المؤشرات الإيجابية والسلبية في حركة التغيير الديمقراطي في السعودية*

 

حمزة الحسن

لاتزال السعودية ومنذ أحداث 11 سبتمبر تستقطب اهتمام العالم، الذي يرقب ما يجري فيها عن قرب واهتمام بالغين. فالمملكة تعيش إرهاصات تحوّل سياسي عميق، نأمل أن يكون سلمياً وبأقلّ الكلف. خلال العام الماضي، ظهرت مؤشرات تغيير إيجابي فيما يتعلق بمسار التغيير السباسي الديمقراطي. ولكنها مؤشرات غير نهائية، مبهمة، وتحمل في داخلها ـ حسب تفسيرات أخرى ـ دلائل سلبية معاكسة. المقالة التالية تقرأ مؤشرات التغيير في المملكة.

 فيما يلي مختصراً بعض المؤشرات، وكيفية مقاربتها من زوايا مختلفة.

 1 - مؤشر العنف:

 في اجتماعنا العام الماضي في (مجلس اللوردات) قلتُ أن العنف في المملكة سيتصاعد كنتيجة للإنسداد السياسي. وبالفعل فقد تصاعدت حدّة العنف والتفجيرات من حيث النوعية والعدد، وكانت انفجارات 12 مايو الماضي ثم 7 نوفمبر الماضي، تحولاً تاريخياً من حيث دلالاته السياسية والأمنية. السؤال الذي واجه الإصلاحيين حينئذ يقول: هل يؤدي تصاعد العنف الى تعجيل الإصلاحات أم تأجيلها؟ وقد انقسم التيار الإصلاحي بين الرأيين وكلاهما أعلن معارضته المبدئية للعنف. نحن الآن بصدد الموجة التالية للعنف، وهناك مؤشرات تفيد بأنه سيأخذ صفة الإغتيالات للمسؤولين السياسيين والأمنيين، وقد ظهرت بوادر ذلك في الشهرين الماضيين، حيث وقعت عدة حوادث.

بالرغم من رفض العنف كوسيلة للتغيير السياسي، فإن ما حدث العام الماضي من عدم استقرار أمني ساعد ـ حسب تحليلي ـ بصورة جذرية في (تقريب الإصلاحات) رغم أن هناك من يرى أن الإصلاحات تأجلت لكي تتفرغ الحكومة لمواجهته، وأن الجمهور صار أقلّ دفعاً باتجاهها، فهو يبحث عن الأمن قبل الإصلاح.

الذي حدث هو أن العنف أطلق موجة من حرية التعبير غير مسبوقة من خلال الإعلام المحلي. لأول مرة تمّت مناقشة الفكر الوهابي المتطرف والتكفيري بصورة موسعة في الإعلام الرسمي ولازال. أيضاً أدى العنف الى تقليص شرعية العائلة المالكة التي قامت في الأساس على ما يمكن اعتباره (منجز أمني). ورغم التعاطف الشعبي الأولي مع الحكومة، إلا أن الجمهور سرعان ما التفت الى أخطائها في الميادين الإقتصادية والسياسية والفكرية، والتي كانت الأساس في ظهور أزمة العنف. وقد كتبت الكثير من المقالات في الصحافة المحلية تحلل الوضع السياسي والإقتصادي والبنية الفكرية وكيف ساهم كل ذلك في الوصول الى مستنقع العنف. وقد طرحت الحلول بدون مواربة: إصلاح سياسي، إصلاح إقتصادي، إصلاح فكري ثقافي يتضمن حريات واسعة للتعبير، وإلغاء الأحادية الثقافية والدينية المهيمنة.

المؤسسة الدينية الرسمية كانت من الناحية السياسية إحدى ضحايا العنف، كونه خرج من تحت جلبابها، وأن دعاة العنف تخرجوا حسب فكرها ومن مدارسها. وإضعاف التيار الديني السلفي التكفيري المحافظ، ووضعه في دائرة الإتهام، أعطى فرصة للأصوات الليبرالية بالبروز. فالمؤسسة الدينية الرسمية ـ كما العائلة المالكة ـ أهم قلاع الجمود والمحافظة والرفض للإصلاحات، وهي المتضرر الأساس منه.

بالطبع فإن الحكومة السعودية حققت بعض الفوائد من موجة العنف. أولها أنها أظهرت نفسها كضحية له، لا كمسبب وداعم، كما يتهمها الجناح اليميني المحافظ في واشنطن. وثانيها: إنها استطاعت تخطي عوائق التيار الديني الرسمي التي يضعها أمام التغييرات الشكلية التي يزمع النظام القيام بها. وثالثاً، إنها فتحت الباب لتخطي حواجز في العلاقة مع أميركا من جهة التعاون في مكافحة الإرهاب بعد أن تحول الى الداخل السعودي. ورابعاً، استطاعت ـ ولو لفترة محدودة ـ أن تحشد الشارع السعودي خلفها لمواجهة العنف.

