التحولات الداخلية أسرع بكثير مما تنوي الفئوية السياسية إحداثه من تغيير وإصلاح
العربية السعودية واحتمالات التفكك

 ناجي حسن عبد الرزاق

 حكمت العائلة السعودية البلاد حكما مطلقا  متصلاً منذ الملك عبد العزيز حتى اليوم، وظلت ممسكة بزمام الأمور بسبب ثلاثة عوامل أساسية هي: الحماية الأمريكية، والثروة النفطية، وتوظيف الإسلام شعبيا كشرعية دينية قوية للحكم. ومن المنطقي أن تتهاوى قدرة آل سعود على الاستمرار في الحكم إذا ما اختلّ تأثير هذه العوامل لأي سبب. فهل الوضع الحالي السعودي يشير إلى تهاوي عوامل الاستقرار الثلاثة هذه بما ينذر بتقويض الحكم السعودي؟ وهل هناك إمكانية محتملة لحدوث تحولات إصلاحية شاملة وأساسية تنقذ البلاد من التفكك؟

إن تفكك الدول لا يتم إلا بوجود أوضاع داخلية تجعل التفكك ضرورة موضوعية، أما التدخل الخارجي فدوره محدد في تعجيل التفكك أو تأجيله وفق ما تقتضيه حسابات مصلحة القوى الخارجية. وهنا يبرز دور السلطة المركزية حيث تحدد تصرفاتها درجة احتمال حدوث  التفكك. أي أن السلطة المركزية قد تسارع في إنضاج الشروط الموضوعية باتجاه تفتيت الدولة فتجعل التدخل الخارجي غير معترض عليه من قِبل المتضررين من السلطة المركزية أو من قِبل قوى سياسية ترى من مصلحتها الانفصال عن السلطة المركزية التي تمثلها أقلية مستأثرة بثروات الجميع، ويُنظر للعلاقة بين سلطة الدولة المركزية ومواطنيها باعتبارها عنصراً مؤثراً جداً في الشروط الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لدولة ما. فالمواطنون المستفيدون من وجود هذه السلطة سيقاومون بضراوة التفكك بينما ليس من المتوقع أن يبدي المتضررون مقاومة تذكر إذا كان استمرار تلك الشروط يسلبهم حقوقهم المختلفة لصالح فئة قليلة يتركز وجودها في المركز. ومن هنا تُطرح مشكلة العلاقة بين الأقلية المتسلطة المتواجدة في المركز وبين الأكثرية المتواجدة في الأطراف داخل الدولة. فالتفكك يحدث عموما إذا ما توفر أحد الشرطين الآتيين:

1. أن تشكل سلطة الأقلية المتواجدة في المركز عبئاً على أحد أطراف الدولة فيكون التخلص من المركز ضرورة موضوعية لاسترداد هذا الطرف أو ذاك لحقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي سلبها المركز.

2. أو أن يشكل أحد الأطراف في الدولة عبئاً على مصالح الأقلية في السلطة المركزية فيكون التخلص منه ضرورة موضوعية لحماية هذه المصالح من الانهيار في ظروف معينة. أي أن يكون المركز غنياً جداً بينما يكون احد الأطراف فقيراً جداً بحيث يزيد من أعباء المركز اقتصادياً وسياسيا واجتماعيا في أوقات الأزمات.

وفيما يخص العربية السعودية تتحكم فيها أقلية (مركزها نجد مؤلف من آل سعود ووهابيين دينيين رسميين) ببقية الأطراف المناطقية دون أدنى اعتبار لخصوصيات هذه الأطراف. بطبيعة الحال هناك مستفيدون آخرون من استمرار هيمنة سلطة هذه الأقلية وهم الحاشيات الملكية السعودية والوهابية الدينية التي تسعى إلى تمرير هيمنة الأقلية باعتبارها وجوداً شرعيا من الناحيتين  السياسية والدينية.

بشكل عام توجد في شبه الجزيرة تجمعات سكانية مذهبية وقبلية، وقد عمل الملك عبد العزيز بمساندة بريطانية منقطعة النظير على احتلال مناطق هذه التجمعات من أجل تشكيل دولة سميت فيما بعد المملكة العربية السعودية عام 1932 حيث أصبحت شبه الجزيرة خاضعة لحكم أقلية نجدية تتألف من آل سعود أحفاد محمد بن سعود وآل الشيخ أحفاد محمد بن عبد الوهاب. هذه الأقلية وضعت يدها على الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبقية السكان في مناطقهم المختلفة. فمنذ بداية حكم الملك عبد العزيز وحتى الآن لم تتم إجراءات توحيد حقيقية بين سكان المناطق وإنما تمت هيمنة مطلقة على البلاد لا سيما على المناطق الغنية اقتصاديا ودينيا. فالأقلية النجدية الحاكمة وجدت الشريان الحيوي الضامن لبقائها في السلطة آتٍ من المنطقة الشرقية كمصدر اقتصادي قوي ومن الغربية كمصدر أيديولوجي ديني قوي لشرعنة وجود واستمرار سلطة الأقلية في نجد.

 

التفكك المضمر في الدولة السعودية

 

ساهمت العائلة الحاكمة بدور كبير وفاعل في تعميق العداء بين سكان مناطق شبه الجزيرة العربية من خلال إبراز الحقد الطائفي والقبلي والمناطقي لتجعل الصراع محصورا في إتجاهات مذهبية وقبلية ومناطقية بدلاً من جعله محصورا في إتجاه واحد مع المركز النجدي المهيمن سياسيا واقتصاديا ودينيا على كل المقدّرات. ولهذا ظل البناء الاجتماعي في السعودية مفككا وغير متسالم وغير متعايش في تعدده المذهبي والقبلي والمناطقي. فتكريس هذه النوعية من الصراعات قد أمّن خلال السبعة عقود الماضية حكم الأقلية السعودية الوهابية وأزاح عن كاهلها خطر تفكك الدولة. ونتيجة لإعادة توجيه الصراع بعيدا عن هذه الأقلية، تشكلت عزلة مذهبية وقبلية ومناطقية داخل الدولة السعودية بحيث صار كل مذهب أو قبيلة أو منطقة يشعر بأن الخطر الحقيقي على وجوده هو المذهب أو القبيلة أو المنطقة الأخرى. فتحول مجتمع الفسيفساء في شبه الجزيرة العربية إلى أقليات مغتربة عن بعضها البعض تهيمن عليها أقلية نجدية تتألف من آل سعود ووهابيين دينيين رسميين.

