مداخل التغيير: الضغط الغربي ـ التحول الإجتماعي ـ مبادرة رجال الحكم

 من يحرك عجلة الإصلاح؟

 

مرتضى السيد

 

من أكبر المشاكل التي تواجه أمة أن لا تكون حركة التغيير فيها مرتبطة بـ (أو ناتجة عن) تفاعل وتحول اجتماعي داخلي، الأمر الذي يجعل التغيير السياسي مرهوناً ومعلقاً بجهات خارجية أو بقرار من النظام الحاكم وأقطابه. هذه المقالة تلقي الضوء على منافذ الضغط من أجل التغيير السياسي في المملكة.

بلا شك فإن للعامل الدولي دوراً في التحولات السياسية التي تشهدها العديد من مناطق العالم الثالث، وبلا شك أيضاً فإن الحكومات نفسها تعتبر عاملاً حاسماً في التغيير إن أرادت، ولكن المهم أن يأتي التغيير نتيجة تحوّل نوعي في المجتمعات لا أن يُفرض عليها فرضاً بحجة بطء حركتها وبغية جذبها والقفز بها باتجاه تغيير سريع.

يدور النقاش بأن التغيير في المملكة الذي يتحدث عنه ما هو ـ إن حصل ـ إلا نتاج لضغوط أميركية بسبب تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر. في حين أن الأمراء والمقربين منهم ينفون أي دور للخارج في حمّى النقاش المحلي حول الإصلاحات السياسية والهيكلية الموعودة. ويقولون بأن الإصلاح قرار حكومي لم يحدث بسبب ضغط شعبي في الداخل أو من الخارج، وهذا ما يكرره الأمير نايف في أكثر من مناسبة.

وفي حين بات صعباً الفصل بين عوامل التغيير المحلية والخارجية، فإنها جميعاً تلتقي اليوم لتدفع باتجاه التغيير. وإذا ما حصل فإنه ليس تغييراً على المقاس الأميركي والغربي ولا هو تغيير جاء بجهد (شعبي) فحسب، أو بسبب (تطور) في العقلية الشعبية فقط. كما أنه إن حدث لن يأتِ بإرادة حكومية مقتنعة لاتزال حتى الوقت الحاضر تناطح الصخر لتتهرب من مستحقاته.

نعم هناك ضغط غربي على المملكة باتجاه الإصلاحات. هناك ضغوط لمكافحة ما يسمى بالإرهاب، وضغوط لتغيير المناهج، وضغوط لحفظ الحقوق المدنية للمرأة والأقليات الدينية، وكذلك هناك ضغوط للبدء بشيء من اللبرلة للإعلام المحلي، وضغوط من أجل إصلاح للنظام السياسي بحيث يتمكن كل ذلك من امتصاص مخزون العنف في المجتمع السعودي.

الضغوط الغربية على المملكة حقيقة لا مجال لإنكارها.

وهي ضغوط تبدو مفيدة في زحزحة العائلة المالكة عن مواقفها التسلطية في الداخل. ورغم أن كثيراً من الإصلاحيين يعلنون أنهم ضد الضغوط الأميركية، لكنهم في واقع الأمر يدركون أهمية تلك الضغوط على صعيد الإصلاح العام، وعلى صعيد توفير مظلّة من حرية الحركة والأمن لدعاة الإصلاح والتغيير.

لكن ينبغي الإشارة الى أن هناك من يرى التغييرات المنتظرة ناتجاً في الإساس عن تحوّل داخلي في مجتمع المملكة. التحول في الوعي السياسي غير المسبوق، والتحول في الأوضاع الإقتصادية التي ولدت شعوراً جمعياً بالحاجة الى منافذ سياسية، والوعي بأن أحداً لا يمكنه تقديم الإصلاحات على طبق من ذهب ما لم يقم المجتمع ونخبه بالمطالبة بها. هناك شعور جديد بأن العائلة المالكة هي المشكلة في تردي الأوضاع على مختلف الصعد، وأنها لن تتنازل مختارة عما في يدها، او تقدم على الإصلاح بدون ضغوط محليّة شعبية، كانت العرائض واحدة من تجلياتها، وكذا العنف المستمر في البلاد منذ نحو عامين يمثل صورة من صور الإنسداد الداخلي وتعبيراً عن الحاجة الى الإصلاح نفسه.