وهكذا، فإن العنف، في المحصلة النهائية لم يخدم العائلة المالكة إلا على نحو محدود، ولكنه سهّل من جهة اخرى عملية التغيير والإصلاح.

 2 - إنشقاق العائلة المالكة

 العائلة المالكة تعيش انشقاقاً حاداً، سببه الأساس أن الجناح السديري لم يقبل إلا مكرهاً أن يكون ولي العهد الأمير عبد الله ملكاً على البلاد. ولكن هذا الجناح لا يريده إلا ملكاً إسمياً ضعيفاً قليل الصلاحيات. ولهذا، فإن المملكة اليوم لا تخضع لإدارة مركزية، ويمكن القول أن هناك خمس دول في دولة واحدة، يقف على رأسها خمسة ملوك، وكل ملك له وزراؤه وأعضاء مجلس الشورى، وإعلامه، إضافة الى مخصصاته المالية وأحياناً جناحه العسكري. والخمسة ملوك هم: (الأمير عبد الله، وسلطان، ونايف، وسلمان، والأمير عبد العزيز ممثلاً لأبيه الملك فهد).

الإنشقاق قد يعتبر ظاهرة مفيدة في الإصلاحات السياسية، فهو يضعف العائلة المالكة أمام الضغوط الخارجية والداخلية، وهو يسيء الى سمعة العائلة المالكة، ويضعف أداء الدولة وأجهزتها، بشكل يزيد النقمة عليها. ولكن هناك جوانب سلبية على الإصلاح السياسي بسبب تلك الخلافات. فكما هو واضح اليوم، إن هذا الموضوع صار مادة اختلاف تضاف الى المواضيع الأخرى بين الأمراء؛ وبسبب الخلافات بين أجنحة الحكم فإن إرادة سياسية موحدة لم تنبثق لتتبنّى موضوع التغيير، وهناك من يتحدث عن تيارين: أحدهما يدعم الإصلاحات وهو تيار ولي العهد، والآخر تيار السديريين (نايف وسلطان وسلمان) وهو معارض للإصلاحات، ويتلقى بعض الضغوط الخارجية ـ من واشنطن ـ لتعديل موقفه. وقد نتج عن هذا الإختلاف أن مشاريع الأمير عبد الله يتم تعويقها وعدم تنفيذها، وهو ما أشار اليه الأمير عبد الله أكثر من مرة وبصورة علنية، كما نقل ذلك ابنه متعب نائب رئيس الحرس الوطني في الشهر الماضي. فالجناح السديري يتحكم بمعظم الجهاز البيروقراطي، ويتحالف مع المؤسسة الدينية ويسعى لإظهار الأمير عبد الله بأنه ضعيف وغير قادر على تنفيذ وعوده، كما هو واضح ـ وكما قال الأمير عبد الله نفسه ـ في موضوع الإنتخابات الجزئية البلدية، حيث أشار الى أنه يفقد مصداقيته بسبب عدم تنفيذ أوامره وقراراته.

 3- الحريات الإعلامية والصحافية

 شهدت المملكة في العام الماضي تطوراً غير مسبوق في تاريخها في حرية الإعلام الداخلي، ولكن هذا الهامش من الحرية ليس مؤطراً بصورة قانونية، ويمكن للحكومة التراجع عنه في أي لحظة. مقابل توسع هامش حرية التعبير في الصحافة ووسائل الإعلام الرسمية، نرى صورة مناقضة وهي أن العام الماضي شهد أكبر عدد من الموقوفين والمطرودين من الصحافيين ورؤساء ومدراء التحرير (جمال خاشقجي، أيمن حبيب كأمثلة)، إضافة الى تهديد قسم آخر بعدم الظهور في القنوات الإعلامية الخارجية، وبعضهم منع من السفر.

المؤشران المتناقضان في الحرية الإعلامية يمكن تفسيره بالتالي: أولاً ـ إن الحكومة السعودية وجدت أن الصحافيين قد كسروا الخطوط الحمراء، في ظل تراجع لهيبة الدولة وقوانينها، ولذا وجدت نفسها بحاجة الى وضع عوائق توقف تقدم الصحافة وطرقها للمحظورات التي تقلصت بشكل كبير. ثانياً ـ هناك ضغوط كبيرة من رجال المؤسسة الدينية الذين وجدوا أنفسهم في موقع المتهَم والمنتقَد، وكانوا يطالبون بوقف الهجوم عليهم، بحجة أنه هجوم على (الدين).

