في ضوء عريضة (الاصلاح الدستوري أولاً)

الإصلاح بين الأمن والإختلاف

 عريضة (نداء الى القيادة والشعب معاً: الاصلاح الدستوري أولاً) تمثل حلقة أخرى في سلسلة الفعل الشعبي الداخلي الممتد في أفقه الاصلاحي منذ ما يربو على عقد من الزمن، حين بدأ المكبوت الاصلاحي ينطلق في عرائض متواترة رفعت الى ولاة الأمر لتقويم أسس الحكم والانتقال بالسلطة الى مرحلة جديدة تقوم على سيادة القانون ومنظومة الحقوق والواجبات المتبادلة، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية والتمثيل العادل والمتكافىء في الجهاز العلوي.

هذه العريضة الثالثة التي يرفعها دعاة الاصلاح خلال عام بعد عريضتي (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) التي قدّمت لولي العهد في يناير من العام الماضي ثم تلتها عريضة (دفاعاً عن الوطن) والتي قدّمت في شهر سبتمبر الماضي. ويعقب وصول كل عريضة لقاء بين وفد من الموقعين مع ولي العهد و/أو أحد الامراء الكبار، وفي كل مرة يخرج الوفد محمّلين بوعد ووعيد، وعد بقرب وشيك بالاصلاح ووعيد للموقعين بالأذى إن لم يكفوا عن المطالبة بالاصلاح، وكأنهم يطلبوا ما لا يستحقونه أو أنهم يطلبوا من صاحب ملك يتصرف في ملكه ما يشاء.

العريضة الأخيرة نصّت على بنود هامة رغم ما قيل عن عموميتها ومجازيتها، فقد إستوعبت الخطوط العامة للعملية الاصلاحية مورد إجماع القوى السياسية قاطبة، من خلال التأكيد على حق المجتمع في ممارسة حقه الطبيعي في التعبير والمشاركة في السلطة وتقرير المصير، وضرورة وضع حلول فورية لمشكلات المجتمع والدولة، بدءا باختلال توزيع الثروة وتزايد معدلات البطالة والعجز الخطير في الموازنة العامة للدولة، وهدر المال العام، وأزمات التعليم والتربية والخدمات الصحية وتفجّر العنف بطريقة غير مسبوقة. 

شأن العريضيتين السابقتين، فإن العريضة الثالثة أكّدت على المشاركة الشعبية كمبدأ عام في العملية الاصلاحية، والتأكيد على حرية التعبير المدني السلمي وترسيخ قيم التعددية والتسامح في إطار الهوية الوطنية الجامعة، وبناء دولة المؤسسات، والاصلاح الدستوري الشامل المؤسس على إقرار الحريات العامة للمواطنين وإشراك المجتمع في بناء الدولة وصناعة القرار السياسي فيها من خلال مجلس لنواب الشعب، وتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات، وتقرير قيام تجمعات المجتمع المدني.

ويمكن القول بأن العريضة بصرف النظرف عن المؤاخذات عليها، هي أولاً وقبل كل شيء فعل إيجابي يستحق الدعم والتقدير والمساندة من كافة القوى السياسية والاجتماعية، وهي بالتالي جزء من الرصيد الوطني الاصلاحي، كما أن الموقعين عليها هم ـ مهما تباينت وجهات النظر ـ جزء من التيار الاصلاحي العريض الممتد في أرجاء الوطن.  