ونظراً لتخندق كل طرف مذهبي أو قبلي أو مناطقي فإنه صار يشعر بالعزلة والشك في الآخر المذهبي أو القبلي أو المناطقي. فأصبحت الأقلية الحاكمة النجدية جهة تلجأ إليها كل هذه الأطراف للاحتماء بها ضد الآخر مما أكسبها أهمية باعتبارها مصدرا لأمن الأكثرية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، استمر خوف المواطنين من بعضهم البعض وذلك على أساس مذهبي وقبلي ومناطقي، ولذلك نشأت بين سكان المناطق المختلفة عدّة ظواهر:

1. ارتبط شعور مواطني المناطق الطرفية (غير النجدية) بأن أمنهم لا يتحقق إلا بوجود الأقلية النجدية الحاكمة، فأفرز هذا الشعور حاجة مشتركة لدى هؤلاء المواطنين بأهمية هذه الأقلية لوجودهم. وفي الجهة المقابلة، يشعر النجديون بأن الخطر محدق بهم لطالما كانت هناك توجهات مطالبية حقوقية مناطقية او مذهبية منفردة لدى سكان المناطق الطرفية. فالنجديون يتحسسون مدى الخطورة على وجودهم حينما يعودون إلى الحدود القديمة الصحراوية لمنطقة نجد  قبل قيام الدولة السعودية الثالثة.

فالنجديون، بشكل عام، لا يمانعون من أن تمارس الأقلية الحاكمة المزيد من التسلط والدكتاتورية إزاء أية تحركات مطالبية حقوقية في الأطراف إذا ما كانت هذه التحركات نابعة من منطقة محددة بدون نجد. بل أن أي تحرك منفرد من قبل الأطراف لنيل هذه الحقوق تقابله صيحات استهجان من قبل النجديين بدون استثناء مبررين هذه التحركات بأنها نزعات انفصالية وغير وطنية.  

2. إكتسبت نجد سيادة معنوية أكثر تأثيرا من تأثير مناطق أخرى تتمتع بسيادة حقيقية اقتصادية ودينية وثقافية بسبب اعتقاد مواطني المناطق الأخرى بأهمية الأقلية النجدية في الحفاظ على أمنهم.

3. اعتقاد مواطني المناطق الطرفية بان زوال نجد كمنطقة وسطى مقر الأقلية السعودية والوهابية يعني عودة الخطر وفقدان أمنهم وانتشار الفوضى.

4. اعتقاد مواطني المناطق الطرفية بأن دورهم ثانوي في الحكم وبالتالي ليسوا معنيين بأمر السلطة وإدارة البلاد بشكل أساسي.

5. اعتقاد النجديين في العموم وخصوصا المنتمين لمؤسسة السلطة السياسية والدينية بأنهم أصحاب الحق الأساسي في الحكم لذلك يجب أن تبقى نجد مركز القرارات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية، وبالتالي يجب أن تبقى نجد ورجالها القبليون والمناطقيون والمذهبيون الجهة التي يجب أن لا تنافسها جهة أخرى سواء كانت مناطقية أو قبلية أو مذهبية. وأن يظل دور الباقين من المواطنين في المناطق الأخرى في حدود الدور المساعد المتلقي والمنفذ للتعليمات من نجد الحاكمة.  

لم يعد النفط مصدر قوة للأقلية النجدية كما كان فيما مضى أسدى النفط خدمة كبيرة لسلطة الأقلية النجدية السعودية والوهابية تمثلت خارجيا في تعزيز علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية وفي تمكينها داخليا من دعم العزلة وتعميق المذهبية والقبلية والمناطقية وتشتيت القوى السياسية المعارضة. إلا أن المآزق الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية والثقافية التي أفرزها حكم الأقلية في السعودية جعلت من نجد مصدرا للمشاكل وليست مصدرا للحلول.

بدت مواقف معظم المواطنين في المناطق الطرفية تتحول من كونهم محتاجين للأقلية النجدية الحاكمة كمصدر للأمن لهم إلى كونهم خائفين وغير مطمئنين من هذه الأقلية لأنها بدت عاجزة عن توفير الحماية الأمنية سواء كانت هذه الحماية متمثلة في الأمن الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي. فسلطة الأقلية النجدية المهيمنة تحولت إلى أخطبوط اقتصادي وسياسي وثقافي (الهيمنة المذهبية) واجتماعي إلتهم خيرات الأكثرية من السكان وتراثهم التاريخي، فتحولت وظيفتها كسلطة يجب أن تكون أمينة على حقوق الجميع إلى سلطة تجمع الجباية من المناطق الغنية (المنطقة الشرقية والحجاز) ومركزتها في منطقة نجد على شكل ثروات نقدية خاصة داخل وخارج البلاد واحتكارات استثمارية واسعة، وعلى شكل مشاريع تنموية تستأثر بها منطقة نجد وخاصة مدينة الرياض والقصيم. لذلك، تحتكر سلطة الأقلية النجدية عمليا كل الصلاحيات والقرارات السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية كجزء من سلطتها المطلقة، بينما لا تترك هذه السلطة لسكان المناطق الأخرى إلا الفتات مقارنة بما يُقدم للتنمية في منطقة نجد.

وغالباً ما يشكو المواطنون في المناطق الأخرى من اضطهاد رسمي نجدي يقصيهم عن صنع القرارات بمختلف أشكالها. فقرارات مجلس الوزراء لا تراعي الخصوصيات المذهبية ولا المناطقية. فمواطنو المنطقة الشرقية والغربية والجنوبية والشمالية..الخ يشعرون بأن هذه القرارات مفروضة عليهم لأنها لم تنبع من خصوصياتهم المناطقية أو المذهبية أو الاجتماعية أو الثقافية التي كثيرا ما تختلف عن تلك الموجودة في نجد. إلا أنهم يضطرون إلى تنفيذها برغم تعارضها مع خصوصياتهم التي يفترض أن تحدد طبيعة القرارات الصادرة من المركز النجدي. فإحدى المشكلات الأساسية التي أفرزتها سلطة الأقلية النجدية السعودية والوهابية هي أنها سيّدت خصوصيتها النجدية لأكثر من سبعين عاماً فحرمت خلال هذه الفترة بقية المناطق من أية صلاحيات تقرر عن طريقها ما تراه صالحاً لشئونها الاقتصادية والمذهبية والثقافية والاجتماعية في نطاق الدولة الوطنية الواحدة.