ينبغي الإشارة الى حقيقة أن الحكومة (غضت الطرف) عن الإعلام والصحافة المحلية لسببين: الأول: ضرورة تنفيس احتقان الشارع السعودي نفسياً. الثاني: إعادة الإعتبار للإعلام الداخلي الذي بان ضعفه بالمقارنة مع الإعلام والقنوات الفضائية الخارجية، وخاصة قناة الجزيرة، ويمكن القول بان التطور النسبي في الإعلام المحلي السعودي والعربي عموماً جاء على خلفية منافسة قناة الجزيرة والقنوات الفضائية الأخرى.

ايضاً تجدر الإشارة الى أن الحرية الإعلامية النسبية ـ بالرغم من أنها جاءت من باب المنافسة ـ فإنها رفعت سقف الحريات الداخلية وخلقت مناخاً لم يكن مألوفاً من قبل. وهنا، يمكن القول، بأن القدر الذي تأتى من تحرير الإعلام المحلي يعتبر واحدة من البوابات الأساسية نحو التغيير السياسي. ومن الناحية النظرية، يمكن للحكومة أن تعيد الإعلام المحلي الى وضعه السابق، أو توقفه عند حدوده الحالية، لكن ذلك أمر مستبعد، إذ يصعب التراجع بدون إحداث توتر داخلي وبدون ان يؤدي الى جذب ضغط خارجي شديد القسوة على الحكومة.

 4 - العلاقة بين العائلة المالكة والتيار الوهابي

 هذه العلاقة أحد أهم مؤشرات التغيير. فالتحالف الوهابي السعودي القوي يعني حتماً إبقاء نهج الجمود والمحافظة ومعاندة تيار التغيير. لقد شهد العام الماضي تصدّعاً ـ نسبياً ـ في العلاقة بين الطرفين، لا يصل الى حدّ الإنفكاك كما يريده الأميركيون وشرائح أخرى من المجتمع السعودي. العائلة المالكة واعية لهذا التحدّي، فالوهابية كانت على الدوام الحليف الذي تضرب به العائلة المالكة أعداءها الداخليين وتشرعن به نفسها على رأس الهرم السياسي. لكن المؤسسة الدينية وبقدر لا بأس به بدأت تثقل كاهل العائلة المالكة، وتصبح عنصر تهديد لها، فقوة المؤسسة الدينية الوهابية تستدعي صراعاً اجتماعياً وقع منذ تأسيس الدولة السعودية، وها هي اليوم تستدعي عداء الغرب والولايات المتحدة. والأمراء يريدون اليوم (الموازنة) بين الأمرين: الضرر والمنفعة. وهذا يتطلب منهم (تقليص) السلطات الدينية في جهاز الدولة، بحيث يرضي الخارج الغربي بشكل نسبي، ويخفف من الصراع الإجتماعي المذهبي والسياسي الداخلي، ومن جهة أخرى يريد الأمراء أن تبقى المؤسسة الدينية أحد الروافد الرئيسية للشرعية الدينية لحكمهم.

الحصول على هذا التوازن أمرٌ صعب، ولكنه ليس مستحيلاً. ولكن المشكلة هي أن المؤسسة الدينية تقاوم الحدّ من صلاحياتها، وقد رأينا موقفها من دمج تعليم البنات مع وزارة التربية والتعليم، ولايزال موقفها شرساً من تعديل المناهج الدينية، وهي أيضاً لا تشعر بالإرتياح من خطوة الأمير عبد الله بدعوته للحوار الوطني الذي أنهى لقاءه الثاني في مكة مؤخراً والذي جمع كل ألوان الطيف السعودي السياسي والمذهبي.

ومما يجعل البحث عن التوازن صعباً في العلاقة مع الوهابية ومؤسساتها، هو استخدامها كأداة للصراع السياسي بين الأمراء. ففي حين يتبنّى الجناح السديري (الأميران نايف وسلطان بالذات) رؤية الإستمرار في التحالف القديم، يرى الأمير عبد الله (تقليص) الوهابية و(الفكاك) من أسرها، خاصة وأن الظروف الداخلية والخارجية مهيّأة، مع ما يعني ذلك من إضعاف نسبي للعائلة المالكة، إذ لا بدّ من تعويض الشرعية الدينية بشرعية (وطنية) قائمة على ثقافة وطنية وعلى مشاركة شعبية سياسية.