 الإصلاح وسلاح الأمن

 ثمة تطوّر خطير في مجريات العريضة الأخيرة يستحق منا وقفة. وقبل كل ذلك لابد من تبديد وهم يروّج له حالياً عن الدور الايجابي لوزارة الداخلية في العملية الاصلاحية، فمن الثابت أن هناك علاقة عكسية بين الاصلاح والأمن، هذا ما تخبر عنه التجارب السابقة، حيث كان يخضع دعاة الاصلاح الى سطوة الجهاز الأمني تنكيلاً وقمعاً. وقد ظلّت النظرة الأمنية تلاحق من يحمل دعوة اصلاحية، فكثير من رجال الاصلاح أودعوا المعتقلات، وذاقوا صنوف التنكيل والتعذيب، وأكرهوا على توقيع تعهدات بتكميم الافواه، ومنعوا من السفر كي لا تصل أصواتهم المخنوقة في الداخل خارج الحدود، كما فصل بعضهم من عمله، وخضع للمراقبة الدائمة. هكذا هي الاجراءات الأمنية المعمول بها مع دعاة الاصلاح، ولم تتبدل منذ نشأة الدولة وحتى اليوم، بالرغم من وصول الاوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية حافة الانهيار الشامل.

لقاء الأمير نايف مع عدد من الموقعين على العريضة الأخيرة لم يخرج عن سياق الاجراءات الأمنية التقليدية، فقد كان اللقاء يتسم بالتوتر والمشاحنة والتهديد. فقد إفتتح وزير الداخلية اللقاء بلغة تهديدية وحمل للوفد رسالة تحذير زعم بأنها من ولي العهد، وأراد بذلك تخويف أعضاء الوفد بالاعتقال. كما أراد الأمير نايف من تلاوة رسالة إنسحاب عبد الكريم جهيمان من قائمة الموقعين على العريضة كسر إرادة الوفد والاعلان عن إشارة النصر في هذا اللقاء.

بقطع النظر عن تفاصيل اللقاء بين وزير الداخلية ووفد العريضة الاخيرة، فإن إقحام ملف الاصلاح السياسي داخل النفق الأمني يشي بسوء نية الدولة في التعاطي مع المطلب الاصلاحي الشعبي، إذ لا يمكن ان تسير  قاطرة الاصلاح على سكة الأمن، فالاخيرة كانت على الدوام سكة هلاك المشاريع الاصلاحية ورجال الاصلاح.

إن الوعود التي تراكمت طيلة عام وبشّر بها كبار الأمراء من وزير الداخلية نفسه، ومروراً بوزير الخارجية ووزير الدفاع وصعوداً الى ولي العهد لم تقدّم سوى أدلة إضافية جديدة على الرغبة المضادة لارادة التغيير. فالتدافع الشعبي نحو خيار الاصلاح الشامل والعاجل يقابله إحجام تام من قبل الطبقة الحاكمة، التي شغلها الخوف على ضياع السلطة عن التفكير في إخراج الدولة بكاملها من مأزق الانهيار الشامل.

لجوء الطبقة الحاكمة الى اعتماد الخيار الأمني في التعامل مع دعاة الاصلاح ينبىء عن مواجهة قادمة بين المجتمع والدولة، إذ أن نقل ملف الاصلاح من السياسة ممثلة في ولي العهد الى الأمن ممثلة في وزير الداخلية لا يعني شيئاً آخر غير زوال نوايا الاصلاح، واخضاع أي تحرك اصلاحي الى منطق رجل الأمن الذي لا يتقن سوى التهديد والتنكيل.