وعندما أقر الملك فهد نظام المناطق لم تُعطَ المناطق أية صفة خاصة بل رُبطت ربطاً قوياً بالمركز النجدي في جميع الشئون. وهذا إقرار من سلطة الأقلية النجدية بمصادرة حقوق الأكثرية من المواطنين في المناطق الأخرى شكل عبئاً آخرا راكمت تبعاته الكثير من خيبات الأمل والشعور بالاضطهاد والعنصرية مما زاد من استعداد المتضررين للترحيب بالمشاريع الاصلاحية الحقيقية التي تحررهم من العبودية للنجدي الحاكم سواء كان سياسيا أو دينيا بما في ذلك المشاريع الأشد قسوة المتعلقة بتفكيك الدولة السعودية إذا ما أحالت سلطة هذا الحاكم دون تحقق إصلاحات حقيقية شاملة تمس القضايا الجوهرية المتعلقة بمصالح سكان المناطق سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا بما في ذلك الحرية المذهبية. أما منح مجالس المناطق بعض القرارات، كما صرح بذلك الأمير سلطان بن عبد العزيز مؤخراً، فلا يُتوقع منه أن يؤتي ثماره الحقيقية مادامت كل منطقة خاضعة بطريقة غير ديموقراطية لمندوب نجدي من آل سعود يحدد من خلال هيمنته على مجلس المنطقة طبيعة القرارات المُتّخذة التي تخدم غالبا سلطته المرتبطة بمصالح الأقلية النجدية التي ينتمي إليها.

 

إنهيار الاستقرار واحتمالات التفكك

 

هل تصرفات سلطة الأقلية النجدية الحاكمة تسير الآن باتجاه إنضاج شروط تفكك الدولة السعودية؟ هناك اتفاق على أن معالجة هذه السلطة لمجمل الأوضاع الداخلية المتعلقة بمآزق العربية السعودية الآن لا تتجه نحو ضمان وحدة البلاد في المستقبل في ظل إصرارها على معالجتها لهذه المآزق بوسائل تقليدية مرتبطة بمصالحها كأقلية متسلطة على الاقتصاد ومصادر الثروة الوطنية وعلى القرارات السياسية والدينية. فهناك مسافة كبيرة بين أداء سلطة الأقلية النجدية من آل سعود والوهابيين الرسميين وبين الحلول الحقيقية المانعة لحدوث المزيد من التدهور في عوامل الاستقرار المتعلقة بعلاقة آل سعود بالولايات المتحدة الأمريكية واحتكار ثروة النفط والهيمنة الدينية المطلقة للوهابية. فما هي المؤشرات الماثلة في هذه العوامل التي تزيد من احتمال تفكك الدولة السعودية كلما تفاعلت معا؟   

العامل الأول: منذ قيام العلاقة بين العائلة الحاكمة السعودية  والولايات المتحدة وحتى الآن لم تمر على هذه العلاقة أزمة عاصفة بمثل ما هي عليه اليوم بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 . فكل يوم بعد هذا التاريخ المشئوم بالنسبة لآل سعود يتسارع العد التنازلي لهذه العلاقة بحيث بدت أزمة ثقة عميقة تتخلل هذه العلاقة. فمن المعروف أن الحكومة الأمريكية خلال الفترة المنصرمة وحتى اليوم هي الضامن الخارجي القوي لبقاء السلطة المركزية النجدية في يد العائلة الحاكمة السعودية. إلا أن انهيار الدولة السوفيتية ومنظومتها الاشتراكية أفقد العربية السعودية أهميتها الاستراتيجية كحليف معاضد للولايات المتحدة ضد التوسع السوفيتي. وفقدان هذه الأهمية جاء كإحدى نتائج تغير الأولويات التكتيكية والاستراتيجية في السياسية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة بحيث لم تعد هناك قيمة لبقاء الأنماط القديمة التي تحكم العلاقة الدولية بما في ذلك العلاقة الأمريكية - السعودية. وما نلمسه اليوم من تدخل أمريكي في الشأن العراقي هو المدخل الجديد للبدء العملي بصياغة جديدة للشرق الأوسط  كمؤشر على إعادة صياغة الأولويات التكتيكية والاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية لضمان مصالحها الاستراتيجية بعد الحرب الباردة لتبقى القوة العالمية الوحيدة ذات التوجهات الإمبراطورية.

إن كارثة الحادي عشر من سبتمبر التي كان معظم منفذيها سعوديين جعلت من العربية السعودية محط أنظار العالم ليس باعتبارها المصدّر الأول للنفط عالمياً فقط بل المصدر الأول أيضا للإرهاب على مستوى العالم. ومن سوء الحظ أن يفيق الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا على كارثة تلازم النفط مع الوهابية. هذا التلازم كان يخدم لفترة طويلة مضت العائلة الحاكمة السعودية كما كان يخدم الإمبريالية في حربها ضد الشيوعية أيضا.

ولكن بعد الحرب الباردة لم يعد هذا التلازم مفيدا من الناحية الاستراتيجية. إلا أن الفكر الأمريكي الإمبريالي بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 وجد ضالته الأخلاقية في تثوير الفكر الغربي عامةً ضد الإسلام كوجود أيديولوجي بديل عن الشيوعية بهدف تبرير النشاطات العسكرية الأمريكية في العالم وتبرير استعار الروح الإمبريالية التي تتملك الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى الرغم من خطأ الربط بين الإرهاب والإسلام كدين، إلا أن شكل العلاقة بين نظام الحكم في السعودية والوهابية كفهم خاص للإسلام قد أفرز أشكالاً من الإرهاب مستغلا طاقة النفط لدعم نشاطه في العالم. وفي نفس الوقت كان دور الغرب المؤدلج إمبريالياً متفقا على حماية الحكم السعودي ذي الإيديولوجية الدينية الوهابية لتحطيم القوى الثورية المناهضة للإمبريالية العالمية.