وفي الوقت الذي يرجح فيه إضعاف المؤسسة الدينية وتطويعها بشكل تدرجي، نرى أنها خلال العام الماضي قد أعطيت صلاحيات من جوانب أخرى. فلأول مرة صار للتيار السلفي الديني قناة فضائية، وزادت نسبة مشاركة أتباعه في الإعلام المحلي وإعلام الدولة، إضافة الى ما لدى التيار من سلطات رقابية وقضائية وتعليمية وغير ذلك.

 5 - العلاقة مع الغرب والولايات المتحدة

 وهذه العلاقة تؤشر أيضاً الى إمكانية الإصلاح والتغيير. فالغرب بشكل عام وفّر مظلّة للحكومة السعودية في قمع خصومها الداخليين، ومنحها قوّة في سياستها الخارجية وفي مقاومة الإصلاح (إضافة الى إمكانياتها المالية). توتر العلاقة مع أميركا ـ خاصة بعد أحداث سبتمبر ـ وانشغال المملكة بمشاكلها الداخلية، وضعف نفوذها الخارجي، وفّر مظلّة للعمل السياسي الداخلي. فالتهديدات الأميركية من الجناح المحافظ بتقسيم المملكة وإسقاط العائلة المالكة واعتبارها عدواً، أظهر العائلة المالكة بدون سند خارجي طالما اعتمدت عليه. الشعور بضعف العائلة المالكة مقابل التهديدات الخارجية، وتسليط الأضواء على ما يجري فيها من الإعلام الغربي ومنظمات حقوق الإنسان، وفّر مساحة من الحركة للإصلاحيين في الداخل.

استطاعت الحكومة السعودية أن تغلّب وجهة نظر المعتدلين في واشنطن مستفيدة من التراجعات الأميركية في العراق، وإقناعهم بأنها مازالت الصديق وأنها بصدد الإصلاح وأنها ستقوم بمكافحة الإرهاب. ولذا، فإن الحد الأدنى الذي يبدو أن الولايات المتحدة مقتنعة به هو بالترتيب: مكافحة الإرهاب، ثم الإصلاحات السياسية. لهذا فالإصلاحات الداخلية تبدو واجباً على العائلة المالكة، وهي مرغمة ـ رغم مماطلتها وتمطيط الوقت ـ على القيام بها. لكنها تراهن على أمرين: انتكاسة الوضع الأميركي في العراق، وسقوط الرئيس بوش في الإنتخابات. فإذا ما تحقق الأمران وهما مرتبطان ببعضهما، فإن الامراء السعوديين سيقلصون حجم التغيير المطلوب منهم الى أدنى حدوده.

بالنسبة للإصلاحيين السعوديين، فإنهم يرون في الضغوط الأميركية أمراً مفيداً، حتى وإن كانوا يعلنون عكس ذلك، ولكنهم غير واثقين من اتجاه الإدارة الأميركية في موضوع الإصلاحات السياسية في السعودية. فبعضهم على الأقل يرى أن همّ الولايات المتحدة الأول هو مكافحة الإرهاب والمصالح الإقتصادية، فإذا ما تمّ ذلك سيخف الضغط عن السعوديين، خاصة وأن العائلة المالكة أقنعت وزارة الخارجية الأميركية بأن البديل لها هو حكم طالباني، وأن الإنتخابات قد تأتي بالطالبانيين. وبالفعل تراجع الضغط الأميركي كثيراً منذ منتصف العام الماضي.

خلاصة القول أن هناك مؤشرات إيجابية وسلبية في مسار السعودية السياسي نحو الإصلاح. وفي حين تبدو المؤشرات الإيجابية أكبر، إلا أنها غير قطعية. فالإنتخابات البلدية المقررة نهاية هذا العام لنصف الأعضاء بالنسبة للبعض مؤشر إيجابي، وبالنسبة للبعض الآخر مؤشر سلبي للغاية. فالتغيير متأخر وليس شاملاً، ولا توجد أجندة له، ولا دستور يحدد شكل الحكم. وحتى مؤتمر الحوار الوطني الذي دعا له ولي العهد السعودي، الذي لا يخلو من فوائد، لا يلبي الحاجة، فالحوار المطلوب هو بين السلطة ودعاة الإصلاح وليس بين الشرائح الإجتماعية فحسب. وفوق هذا فإن التوصيات التي قررها مؤتمر الحوار الوطني لا يرجح تنفيذها قريباً، وهناك تخوف من استخدام الشعارات الوطنية بدون آليات تنفيذ.

* (نص كلمة حمزة الحسن في مؤتمر مستقبل الديمقراطية في المملكة العربية السعودية المنعقد في لندن في 22 يناير 2004)