كنا نأمل أن تدرك القيادة السياسية بأن زمن التلويح بالعصا والجزرة قد أدبر، فلا دولة الخوف السابقة تملك ما تخيف به الآن، ولا دولة الرعاية الزائلة تملك ما تغري به الآن، سيما وقد اختارت الغالبية من السكان خياراً سلمياً راقياً في التفاهم مع السلطة يفوق بمرات لياقتها السياسية، وكان ذلك أدعى أن تختار ما فيه صلاحها وإصلاحها، ولكن أبت بعض الجهات في الدولة الا أن تعيد إحياء ما اندثر من وسائل فقدت مفعولها الترهيبي، وهذا ما لحظه الأمير نايف نفسه في اللقاء حين حاول إخافة بعض أفراد الوفد بالسجن فجاءه الجواب: بأننا لم نأت كي نسجن ولكن اذا لم يكن لديكم حل آخر سواه فليكن السجن. ولابد أن الأمير نايف الذي حمل معه أوراق تعهد خطية كي يكره أعضاء الوفد على توقيعها قد فاجأه الجواب، فقد كان يعتقد بأن تهديداً من هذا النوع سيفضي ـ كما في السابق ـ الى كسر ارادة الوفد، وسيلجؤهم تحذيره الى طلب المغفرة وتوسل الانابة عن إثم الدعوة لاصلاح نظام الحكم. ولكن ما لم يلفت الانتباه اليه أن عالماً بأسره قد تغيّر رأساً على عقب، وأن بقاء ذهنية الحاكم بأمره لابد أن تواجه بصدمة التغيير حتى تفيق من حلم قديم، تماماً كما أفاق طاغية العراق في جحره الأخير، حين تمسك بمنصبه حتى لحظة القبض عليه وهو ينادي نفسه بأنه رئيس العراق، وقد تبدّلت أشكال الحياة فوق مغارته ولم يعد ينظر إليه سوى جرذ يهرب من دوس الاقدام.

الانزلاق نحو خيار الأمن يضع أساس أزمة قادمة، وعسى أن تتنبه القيادة السياسية الى خطورة هذا الانزلاق، فمطلب الاصلاح الشامل والعاجل لم يعد خيار فئة أو جماعة صغيرة، بل هو مطلب شعبي عام ولابد أن يحظى باهتمام القيادة السياسية أولاً وأخيراً، وأن إقحام وزارة الداخلية لن يقوّّض الارادة الشعبية، كما أن الحلول الأمنية وإن نجحت في إطفاء بؤر توتر صغيرة هنا وهناك، الا أنها دون ريب ستخفق في إنتاج حل لمشكلات الدولة في أبعادها الاقتصادية والسياسية.

لقد حذّرنا سابقاً من خطورة إدراج جماعات العنف وقوى الاصلاح في قائمة واحدة، لأن ذلك يمنح مبررات إضافية لجماعات العنف بأن لا حل مرجو من الدولة عن طريق المطالبة السلمية، وبالتالي فإن إشهار السلاح وحده الخيار الذي سيأتي بالتغيير في الدولة. إن لغة الأمير نايف مع الوفد تقع في المطب الخطير، حين وصف أفراد الوفد بأنهم إرهابيون، وأنهم الجناح السياسي لجماعات العنف، وكان حري به أن يشيد بوسيلتهم السلمية في التعبير عن مطالبهم، وأن يؤكد على نزاهتهم واخلاصهم للوطن ورفعته.  

 كلمة في الاختلاف

 إن التشكيلة الاجتماعية والسياسية والفكرية المتنوعة في البلاد تفرض تلقائياً إختلافاً في المواقف ووجهات النظر، شأن بلدان العالم قاطبة، إذ لا يمكن تصوّر إتفاق صلب في المواقف والافكار في مجتمع تعددي، فستظل هناك انشدادات طبيعية وميول فكرية وروابط تقليدية تحكم الجماعات المنضوية في كل دولة.

إن الاختلاف الحاصل داخل التيار الاصلاحي بحسب ما كشفت عنه العريضة الأخيرة لم يكن سابقة ولن يكون بل كنا نتوقع بأن الزمن سيتمخص عن تباينات داخل التيار سواءً على أساس ايديولوجي أو سياسي أو حتى إجتماعي/اثني. ربما كانت النوايا الحسنة والعفوية في بدايات النشاط الاصلاحي الجمعي تدفع نحو تأجيل ظهور انفرازات واضحة في بنية الحركة الاصلاحية بتنوعاتها الايديولوجية والسياسية والاجتماعية، الا أن الانخراط الكثيف في العمل السياسي يشجّع بروز التباينات، وبخاصة مع تصاعد تطلع كل جماعة نحو الحصة السياسية المأمولة من جهة، والخشية من هضم الجماعات الأخرى لما تراه حقاً مشروعاً لها من جهة ثانية.