كان صمت الغرب عن الخطاب الديني الوهابي المفسر للإسلام والمحمي سعوديا قد أضاف إلى هذا الخطاب الإرهابي روحاً إضافية لجعله أقوى وأكثر إرهاباً وأشد تأثيرا وأعمق تلاحماً مع العائلة الحاكمة السعودية ليشكلا معاً قوة رجعية معيقة لتطور مجتمع شبه الجزيرة والمجتمعات الأخرى التي دخلتها الوهابية السعودية من بوابة المال الذي يعتبر النفط مصدره الأساسي. ولأن الفهم الوهابي للإسلام وعلاقته بالحكم السعودي لم يعد ورقةً مرغوبة بعد الحرب الباردة وبعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر، فإن المطلوب هو أن تعمل الحكومة السعودية على تصفية التركة الوهابية وإعادة هيكليتها السياسية بما يسمح للأجندة الأمريكية الجديدة بالتطبيق بدون عقبات. وقد يكون خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي ألقاه في مؤسسة الصندوق القومي للديمقراطية بمثابة الخطاب التبشيري لأيديولوجيا جديدة قائمة على نشر الديموقراطية في العالم وبالأخص في الشرق الأوسط. لذلك يزعم الرئيس الأمريكي بان أولويات حكومته منصبة على نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط خلافاً لما دأبت عليه الحكومات الأمريكية السابقة خلال الستين عاما المنصرمة من تجاهل للحرية والديموقراطية ودعم للدكتاتوريات في هذه المنطقة بمن فيهم نظام الحكم السعودي. فإعادة ترتيب الورقة العراقية بمثابة بداية لإعادة ترتيب عدد من أوراق الدول وعلى رأسها السعودية.

وأهم خصائص إعادة ترتيب الأوراق المتعلقة بالسعودية هي نزع أهميتها الدينية والسياسية حتى لو اقتضى هذا الترتيب تفكيك هذا البلد إلى كيانات صغير على أساس مذهبي أو قبلي إن لم تنصاع الحكومة السعودية للمطالب الأمريكية. والأمراء السعوديون ورجال التيار الديني السلفي يدركون على ما يبدو أن هناك من يستهدفهم كأقلية حاكمة في شبه الجزيرة العربية قامت على سلفية دينية متطرفة. وقد عبر الأمير طلال بن عبد العزيز في مؤتمر صحفي عقده في باريس في مقر رابطة الصحافة الأجنبية التابع لوزارة الخارجية الفرنسية عن مخاوفه من أن يتحول سيناريو تقسيم السعودية إلى حقيقة عندها كما قال الأمير: (كل أبناء الشعب السعودى سيتحولون الى دروع ضد أى طرح بتقسيم بلادهم)(1). ولكن للأسف أنه إذا ما سعت الولايات المتحدة إلى تقسيم السعودية فلن يجد الأمير أو عائلته المالكة السعودية من المواطنين منْ سيتحول إلى درع دفاعاً عن وطن يتصرف فيه آل سعود كيفما شاءوا أو دفاعا عن وطن حمل إسم عائلة أو قبيلة (السعودية). فالأولَى في هذه الحالة أن يتحول الأمراء السعوديون إلى دروع بدلاً من المواطنين، إلا إذا قرر الأمراء أن يصبحوا مواطنين عاديين، عندها تكون كلمة الأمير طلال أكثر مصداقية وأوسع صدى لدى المواطنين. إن تحول آل سعود إلى مواطنين عاديين يتطلب منهم أولاً فك ارتباطهم التاريخي مع الوهابية، ثم فسح المجال أمام إيجاد شرعية بديلة غير دينية للحكم مما يتطلب صياغة عقدية اجتماعية قائمة على روح مدنية تنزع في النهاية احتكار السلطة.

وخلاصة القول: إن العربية السعودية فقدت دورها السياسي والديني المهم في الأجندة الأمريكية الاستراتيجية الجديدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعد هجوم الحادي عشر من سبتمبر. السعودية اليوم هي جزء من المشكلة وليس الحل إلا بإعادة تقويم وضعها السياسي والديني الذي يخدم الاستراتيجية الأمريكية الحالية، فهل يتم ذلك بدون مشكلات جدية على المستوى الداخلي السعودي؟ سؤال بدأت ملامح الاجابة عليه تظهر على الساحة السعودية الداخلية بصورة عملية الآن من خلال الصراع المسلح بين جماعات العنف المسلح وسلطة الأقلية النجدية السعودية والوهابية مما قد يدفع الأمور إلى زعزعة الحكم السعودي مسرّعا بانهياره إذا ما استمرت الأزمة الاقتصادية والسياسية الثقافية والاجتماعية دون حلول ديموقراطية شاملة.

العامل الثاني: النفط عصب الاقتصاد السعودي والشريان الذي يغذي بقاء البيت السعودي في الحكم، فمنذ أن بدأ إنتاج النفط تجاريا والسعودية لم تتمكن حتى اليوم من الاستفادة منه كثروة وطنية لترسيخ  اقتصاد متين متعدد المصادر يخدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، بل على النقيض من ذلك، تحولت عوائد النفط إلى يد العائلة الحاكمة تتصرف بها متى وكيف شاءت بدون أدنى محاسبة أو مكاشفة، فاصبح الأمراء أكثر ثراءً بينما أصبح معظم المواطنين أكثر فقرا وأشد حرمانا.   

تشير بعض التحليلات الاقتصادية إلى أن عائدات النفط السعودي ستتراجع عما هي عليه الآن بعد عودة العراق إلى السوق النفطية العالمية بكامل طاقته الإنتاجية. وإضافة إلى هذا التراجع يُتوقع انخفاض سعر برميل النفط عن معدّله الحالي مما سيضاعف الوضع الاقتصادي السعودي سوءاً لا سيما في ظل نمو سكاني متزايد كل عام. فالنمو السكاني في السعودية – بحسب ما ينقله Nimord Raphaeli عن إحصائية للأمم المتحدة – يزيد بنسبة تُقدر بـ 4.2% خلال الأعوام ما بين 1975 الى 1999 مما جعل السعودية الأعلى في العالم في النمو السكاني. ولاحظ أيضا أن عوائد دخل النفط بين عامي 1981 (155.1 بليون  دولار ) و 2001 ( 186.5  بليون دولار) لم تكن منسجمة مع معدل النمو السكاني خلال الفترة ذاتها. فبينما كان عدد السكان 9.9 مليون عام 1981 زاد في عام 2001 إلى  21.4 مليون نسمة. وهذه الزيادة السكانية تعادل ما نسبته 54 % وهي أعلى بكثير من نسبة الزيادة في معدل الدخل الوطني من إنتاج النفط. بل أن معدل النمو الاقتصادي بلغ  1.25 % سنوياً، بينما عدد السكان يزيد بنسبة 3.67 % كل عام(2).

