف، وأن الحل الحكومي الأمني ليس كافياً وليس هو
المدخل الوحيد. تقول العبارة القوية والمركزة في العريضة التالي:
(لن نستطيع عمليا أن نقول: لا للعنف إلا إذا قلنا: نعم للمشاركة
الشعبية والتعبير الأهلي المدني السلمي، تعبيراً وتجمّعاً حرّاً
سلميّاً مسئولاً).
2 ـ التأكيد على مسؤولية السلطة: تضجّ العريضة الجديدة
بالعبارات التي تشير الى مسؤولية صناع القرار من أمراء العائلة
المالكة عما جرى ويجري، ويحملونهم مسؤولية تردّي الأوضاع،
ويعتقدون بمحورية الإستبداد في شلّ قدرات الوطن، وإشاعة الإنحراف
والفساد. وفي حين تحاول السلطات أن تجد لها أعذاراً أو تحمّل
المجتمع أو بعض شرائحه مسؤولية تباطؤ الإصلاحات، بحجة عدم النضج،
أو بحجة (الخصوصية السعودية) أو بحجة التدرّج ومواءمة العادات
والتقاليد والنصوص الدينية ذات التفسير السطحي الذي يخدم
السلطة.. يأتي موقعو العريضة فيقولون بأن المسؤولية الأولى تقع
على عاتق المسؤولين: أمراء العائلة المالكة.
الفقرتان الثانية والثالثة من العريضة تحمّلان السلطة مباشرة
مسؤولية الإستبداد السياسي وإفرازاته المتعددة وبينها الفساد
والإنهيار الإقتصادي والعنف وغير ذلك. فالموقعون يرون أن
(المجتمع حُرِم من حقه الطبيعي في التعبير الحر المسئول عن
آرائه، وهمشت حرياته التي هي رئته التي يتنفس بها، وحُرم من حقه
الطبيعي في مشاركة السلطة في اتخاذ القرارات، التي تتعلق بمصالحه
ومصيره).. وتشير العريضة بإصبع الإتهام الى أن الأشكال البسيطة
المحدودة من المشاركة الشعبية التي كانت متوفرة في بداية نشأة
الدولة السعودية الموحّدة (تم التدرج في القضاء على هذه الأشكال
البسيطة القديمة، شيئا فشيئا حتى تلاشت، وفوق ذلك لم تسمح الدولة
بنشوء أي تجمعات مجتمع أهلي مدني جديدة). ونتيجة لذلك الإقصاء
السياسي (اختل ميزان العدالة والمساواة، وأنتج هذا الاختلال
مفاسد شتى، وتفاوتا في توزيع الثروة، بين المناطق والأفراد،
وتكاثرا في البطالة، وعجزا في الاقتصاد، وهدرا للمال العام،
وسلبيات كثيرة في مجال التعليم والتربية الاجتماعية، والخدمات
الصحية، وجر إلى النيل من الكرامة الوطنية، وقد أوصل البلاد إلى
عنق الزجاجة، وعرض الوطن لمخاطر كبرى، وليس نمو العنف إلا أحد
إفرازات الإقصاء).
3 ـ أسلمة وثيقة الرؤية:
تتميّز العريضة الجديدة في كونها قامت
بـ(أسلمة) المطالب التي جاءت بها وثيقة (الرؤية) وهي الوثيقة
الأساس التي أجمعت عليها شرائح المجتمع كافة. هذه الأسلمة عمليّة
رائعة من جهة (تسويقها) محليّاً في محيط قد لا يؤمن بما فيها، أو
لا يثق بالموقعين عليها (التيار السلفي في نجد). لقد تبنّت
العريضة الجديدة بعض أهم المطالب الرئيسية في وثيقة الرؤية،
الأمر الذي يثبت أن الإعتراض عليها في الجانب السلفي لم يكن بسبب
المحتوى ومخالفته لثوابت الدين، بقدر ما كان اعتراضاً على
الموقعين وعلى من يقود مايسترو الإصلاح. ومع أن هناك من يعتقد
بأن العريضة الجديدة جاءت متجاوزة لوثيقة الرؤية، فإن الصحيح
أنها لم تتصادم معها في الكليات، وابتعدت عن مناطق يرى التيار
السلفي أنها ملغومة، فهو على سبيل المثال لم يتحدث عن دور
للمرأة، بعكس كل العرائض السابقة، كما أنه لم توجد سوى امرأتين
من بين الموقعين على العريضة الجديدة، وهذا يعكس حساسية التيار
الديني السلفي من موضوع حقوق المرأة بشكل عام.
لكن عمليّة (الأسلمة) هذه فرضت مشكلة جديدة حول التفسير الديني
للمطالب وحدودها، إذ برزت خشية واضحة لدى البعض بأن العريضة
أصبحت (سلفية) وإذا ما تمّ تعميمها (وطنيّاً) فإن الصدام سيقع
حول تفسير النصّ الديني ومرجعيته، وسيفرض التيار السلفي تفسيره
الخاصّ به، لأنّه هو الذي وضع النصّ، وبالتالي سيفتح باب
الإنشقاق من جديد في صفوف التيار الإصلاحي. الحديث عن مرجعية
(كتاب الله وسنّة رسوله) تتضمّن (إفحاماً) للطرف الآخر المخالف،
الذي لن يستطيع أن يعترض، في حين أن اعتراضه قائم على تفسير النص
الديني، وعلى من يفسّره وهو المثقل بانتماءاته ومصالحه ومرجعيته
المذهبية والثقافية.