ولكن السؤال هو كيف يتم التعامل مع الاختلاف في مثل هذه الحالة، وهل هناك آلية لإدارة الاختلاف بحيث لا تترك تأثيرات سلبية على النشاء الاصلاحي، وتأطير الاختلاف ضمن خط الاصلاح السياسي؟.

يظهر من التجربة الأخيرة أن هناك من يأخذ على العريضة نزوعها الحاد نحو تأكيد بصمة أيديولوجية واضحة على نصوصها، وإدخال المطالب الوطنية ضمن إطار تفسيري خاص، وهو ما أثار حفيظة بعض القوى السياسية والاجتماعية التي وجدت في العريضة محاولة إختطاف ومصادرة لمشروعها الوطني، وهو أمر كان يمكن تداركه من خلال التأكيد على الخطوط العريضة في موضوع الاصلاح. إن التسابق نحو الاستحقاق السياسي قبل موعده قد يبطىء من قوة تدفق التيار الاصلاحي، وقد يفضي الى تشققه وتبعثر حركته، وحينئذ يجري التعامل معه بوصفه أجزاء ضعيفة متناثرة تسمح بتدخل الطرف المستهدف، أي الدولة كيما تمارس بذكاء اللعب على المتناقضات.

قد يقال بأن الدينامو الفاعل في العريضة الأخيرة قد أخفق في استيعاب أكبر قدر ممكن من المؤيدين في التيار الاصلاحي الوطني، لا سيما من كان لهم حضور فاعل في العريضتين السابقتين، وقد يقال أيضاً بأن العريضة الأخيرة فرضت ضمنياً شرط الانضمام اليها من خلال تقييد العملية الاصلاحية بمطابقتها مع النص الشرعي بحسب التفسير الخاص بالمجموعة القائمة عليها، وقد يقال أيضاً بأن المرأة كانت غائبة في المطلب الاصلاحي، وشبه غائبة في قائمة الموقعين..وكلها أقوال لها ما يبررها وتستحق التأمل من قبل من تصدوا لصياغة العريضة وتحركوا من أجل تحصيل توقيعات المؤيدين عليها، وكان يفترض في عريضة كهذه أن تحظى بإجماع وطني كما حظيت ما سبقها من عرائض، عبر تعزيز المشتركات والنأي عن الاستهدافات الخاصة، التي يحملها الجميع والتي لم يحن آوان استعلانها قبل موعد الاستحقاق السياسي.

إن ما تلفت اليه العريضة في نصوصها أنها تجاوزت واقعاً سائداً في بلد يحضن بداخله جماعات اثنية ومذهبية وتيارات فكرية وسياسية متنوعة، وهذا ما رسم خطاً فاصلاً بين من مع ومن ضد مضمون العريضة، فأدى الى غياب كتلة هامة من التيار الاصلاحي. إن الحضور الكثيف للعناصر الدينية من التيار السلفي قد يكون مؤشراً واضحاً على الرغبة في إضفاء الطابع الديني على النشاط الاصلاحي، وهذا ما يثير تحفظ كثيرين على المشاركة في نشاط يشعرون بأنهم مغيّبون فيه.

نرجو أن تكون هذه التجربة درساً في العمل الاصلاحي الوطني، الذي يجب أن ينطلق من مبدأ نادى به الموقعون وهو المشاركة الشعبية، وهو مبدأ يستوعب كافة الاطياف السياسية والايديولوجية، وأن يُترك للمجتمع تقرير مسار وشكل التغيير، فليس من مهمة دعاة الاصلاح أن يملوا على الناس ما يجب أن يكون ولكن أن يعينوهم على تقرير ما يريدون، وأن الانطلاق من مبدأ الوصاية على عقول الناس لا يعني سوى تقريراً آخر بعجزهم عن إدراك ما يصلح دنياهم، وحينئذ لا يكون هناك فرق بين المصلح والحاكم في الظلم. 

 

(التحرير)