لذلك يُعد معدل نمو السكان أعلى من معدل الدخل الوطني من بيع النفط وغيره مما يعني أن العربية السعودية ستدخل في نفق من المشكلات الاقتصادية في المستقبل. ولهذه الزيادة الكبيرة في السكان في العربية السعودية مخاطر استراتيجية متعلقة تناقص حصص المواطنين من الثروة الوطنية. إلا أن هذه المخاطر لا تكمن في الأساس في زيادة السكان المضطردة خلال هذه الفترة على الأقل، بل في توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل بين المواطنين. ففي ظل استمرار الفساد المالي وسرقة المال العام من قِبل الأمراء وحاشياتهم ودعم النشاطات الإعلامية المناصرة للعائلة المالكة السعودية وغياب نظام للمحاسبة والمكاشفة والقضاء المستقل واستمرار ارتفاع العمالة الأجنبية وزيادة العاطلين عن العمل من المواطنين،  فإنه يكاد يكون من المستحيل تحسن الوضع الاقتصادي حتى لو بُدأ بنظام لتحديد النسل في السعودية لتقليل نسبة المواليد.

وإضافة لذلك، تدفع الأوضاع الاقتصادية المتردية إلى تردي أوضاع أخرى سياسية وأمنية واجتماعية خطيرة، وهذه الأوضاع بدورها تضاعف من الجهد الاقتصادي الذي يُبذل للسيطرة عليها كما يحدث الآن للسيطرة على الأوضاع الأمنية المنفلتة. فوزارة الداخلية مثلا أعلنت عن تخصيص عدّة ملايين من الريالات للمواطنين والمقيمين الذين يتعاونون مع الأجهزة الأمنية للكشف عن أشخاص أو مخططات لها علاقة بالصراع المسلح في السعودية هذا فضلا عن المخصصات المالية لمواجهة الأعمال المسلحة. وهذا على كل حال غيض من فيض.  

إن تراكم العجز في الميزانية السنوية بدا نتيجة منطقية لهدر المال العام، ولذلك تضطر الحكومة السعودية إلى ضغط المصروفات على حساب المناطق الطرفية بشكل أساسي. في ظل استمرار التقشف المالي الذي تتبعه الحكومة السعودية منذ سنوات ظلت أمانة الرياض تصرف ببذخ على تنمية مدينة الرياض مستأثرةً بذلك على ما يجب أن يُصرف لتنمية المدن الأخرى كالمدن في المنطقة الشرقية أو الغربية الشمالية والجنوبية. والأمر لا يتوقف على هذا الحال في عدم عدالة توزيع الثروة بين المناطق، بل أن ما يستولي عليه الأمراء يصيب المال العام في مقتل. وعليه فإن الاستمرار على هذا المنوال، حتى بعد الإعلان عن أرقام الميزانية الحالية (2003 – 2004 ) لن يزيد الوضع الاقتصادي إلا سوءاً. فالميزانية الحالية لا توضح أوجه الصرف المالي على المناطق بحسب الاحتياجات الفعلية. وإن مركز القرار النجدي هو الذي يحدد حاجة المناطق، بينما الذي يجب هو أن تكون حاجة المناطق هي التي تحدد كيفية القرار النجدي.

لقد بدت هذه النقطة أكثر وضوحا لدى بعض الكتاب الذين ينتمون لمناطق محرومة من المال العام. فمثلاً، عبّر الكاتبان قينان الغامدي في مقال له (ميزانيات المناطق: إنهاء مقولة "كل شيء في الرياض")(3) وعلي سعد الموسى في مقال آخر (الميزانية بين المنطق والمناطق)(4) عن الحرمان الذي يشعر به الكثير من أبناء المنطقة الجنوبية حيث ينتميان لها. فالكثافة السكانية في السعودية تتركز في المنطقة الجنوبية ومع ذلك تعتبر هذه المنطقة من أفقر المناطق السعودية ومن أقلها تنمية. أما المنطقة الشرقية فمع أنها أغنى مناطق السعودية في ثروتها الطبيعية (النفط والغاز ) إلا أن سكانها، وبالأخص الشيعة، لم يحظوا بتنمية تتناسب مع مقدار الثروة الصادرة من منطقتهم. فمثلا لا توجد في المناطق الشيعية خدمات صحية وتعليمية مناسبة. كما أن معظم الذين ينتسبون لشركة أرامكو من الموظفين المستجدين ليسوا شيعة إذ لا تزال الشركة تفضل المواطنين السنة أو القادمين من مناطق أخرى.

وبنظرة سريعة على منازل القرى والمدن التي تكاد تكون ملاصقة لبعض آبار النفط والغاز يشاهد المراقب في هذه القرى والمدن بيوت آيلة للسقوط  وأخرى تحتاج إلى ترميم وأسر تنقصها الحياة الكريمة. أضف إلى ذلك أن السكان القاطنين في المدن والقرى القريبة من معامل تكرير النفط في رأس تنورة وجعيمة كمدينة رحيمة وصفوى والقطيف وتاروت والعوامية وسيهات يعانون من نسبة عالية من التلوث بالغازات الصادرة من هذه المعامل ومع ذلك لا تُقدم لهم الحكومة السعودية خدمات  صحية مجانية كافية وعالية المستوى تتناسب مع ما يعانوه من أضرار صحية نتيجة هذا التلوث. كما لم تُقدم لهم أية تعويضات عن الأضرار الصحية الناجمة عن هذا التلوث. أضف إلى ذلك أن الحكومة السعودية لم تبن مراكز صحية متخصصة في الأمراض الناشئة عن تلوث غازات معامل تكرير النفط القريبة من المواقع السكنية. بينما تتركز المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة بالدرجة الأولى في نجد لا سيما في مدينة الرياض. فبرغم انتشار مرض الأنيميا المنجلية في المنطقة الشرقية والجنوبية إلا أن كلا المنطقتين لا توجد فيهما حتى الآن مراكز صحية متخصصة لمعالجة هذا المرض، بل لا توجد بالمنطقة الشرقية مراكز أبحاث خاصة بهذا المرض أو بغيره من الأمراض التي تنشأ بسبب التلوث بالغازات النفطية.