في العريضة الجديدة جاءت لفظة (الشورى) بدلاً من الديمقراطية،
وحاولت التوفيق بين مدلولات (أهل الحل والعقد) وبين النواب
المنتخبين من الشعب وهذا أمرٌ حسن، مثلها في ذلك ربط موضوع الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بقيام مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك
رهن تطبيق الشريعة بقيام الإصلاحات الدستورية. بيد أن من الواضح
أن الكثير من العبارات قد أُقحمت على مسوّدة العريضة، بغية جلب
العناصر نصف ـ المتشددة لتأييد مسار الإصلاح، وقد كان الثمن
باهظاً بنظر البعض. فالمطالبة بإيجاد محكمة دستورية عليا أمرٌ في
غاية الأهمية، ولكن النص الذي جاء في العريضة قال بإيجاد (محكمة
دستورية شرعية تكون مرجعاً لمشروعية الأنظمة وتفسيرها ولتلقي
الطعون فيها). وهذا يؤكد هيمنة رجال الدين من مذهب محدد على
المحكمة، بحيث يمكنهم تعطيل قوانين كثيرة، في حين أن البلاد تشكو
من تضخم دور هؤلاء، ووقوفهم حجر عثرة أمام الإصلاح، ويضعهم الناس
في خانة الإستبداد الديني المعاضد للإستبداد السياسي، وبدل أن
يتحرر المواطنون من هؤلاء (وليس من الدين) تقوم العريضة الجديدة
بمنحهم قوّة إضافية.
والإصلاح الدستوري الذي دعت إليه العريضة، لا يختلف عليه
الآخرون، ولكنهم يختلفون حين تدعو العريضة الى (الإصلاح الدستوري
المؤسس على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم) بحيث يمكن
للمهيمنين دينياً في التيار السلفي أن يفرضوا رأيهم حول ما يوافق
أو يخالف كتاب الله وسنة نبيه، مع العلم أنه كان بإمكان الموقعين
أن يخففّوا المسألة بالقول أن الإصلاحات المطلوبة لا تخالف ولا
تتعارض مع الدين وثوابته، أما أن تؤسس على رؤية أحادية في
التفسير فهذا ما يجعل الحذر من هكذا نصوص أمراً ضرورياً. ذات
الأمر يرد حول موضوع وضع دستور على أسس الشريعة وكذلك موضوع
الحقوق والحريات، فقد دعت العريضة الى (إقرار الحقوق والحريات
العامة التي قررها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً) وهذا يدخلنا
أيضاً في مأزق مرجعية النص ومرجعية التفسير، ولو كانت المؤسسة
الدينية ورجال التيار السلفي من الشخصيات المنفتحة والواعية
للموضوع السياسي لكانت المخاوف من تفصيل حريات على قدر أفهامهم
وعقولهم أهون أو أقل شططاً. أما ما نشهده ونعرفه اليوم عنهم، فإن
تسلمهم لزمام التفسير وتطبيق مرجعية النصّ يعني افتئاثاً على
حقوق الآخرين، وتضييقاً في الحريات بحجة مخالفتها للدين، خاصة
وأنه لا توجد مرجعية في التفسير يحتكم اليها مكتوبة ومقبولة من
الشرائح المثقفة والدينية في البلاد.
إضافة الى النصوص الدينية المقحمة على أصل الوثيقة، فيما يبدو،
فإن العريضة الجديدة بخطابها هذا إنما كانت تستهدف فئة أو شريحة
بعينها رغم أن الخطاب جاء عاماً الى الشعب، ولكن جرى التخصيص
مرتين لمن أسمتهم العريضة بعلماء الشريعة والفقهاء وطلاب العلم
الشرعي والدعاة والمرشدين. فاللغة الدينية كانت نتيجة طبيعية
لوجود عدد كبير من الإسلاميين الموقعين عليها، أو نتيجة (تنازل)
إن جاز التعبير، من أجل تحصيل توقيعهم، كما ان استهداف شريحة
العلماء والفقهاء والخطباء الذين هم في غالبيتهم العظمى من
التيار السلفي أمراً مقصوداً، وهو يؤطّر العريضة ويجعلها أكثر
التصاقاً بفئة ومنطقة منها الى جمهور الشعب السعودي بعمومه.