والمؤمنون بدور الشعب وحركته، والمراهنون على وعيه، يعتقدون بأن الإدارة الإميركية وإن كانت تضغط من أجل الإصلاح السياسي، إلا أنها ما كانت لتتحرك لولا احداث 11 سبتمبر، ولولا انقلاب صورة الوضع الداخلي السعودي رأساً على عقب. بمعنى أن الإدارة الأميركية دخلت مجبرة على الخط الإصلاحي لا مختارة، ولاتزال هناك بواقٍ من تردد وخشية من الحريات للشعب، كأن تفرز الإنتخابات انتصاراً لمن تسميهم الحكومة (الطالبانيين). العائلة المالكة هي الأخرى تجد نفسها مجبرة على الإصلاحات، خشية انفلات الوضع الداخلي وتفاقم العنف، ولكنها تخاف من اميركا والغرب أكثر من خوفها من شعبها. ولعل موجة العنف أحدثت بعض التوازن في ذهنية صانع القرار، بأن التحدي الداخلي لا يقل خطورة واهمية عن الضغط الخارجي. ورغم كل هذا، لازال الحديث مبكراً عن إصلاحات هيكلية في النظام، ولازال جناح الصقور برئاسة سلطان ونايف وسلمان يعارض أية انتخابات. ومن المحتمل جداً أن انتخابات البلدية المشوهة بالنصف، لا تجري أصلاً نهاية هذا العام كما خطط لها.

فرغم أن الأجواء يشمُّ منها أن تغييراً وإصلاحاً سيحدث، لا يوجد على الأرض ما يمكن اعتباره تجربة سعودية مطبقة حتى الآن. التجربة السعودية السياسية لم تدخل مرحلة التطبيق، وهي تطرح الكثير من التساؤلات:

لماذا لم تتخطّ الإصلاحات السعودية مرحلة الوعود حتى الآن، في حين أن كل الدول الخليجية بدأت بها منذ فترة غير قصيرة؟ هل السبب هو أن المجتمع لم يمارس قدراً أكبر من النضج الذي وصلت اليه الدول الأخرى؟ لا نظن ذلك. ولا نعتقد أن الضغوط المجتمعية قليلة، ولكن يبدو أن قدرة النظام على المقاومة والرفض للإصلاح أكبر. إنه نظام أكثر رعونة من الأنظمة الأخرى المجاورة.

ويمكن القول أيضاً أن الضغوط الأميركية لاتزال ضعيفة، وهدفها التعاون للقضاء على ما يسمى بالإرهاب أكثر من كونها تستهدف إصلاحاً على المدى البعيد. أي ان الضغوط الغربية لم تتبلور بعد بشكل حاسم، ووفق خيارات وأجندات محددة. وعلى أولئك الذين يضعون العامل الدولي في الدرجة الأولى من التأثير الإجابة على هذه الأسئلة: إذا كان الضغط الأجنبي المستند الى المصالح هو العامل الحاسم في التغيير الداخلي في المملكة فلم لم يثمر هذا الضغط ـ حتى الآن ـ إلا القليل من الثمار؟ مع ملاحظة ان العائلة المالكة صارت خبيرة بالضغوط الأميركية واستطاعت في عقود ماضية الإلتفاف على (نصائح) أصدقائها وتغيير قناعاتهم كلياً او جزئياً. فهل هذه المرة تختلف عن تلك المرات السابقة؟ ولماذا أثمر الضغط الأميركي في بلدان خليجية ولم يثمر في المملكة؟ وهل الضغط كان قليلاً، لأن العائلة المالكة تمثل خيار الغرب، وأنها أفضل الموجود؟ نحن بحاجة الى وقت لنرى كيف تتبلور الضغوط الداخلية والخارجية فيما يتعلق بالعملية الإصلاحية في المملكة.