وفيما يخص الحصول على الماء النقي الصالح للشرب فمعظمه يصل نجد على شكل مياه محلاة صادرة من معامل التحلية في الجبيل وينبع، بينما يضطر معظم سكان المنطقة الشرقية - لا سيما الشيعة - إلى دفع فواتير استهلاك مياه غير صالحة للشرب بسبب زيادة العكورة والملوحة وهي مياه تنبع من آبار محلية، أما منْ يستهلك من مياه غير الآبار المحلية ، فيضطر إلى استهلاك مياه مخلوطة بماء مالح.

وفي منطقة الحجاز نشاهد في مدينة جدة، وهي من كبريات المدن الحجازية، كيف أن الأمطار تكشف زيف دعوة عدالة توزيع التنمية بين المدن السعودية، واعتناء الحكومة السعودية بتوسيع الحرمين الشريفين كجزء من التنمية المعمارية لا يهدف إلى إنماء الحجاز بقدر ما يهدف إلى إثبات الشرعية الدينية التي يعتبرها آل سعود جزءا من شرعيتهم كحاكمين. فالأمراء لا يترددون في قول أن خدمتهم للحرمين الشريفين تشريف لهم من الله. يقول الأمير سلطان في احد تصريحاته (إننا في هذه المنطقة الحساسة من العالم والتي شرفها الله بوجود الحرمين الشريفين والتي شرفنا بخدمتهما)(5). إن الاصطفاء الإلهي لآل سعود يدعمه خطاب ديني وهابي، وأن التوسعة في الحرمين الشريفين يُراد لها أن تكون شاهداً على الشرعية الدينية التي لا يزال الخطاب السياسي السعودي متمسكاً بها ولكن بصيغ ومفاهيم وهابية نجدية.

إن سوء توزيع الثروة بين المناطق في العربية السعودية شكل شعورا بالنقمة من الهيمنة النجدية على القرارات الاقتصادية والسياسية. فحرمان سكان المنطقة الشرقية باعتبارها المنطقة الأغنى، جعل فكرة الانفصال قابلة للتداول لأن في الانفصال إنعتاق من الطوق النجدي الذي حرمهم من حقوقهم الاقتصادية التي استولت عليها أيدي الأقلية النجدية الحاكمة من آل سعود والوهابيين الرسميين وحاشياتهم القبلية والمناطقية.

سوف يكون لفكرة الانفصال صدىً أكثر واقعية كلما عجزت الحكومة عن تلبية حاجات السكان الاقتصادية لاسيما في المناطق الغنية. وربما وجود البطالة العالية التي تعاني منها السعودية يكون المدخل الموضوعي لجعل المحرومين من خيراتهم في مناطقهم يفكرون بجدية في حلول قاسية لحرمانهم، إحدى هذه الحلول الانفصال لاسيما إذا اتبعت الحكومة السعودية منهجية التفرقة المذهبية والقبلية في توظيف العاطلين عن العمل لسد ثغرات هنا وهناك ناتجة عن الباطلة. وفي هذا الصدد اعترفت الحكومة السعودية بنسبة بطالة في البلاد بـ 9.6 % تقريبا، وهي نسبة تحاول الحكومة على ما يبدو التقليل من شأنها واعتبارها مشكلة لا تزال في حدودها العادية إذا ما قورنت بمثيلتها في دول أخرى. ففي ظل غياب إحصاءات حقيقية رسمية خاضعة لمبدأ المكاشفة حول عدد العاطلين عن العمل، تبقى التصريحات الرسمية السعودية حول نسبة البطالة مجرد زعم. فهناك من يعتقد بأن نسبة العاطلين عن العمل في السعودية تتراوح بين 30-36%.

إن المشكلة الاقتصادية التي يجب وضعها بجدية بموقع الاهتمام الوطني هي تلك المتعلقة بحجم العمالة الأجنبية في السعودية والتي تُقدر بـ 6 إلى 7 ملايين عامل. فهؤلاء يحولون إلى بلدانهم ما مقداره 50 بليون ريال (13.3 بليون دولار) سنويا(6). ومن الأهمية بمكان القول أيضاً بان نسبة الفقراء من المواطنين تتزايد كل عام. ومع ذلك لم تعترف الحكومة السعودية بمشكلة الفقر إلا مؤخراً من خلال الزيارة المشهورة التي قام بها الأمير عبد الله ولي العهد لأحد الأحياء الفقير في الرياض الذي يعتبر قاطنيه من المواطنين القادمين من مناطق طرفية أو من أجزاء نائية من السعودية وهم بالتالي ليسوا نجديين في الأصل. ولم تُقدِم الحكومة السعودية على الاعتراف بوجود الفقر كمشكلة وطنية إلا بعد تصاعد العمليات المسلحة ضدها، حيث شُكلت لجنة وصفت بأنها وطنية تعتني بحل مشكلة الفقر في السعودية حتى لا تكون الأحياء الفقيرة مصدرا خصبا للتطرف أو الإرهاب. إلا أن المشكلة الأساسية المفرزة للإرهاب والعنف والتطرف في السعودية تكمن في سوء توزيع الثروة بين المواطنين وغياب الديموقراطية. وفي هذا الصدد تُعد مخصصات الأمراء السعوديين إحدى عقبات تفاقم الفقر وزيادة رقعته بين المواطنين، فالأمراء لا يزالون غير مبالين بما يترتب على مخصصاتهم المالية من ظواهر كالفقر والإرهاب.