4 ـ الدستور والملكية الدستورية وتحديد المدة الزمنية:
أهم ما ميّز العريضة الجديدة عن العرائض السابقة، أنها أعادت
الإصلاحيين السعوديين الى نقطة غابت عن عرائضهم السابقة وهي وضع
دستور دائم للبلاد تقوم به هيئة وطنية مستقلة من الخبراء وفقهاء
الشريعة العارفين بالفقه الدستوري. لا يمكن فهم خارطة الإصلاحات
بدون الدستور، فهو ما يجب أن يبدء به قبل أي أمر، ويجب أن يتضمن
كل الإصلاحات المطلوبة وإقرار الحريات العامة التي نادت بها
مختلف العرائض السابقة. الدستور هو نقطة البدء، وبدونه تكون
الدعوات تنظيراً في الهواء، وتكون الأهداف غير مترابطة وغير
معترف بها وغير مضمونة الاستمرار في حال إنجازها بدونه ـ أي
الدستور.
النقطة المركزية المهمة الأخرى، هي مطالبة الموقعين المسؤولين
(أن تعلن القيادة مبادرة تمثل التزاما بتطوير نظام الحكم إلى
ملكية دستورية، تتضمن العناصر الأساسية في منظومة الإصلاح
الدستوري الشامل) قال الموقعون أن الشعب طال انتظاره لها وهي
تتضمن خمسة عناصر: إقرار للحقوق والحريات العامة للمواطنين:
الثقافية والسياسية والإجتماعية؛ وانتخاب مجلس لنواب الشعب
والمجالس المحلية بصلاحيات حقيقية؛ والفصل بين السلطات الثلاث؛
والعمل على استقلال القضاء؛ وأخيراً تقرير قيام مؤسسات المجتمع
المدني بما فيها السياسية والنقابية وتأسيس الجماعات والجمعيات،
وأن تلتزم السلطة بحق الناس في التجمع والتظاهر السلمي.
بيد أن التساؤل هنا: هل هذه المطالب تعني قيام ملكية دستورية. إن
المفهوم غير واضح هنا، وربما كان مقصوداً، فالملكية الدستورية
تعني فيما تعنيه فصل العائلة المالكة عن السلطة التنفيذية: تملك
ولا تحكم. فهل هذا هو ما أراده الموقعون؟! ربما، ومن هنا كان
اعتراض الأمير نايف على الموقعين حين التقاهم، وقد استشاط غضباً
من ذلك.
النقطة الثالثة المهمة التي تداركتها العريضة الجديدة، هي
المطالبة بتحديد وقت للإصلاحات أو لبعضها، فالدستور يجب أن
يستفتى المواطنون عليه خلال عام، وأن يطبق خلال فترة انتقالية لا
تتجاوز ثلاثة أعوام. ويمكن من خلال هذا الفهم أن تأتي انتخابات
مجلس الشورى والمناطق لاحقة لقيام الدستور.
5 ـ نداء هزيل للشعب:
شرحنا سابقاً ملابسات حشر العريضة
كنداء موجه للقيادة والشعب، وقلنا أن الطرفين بحاجة الى لغتين
مختلفتين. لهذا جاء الخطاب الموجه للدولة على حساب الخطاب
الموجّه للشعب. فلم يستطع الموقعون قول كل ما يريدونه للمواطنين
لأنه يبدو من غير اللائق أن تحشد الشارع من جهة لفرض مطالب
إصلاحية ومن جهة أخرى تتحدث مع الدولة بلغة أكثر دبلوماسية وأكثر
إقناعية حول فائدة الإصلاحات للدولة والمجتمع. لهذا اقتصرت
العريضة في ندائها للشعب على تقرير بعض الآراء كان يمكن إضافتها
للمسؤولين لو أرادوا فهي لا تختص بالجمهور الذي لا يعترض عليها
على عكس السلطة. من ذلك تقرير موضوع أن التفريط بالشورى تفريط
بأصل عظيم من أصول الدين، وأن النظام الدستوري هو الذي يضمن
تطبيق شريعة الحق والعدالة والحرية والمساواة والكرامة الوطنية،
ويتيح قيام مؤسسات المجتمع الأهلي المدني بواجب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.. الخ.
ولذا لم يكن أمام الموقعين إلا الطلب من المواطنين التأييد
والتصفيق لما جاء في العريضة، وفي حين دعت العريضة الجميع الى
تحمل التبعات والمسؤوليات الجسيمة وتهيئة التربة للإصلاح
الدستوري والدعوة له من المنابر المختلفة، لم يكن للمواطن العادي
في واقع الأمر أي دور إيجابي، عدا دور المتلقّي. كان ينبغي أن
تكون هناك عريضة خاصة بالجمهور، وبخطاب مختلف وكان يمكن إطلاق
العريضتين في آن واحد، بحيث تتضمن عريضة الجمهور توجيهات محددة،
وشرحاً حقيقياً لأزمة الإصلاح وأسبابها واحتمالات فشل حركة
العرائض وما يتطلبه الأمر من نزول الى الشارع والتظاهر والتجمع
وما أشبه. أي أن تكون هناك اقتراحات عملية واضحة، وخط اتصال بين
النخبة الإصلاحية والجمهور عبر إعلانات ودعوات صريحة تطالب بأمور
محددة، بحيث ينفك الإصلاحيون من أحادية الخيار الرسمي، ويكونوا
على استعداد للبدائل الأخرى في حال رفضت السلطات الإقدام بصورة
سريعة على تبنّي مشروع إصلاحي محدد بزمن وبأجندة واضحة.
|