مكرمة متأخرة أربعين عاماً

قيمة الإبداع في مدن الملح

 

رحل الروائي السعودي عبد الرحمن منيف الذي عاش معظم حياته في المنفى، وجرد من جواز سفره من السفارة السعودية في دمشق عام 1963.

أربعون عاماً مرت والمراة ملء النفس، رفضت معها السلطات السعودية منح مواطنها العظيم وثيقة سفر هي من حقه وحق أولاده، الذين كانوا جميعاً يتنقلون بجواز سفر سوري. لم يدرك صانع القرار قيمة الراحل منيف إلا قبل عقد من الزمان، ومع ذلك لم يبادر مسؤول سعودي بتسليمه وعائلته جوازات سفر سعودية، كمؤشر احترام للشخصية الأدبية العظيمة.

حاول ولي العهد السعودي قبل نحو تسع سنوات (إعادة) منيف الى المملكة؛ ولكن الراحل لم يرغب أو (خشي) العودة، ولربما خشي من (الإبتزاز السياسي) ورفض أن تكون عودته بمثابة إعلان براءة من ماضيه، أو ورقة سياسية يستخدمها النظام في الداخل. وهكذا فشلت المحاولة، ورفضت السلطة تسليم منيف جواز سفر سعودي، ما لم يعدْ الى المملكة! وهناك من يزعم بأن السفارة السعودية في دمشق كانت ستمنح منيف جواز سفر ولكنه يرفض أن يأتي الى السفارة!

المسألة لم تكن شكليّة الى هذا الحدّ، ولكن الواضح أن منيف اعتبر عدواً خطراً من خلال ما اصدره من روايات خاصة مدن الملح التي حكت التاريخ السعودي برجاله وحكامه وتراثه بصورة أدبية رائعة، ومن زاوية معارضة.

وفاة عبد الرحمن منيف في المنفى، ودفنه في المنفى، كان فضيحة بكل المقاييس للحكومة السعودية. صار موت هذا الروائي العظيم حديث كل الدنيا وورقة إدانة لممارسات العائلة المالكة، وفي حين كان محط تقدير العالم كان حكام وطنه غير معنيين به. وفي حين شيعه جمهور غفير في تظاهرة ثقافية ورسمية شملت وزراء وشخصيات سياسية وأدبية، لم يكن بين المشيعين ممثلاً للحكومة السعودية أو سفارتها في دمشق.

هكذا هي قيمة الإبداع في مدن الملح!

إزاء هذا الإحراج السياسي، حاول السفير السعودي في دمشق بكر عبد الله بكر أن يخفف من مأساة الروائي الراحل، فاتصل ـ بناء على أوامر حكومية ـ فزادها ألماً. فقد نُشر أنه اتصل بزوجة منيف السيدة سعاد قوادري لتنقل تعازي ولي العهد الأمير عبد الله بن عبدالعزيز، وذلك قبل دفنه بساعات، وعرض عليها تسهيلات لنقل جثمان الراحل الى السعودية ودفنه هناك، إضافة الى عرض تخصيص مسكن لعائلة منيف ورواتب شهرية ومنح جميع افراد العائلة جوازات سفر سعودية!

عرض متأخر جداً! وسواء كان العرض مدفوعاً بحسّ إنساني لا يخلو منه ولي العهد، أو لتلافي تشكيل صورة سيئة عن الحكم السعودي، فإن منيف ـ بعد ان رحل ـ يستعصي على الإستغلال السياسي. وبلا شك فإن استكمال دفن منيف في دمشق، لم يبق إلا الجانب الإنساني من رحلة منيف السياسية والأدبية، ونتمنى ـ إن قبلت العائلة العودة الى السعودية ـ أن تنال من التكريم والتقدير ما يعوضها عن سنين التشريد والمنفى.

رحم الله عبدالرحمن منيف، والعزاء لكل محبيه ولعائلته: زوجته سعاد، وابنتيه ليلى وعزة وابنيه هاني وياسر.