إن المشكلة الاقتصادية الكأداء في السعودية محصورة الآن في عجز هذا الاقتصاد عن تحقيق التنمية الاقتصادية المرتبطة بالزيادة المضطردة للسكان . وما يجعل هذه المشكلة مستعصية على الحل هو أن الأمراء السعوديين ليسوا جادين في محاربة أسباب الفقر الحقيقية الكامنة في طريقة إدارة البلاد اقتصاديا وسياسيا. فاتساع رقعة الفساد المالي مرتبط في الأساس بالسلطة المطلقة للأمراء الذين يشكلون عصى الرحا في استمرار هذا الفساد . لذلك لا يجب التعويل كثيراً على تصريحات الأمير سلطان حول إعطاء مجالس المناطق صلاحيات تحديد احتياجاتهم المالية من الميزانية العامة لأن زمام الأمر والنهي ببساطة شديدة بيد أمير المنطقة الذي لا تخرج قراراته عن الدائرة النجدية باعتباره امتدادا مصلحيا لسلطة الأقلية النجدية على بقية المناطق الطرفية التي يجب أن يحكمها أحد أبنائها وفق آلية إنتخابية تضمن مشروعية وجوده شعبياً ليس على أساس الانتماء لقبيلة أو منطقة أو مذهب أو فئة وإنما على أساس الانتماء للقيمة الوطنية العليا المرتبطة بمصلحة الجماهير التي انتخبته. أما ما يُراد إتباعه من إصلاحات سلحفائية خلال السنوات المقبلة فلن يقلل من أزمة البلاد الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية. بل المتوقع هو زيادة وتيرة التوتر على كل الأصعدة لأن ما يجري من تحولات داخل المجتمع أسرع بكثير مما تنوي سلطة الأقلية النجدية إحداثه من تغيير سياسي أو اقتصادي للحد من هذه التحولات الأمر الذي ربما يفضي إلى تغيرات دراماتيكية تعجز هذه سلطة عن ضبط إيقاعها لا سيما إذا ترافقت هذه التغيرات مع زيادة التوتر الأمني في المنطقة الشرقية بسب عمليات تمس المنشئات النفطية التي تمد العالم بالنفط.

العامل الثالث: لم تتردد المؤسسة الدينية الوهابية الرسمية السعودية عن إصدار فتوى دينية تشرعن بها قبول العائلة المالكة السعودية حضور القوات الأمريكية للجزيرة العربية أبان حرب الخليج الثانية في بداية التسعينات. وبهذه الفتوى بدت المؤسسة الدينية الرسمية أكثر خذلاناً للكثير من المواطنين الذي ظلوا لفترة مترددين في نقدها. لقد شجع انحياز هؤلاء المترددين ضد هذه المؤسسة التيارَ الديني السلفي غير الرسمي على الافصاح عن معارضته للحكومة السعودية ولمؤسستها الدينية الرسمية. فاصبح هناك موقف ديني وهابي رسمي لا يمانع ظاهراً  بوجود (مشركين بجزيرة العرب) وموقف ديني وهابي أيضا لكنه غير رسمي لا تزال أدبياته تردد: (أطردوا المشركين من جزيرة العرب).

بدت المواقف الدينية تتصارع بشكل صريح بين تيارين دينيين وهابيين متعاكسين تماماً في السعودية الأمر الذي يضع العائلة الحاكمة في موضع المشكوك في شرعيته لدى عدد من المواطنين الذين قد يتحولوا فيما بعد إلى أعداء حقيقيين يوجهون أسلحتهم أو أجسامهم الملغمة إلى مؤسسة الحكم السعودي.

يشكل تنظيم القاعدة الذي يتزعمه أسامة بن لادن الاتجاه الديني الوهابي غير الرسمي الأكثر تشددا، لقد كانت السعودية الداعم المالي الأساسي للمحاربين الاسلاميين خلال حرب المجاهدين الأفغان مع السوفييت والذين كان معظمهم من السعوديين. وبعد الحرب عاد عدد كبير من هؤلاء للسعودية، إلا أن التدخل الأمريكي وبتعاون سعودي رسمي لاسقاط نظام كابول الطلباني المتحالف مع تنظيم القاعدة كان ضربة قوية لهذا التنظيم الذي حارب معظم كوادره في أفغانستان. لقد شكّلت هذه الضربة إصراراً لدى التنظيم على الثأر من الأمريكيين وآل سعود. أما ملاحقة الحكومة السعودية لأعضاء هذا التنظيم ولمناصريه داخل السعودية فيمكن تشبيهه بصب الزيت على النار حيث تحولت السلطة السعودية، من وجهة نظر تنظيم القاعدة، إلى عدو أساسي تجب إزالته بالسلاح.

لقد أتاح غزو القوات الأمريكية للعراق الفرصة لكي يفصح تنظيم القاعدة عن عزمه مهاجمة الحكم السعودي بوسائل عسكرية أكثر تقدما وتعقيدا مما كانت عليه حركة جهيمان في نهاية السبعينات من القرن الماضي. وها هو بن لادن قد أصبح اليوم كابوساً مفزعاً لعائلة آل سعود، فقد أفشل بن لادن أسطورة الأمن التي يتفاخر بها آل سعود حتى وقت قريب، وتحولت السعودية إلى مكان غير آمن إلى درجة أن الحكومة الأمريكية طلبت من رعايها البالغ عددهم 35000 تقريبا مغادرة السعودية بسرعة بسبب تدهور الأمن. وإذا ما لجأ تنظيم القاعدة إلى استهداف الأجانب بشكل متواصل، فسوف يشكل هذا الاستهداف ضربة قاصمة للاقتصاد السعودي وللحكومة السعودية التي لا تزال تحاول لملمة نفسها من مشكلات عديدة وعلى رأسها الاقتصاد وغياب العدالة.   

من الناحية الموضوعية فإن الصراع المسلح الدائر الآن بين تيارين دينيين وهابيين أحدهما يدعم سلطة نظام الحكم السعودي والآخر يعمل على تصفيته يقسم عملياً جزءا كبيرا من المواطنين بين مؤيد للتوجه الرسمي ومؤيد لتوجه تنظيم القاعدة. هذا الصراع يفرز تشكيلاته الاجتماعية والسياسية التي تقترب أو تبتعد عن تأييد الأقلية النجدية السعودية والوهابية وذلك وفقا للملاحظات التالية:

1. يؤيد جزء كبير من الليبراليين والتكنوقراط (السعوديين) الحكم السعودي في إجراءاته ضد جماعات العنف السعوديين. فهؤلاء بهذا التأييد يلتقون عمليا – حتى لو تباينت مرجعياتهم الفكرية - مع موقف المؤسسة الدينية الوهابية التي لم تتردد يوما في تكفيرهم.

2. هناك بعض المتدينيين الذين يسعون إلى تقويض أسرة آل الشيخ كحاكمين دينيين متحالفين مع العائلة المالكة السعودية ليكونوا البديل الشرعي كحليف جديد لهذه العائلة. فلم يتردد مثلا الدكتور عبد المحسن العواجي، وهو من الدينيين الذين يطرحون انفسهم كدينيين وسطيين، من نقد الوهابية ووزير الشئون الإسلامية السعودية على قناة الجزيرة(7). وهؤلاء المتدينيون لا يبدون موقفاً صريحا معاديا لمنظمة القاعدة ولكنهم أيضا لا يعادون المؤسسة السياسية السعودية بل يحاولون أن يكونوا في منزلة بين المنزلتين.