اما الذين يعتقدون ببوابة التغيير المجتمعي دون الإلتفاف الى الخارج فيواجهون أيضاً بأسئلة مختلفة: هل التحول الداخلي في المملكة من جهة الوعي والضغوط الإقتصادية يعتبر ضئيلاً فلم يفرز ضغطاً قوياً وشاملاً من أجل الإصلاح؟ هل كان الضغط الذي قامت به النخب مجرد سحابة صيف وتوقف بلا أثر، ولم يحرك شعرة في رأس الأمراء الكبار؟ هل هناك حاجة لمزيد من الضغط السياسي الداخلي، وكيف يكون، ومن يقوم به؟

هناك بين المحللين من يعتقد بأن الحركة الداخلية تتجه للصدام مع العائلة المالكة، وليس للتوصل الى حلول على قاعدة ما أعلن من انتخابات بلدية. بمعنى أن حركة المجتمع قد سبقت حركة النظام المتأخرة ولاتزال متقدمة عليه، وبالتالي فإن الشعور يتزايد باتجاه الصدام السياسي الذي قد يأخذ أشكالاً عنفية، أو بالأصح يفرز توجهات عنفية، بقدر ما ييأس الناس من إقدام المسؤولين على الإصلاح، بقدر ما تفتح الأعين على الخيارات الراديكالية والعنفية. وفي حال وجود ضغط داخلي قوي حتى وإن اتخذ شكلاً عنفياً، فإن الضغط الخارجي سيتضاعف.

إذا لم تكن حركة المجتمع هي الدافعة باتجاه الإصلاح.. وإذا لم تكن الضغوط الخارجية لها فائدة جلّى في وضع كالمملكة.. فإن أصحاب الرأي الثالث يقولون بأن إرادة الإصلاح منوطة بالملك وولي عهده وسلطان ونايف. فمتى قرر هؤلاء الإصلاحات فإنها ستقوم، ومادموا رافضين لها فإن أحداً لن يراها في المستقبل. وأصحاب هذا الرأي يتناسون التراكمية في العمل السياسي، ويركزون على أن إرادة الإصلاح غير متوفرة في العائلة المالكة وبالتالي لا يبقى الا السكوت وانتظار الفرج بأن يهدي الله الأمراء فينفذوا وعودهم الإصلاحية التي تمتد منذ الستينيات الميلادية من القرن الماضي حتى اليوم!

هل الحل ان ينتظر الشعب المزيد من الوعود الملكية؟ أم أن سوء حظ المملكة جعل الإصلاح فيها معلقاً على قرار شخص واحد أو بضعة أشخاص يقودونها الى مصير مجهول؟

ملخص القول، إن الإصلاح نتيجة عمل تراكمية في المجتمع ونتيجة تطور في عقلية رجال الحكم وكذلك تطور الظروف المحيطة بالدولة. انه نتيجة تظافر عوامل خارجية وداخلية، اقتصادية وسياسية وأمنية، ولكنه ـ أي الإصلاح ـ لم يكن يوماً رهناً بإرادة المسؤول وصانع القرار. فهو كسياسي يقرأ خارطة الأوضاع التي أمامه. قد يقرأها خطأ فيتأخر في إصدار قراره، وقد يدفع الثمن نتيجة ذلك عنفاً ودماً. وقد يحسّ بالتغير من أول الإشارات: فاللبيب بالإشارة يفهم! فيبادر الى الإصلاح ويركب موجه ويسيّره باتجاه يقلل الخسائر عليه.

في المملكة، القيادة شاخت وأصابها التيبّس الذهني، ولها باع طويل في الرعونة ومقاومة الإصلاحات بناء على مفاهيم بالية لا توجد إلا في مخيلة الأمراء انفسهم. ولهذا فنحن أمام تطورات عنف واضمحلال لجهاز الدولة، لم يستطع الذهن المحجوب بهيلمان القوة والمكابرة أن يقرأها، ولذلك لن يلين صاحب القرار في مواقفه قبل أن تصعقه الألسن والعنف والتهديد الأجنبي.