3. هناك عدد لا بأس به من المواطنين يميلون نحو تأييد منظمة القاعدة وما تقوم به من أعمال ضد الحكم السعودي والولايات المتحدة الأمريكية. فالشعور بالكراهية لهذا الحكم وحاميها الأمريكي ربما دفع هؤلاء المواطنين إلى أن تجد في منظمة القاعدة الجهة التي تثأر لهم بسبب فقدانهم لكرامتهم وحرياتهم وبسبب استئثار ذلك الحكم بثرواتهم الوطنية وبمساعدة أمريكية على مدى – تقريبا – الخمسين عاما المنصرمة.

إن تباين مواقف المواطنين من الصراع المسلح بين الأقلية النجدية السعودية والوهابية وحاشياتهم من جهة وبين منظمة القاعدة والمتعاطفين معها من جهة أخرى يُعد مؤشرا سلبيا ضارا بالنسبة لهذه الأقلية وإيجابيا بالنسبة لتنظيم القاعدة وللمتعاطفين معه لأنه يحيد المواطنين الذين يُفترض أن يناصروا السلطة الحاكمة في الأزمات. هذا الحياد هو في الواقع موقف يضعف من تأثير إجراءات الأقلية النجدية سواء من آل سعود أو الوهابيين الرسميين الذين هم في حاجة لمن يؤيدها من المواطنين. ولهذا شرعت وزارة الداخلية إلى إشراك المواطنين في إجراءات الأمن عبر المكافآت المالية. إلا أن منظمة تسمي نفسها (كتائب الحرمين) توعدت كل من يتعاون مع السلطة السعودية في الإبلاغ عن (المجاهدين)، وهذا إجراء مضاد القصد منه على ما يبدو تحييد ورقة الشعب في الصراع.

إن حصر الصراع بين الأقلية النجدية السياسية والدينية وبين جماعات العنف لن يخدم هذه الأقلية على المدى البعيد إذا ما استمر الصراع. ومنظمة القاعدة تعتزم، بحسب إحدى بياناتها المنشورة في المواقع السلفية على الانترنت (كموقع القلعة) تبشر بحرب استنزافية طويلة المدى. إن استمرار الصراع بين الأقلية النجدية ومنظمة القاعدة سيستنزف الكثير من المال والجهد من المؤسسات السعودية الحكومية وهو ما يعني وضع هذه الأقلية في خيارات قليلة وضيقة يصعب التحرك من خلالها. وربما تضع هذه الخيارات الأقلية النجدية في زاوية يعزلها اجتماعيا ودينيا بشكل تدريجي لتترك بعد ذلك لمصيرها في صراع مع مجموعات هنا وهناك تنتهج العمل المسلح بأيديولوجيا دينية وهابية أيضا لتحقيق أهدافها السياسية وعلى رأسها الوصول للسلطة لتشكيل دولة الخلافة الاسلامية.

ما يمكن قوله هو أن الحالة الدينية في السعودية صارت حالتان: حالة رسمية مدافعة عن شرعية نظام الحكم السعودي وحالة تهاجم هذه الشرعية بأشكال مختلفة. ولأن المؤسسة الدينية الرسمية لا تستطيع إعلان مواقف مستقلة عن نظام الحكم ، فهي عرضة بالتالي لكراهية المواطنين المتضررين من سلطة الأقلية النجدية . وإذا ما قرر هؤلاء المواطنون عمليا ترك هذه الأقلية لمصيرها في صراعها مع منظمة القاعدة والمتعاطفين معها، فإن احتمال سقوطها لن يكون بعيدا إلا إذا تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية لانقاذها من جديد وهذا سوف يعقد الوضع أكثر وسوف يجعل مبررات منظمة القاعدة والمتعاطفين معها أكثر مقبولية لدى كثير من المواطنين الذين أظهروا حيادا قبل ذلك، الأمر الذي يدفعهم هذا القبول إلى تبني مواقف أكثر عنفا تجاه الأمريكيين وسلطة الأقلية النجدية المحمية أمريكيا.

تقف سلطة الأقلية النجدية السعودية والوهابية اليوم على مفترق طرق، فقد أفرز نهجها التقليدي مآزق في علاقتها الاستراتيجية مع حليفها الأمريكي الداعم لوجودها كسلطة حاكمة، كما أفرز مآزق اقتصادية تتضاعف كلما نمى عدد السكان كل عام في ظل استمرار نهب المال العام، وأفرز أيضا مآزق في شرعيتها الدينية التي ساهمت بفعالية في تقويض دعائم الروابط الوطنية بين المواطنين. كل هذه المآزق، إن لم يجرِ حلها بسرعة، فإن المزيد من المآزق والأزمات سوف تتوالى كلما تصاعد العنف المسلح وطال البنية التحتية النفطية وأفراد مهمين في العائلة السعودية الحاكمة.

إن عودة مناطق المملكة السعودية إلى سابق عهدها قبل قيام الدولة السعودية الثالثة أمر لم يكن فرضية مستحيلة إن لم يجرِ إعادة ربط هذه المناطق وفقا لمصالح كل منطقة من حيث المعالجة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. أما ما ترتبه الأقلية النجدية الآن لإجراء بعض التعديلات التي تسمى إصلاحات فلا يُعتقد أنها نافعة في ظل ما يجري في السعودية من أحداث ومتغيرات متلاحقة ومتصاعدة ومتسارعة. 

 هوامش

 (1) صحيفة البيان -  26 نوفمبر -  2003

(2) Nimord Raphaeli , Saudi Arabia: A brief guide to its politics and problems. Journal of Meddle East Review of International Affairs (MERIA ) , volume 7. No. 3, September 2003. 

(3) صحيفة الوطن 21 ديسمبر 2003

(4) صحيفة الوطن 22 ديسمبر 2003

(5) صحيفة الوطن 30 نوفمبر 2003

(6) Nimord Raphaeli. op.cit

(7) قناة الجزيرة -  حلقة بلا حدود  بتاريخ  5 /11/ 2003