في لقاء معه بعد ثلاثين عاماً من المنفى

السعودية والوطن البديل في عيون الراحل عبد الرحمن منيف

 

 وصلنا الى باحة فندق الشام الواقع في قلب العاصمة السورية، ومع اقتراب الموعد المقرر للقاء كنا نحدّق في الداخل والخارج من الفندق بحثاً عن عبد الرحمن منيف، بسحنته السمراء وشعره الأبيض. كان زميلي قد إلتقى به في وقت سابق، فلم يكن بحاجة الى بذل مزيد من الجهد للتعرف عليه، وما إن أخذنا مواقعنا على طاولة مطلّة على الشارع في مقهى الفندق، حتى أطّل علينا عبد الرحمن بابتسامة دافئة. لم يكن متكلفاً في لبسه وحديثه الى جانب ابتسامته، وبدا وكأنه يلتقي مع شركاء له في المحنة والغربة. كنا حينذاك نتقاسم معه ألم المنفى، والحنين الى وطن، لم نكن حينذاك نحمل هويته، سوى ما تعكسه سحنتنا السمراء، كشاهد إثبات على كوننا قادمين من ذات الأرض، التي أبعد عنها هو قبل عقود ثلاثة. لم نكن يخطر ببال أن يلتقي منيف المهاجر قهراً من أرضه بأبناء له بعد ثلاثة عقود من سحب جواز سفره، وهم يبلغونه قصة معاناة مماثلة، فهم قد جاؤوه بلا جوازات سفر، ولا هوية وكأنهم أصبحوا معه كحمل مقذوف من بطن وطن يحبهم ويحبونه.

بادرنا بسؤال ملؤه الشوق والحنين عن الديار، التي كانت تشهد أوضاعاً إستثنائية بعد الغزو العراقي للكويت ولم يكن قد مضى عليه سوى أيام قليلة، ثم أعقبه بأسئلة أخرى تدور كلها حول إستشراف المستقبل السياسي لبلده. كان يحمل بداخله تطلعاً مزدوجاً يعكسه قلقه من أوضاع شديدة الاضطراب فرضتها حادثة الغزو، وما يمكن أن تنجم عنه من تداعيات على الواقع السياسي المحلي والاقليمي، وتفاؤلٌ بانفراج قريب لمحنة وطن بأكمله.

كانت معاناة الغربة حاضرة في لغته، في ابتسامته، في اسئلته وتطلعه، وحتى في ملامحه. وقد شعرت بأنني أمام ذاكرة تاريخية مرئية تعيد بث مسلسل أحداث رغم أنه دوّنها في روايته (مدن الملح) الا أنها تخرج الآن على لسانه وكأنها تصوير مباشر ينقلك الى حيث مسرح الاحداث. شحنة الألم المختلط مع دخان غليونه قد لا يستشعرها غير من ذاقوا مرارة الهجرة عن الوطن لسنوات طويلة، فثمة لغة غير منطوقة يتبادلها المنفيون عن أوطانهم طوعاً أو كرهاً، فهؤلاء يتداولون مفردات ليست مثبّتة في قاموس اللغات. كان يسألنا إطمئناناً عن أحوالنا وكيف سنتدبر أمورنا ونحن لا نحمل جوازات سفر وهويات ثبوتية، وكان يعلم سلفاً بأن الاجابة ستكون على النحو الذي أراده بأننا كطيور هاجرت مرغمة أوكارها ومازالت تبحث عن مسار آمن للعودة اليها.

كان حينذاك ينوي كتابة رواية عن المعارضة السياسية في الديار، وقد طلب منا أن نوّفر له كل ما نشر عن المعارضة في الداخل والخارج. وكان يقول بأن التجربة التي عاشها في المنفى اتصلت بظهور قوى سياسية جديدة ويجب إثراء التجربة عن طريق الرواية التي يجد نفسه أحد أبنائها ويشعر بمسؤولية الوفاء لها بالقلم وذلك أضعف الإيمان. كان شديد التوق الى تشكيل صورة عن مدن الملح التي هاجرها قبل عقود ثلاثة، وكيف هي أحوال القاطنين فيها، وكان يسأل عن أشخاص، ومدن، ومواقع ربما توارت بعيداً في ذاكرة اليوم، ولكنها بلاشك تشكل جزءا من ذاكرة أنتجت (الآن هنا.. او شرق المتوسط تارة أخرى).

كان اللقاء بالنسبة له ولنا تمهيداً للقاءات لاحقة، وكان يلح على ذلك، فلأول مرة، وبعد أن عاد رفاق الدرب الى الديار أو تفرقوا في الآفاق، يعثر على شركاء جدد، لا ينتمون اليه في الايديولوجيا، ولكن بلا ريب يتقاسمون معه هموم الوطن ومحنة المنفى وتطلع الاصلاح. وكانت تلك كافية لأن تجمعه بهم، فما عجز الوطن عن تحقيقه تكفل المنفى به، فقد فرّقهم الأول وجمعهم الثاني. لقد تواصلت لقاءاتنا مع منيف على امتداد السنوات اللاحقة، وتكريماً له نعيد نشر مقابلة أجريناها معه في مايو 1993.

 

كثير من المواطنين العرب يعرفون عبد الرحمن منيف من خلال عطائه الأدبي، ولكن القليل منهم يعرف أنه مواطن من الجزيرة العربية، ترى كيف تفسّر ذلك، وكيف يقدّم عبد الرحمن نفسه لقرائه الكثيرين في العالم العربي؟

 

أنا من الجزيرة العربية، من منطقة نجد التي عشت فيها لفترة من الزمن، ثم لدواعي الدراسة ولانشغالي بقضايا عامة، وبعد سحب جواز سفري سنة 1963، إضطررت لأن أقيم في أماكن متعددة، ولازلت خارج الجزيرة العربية بحكم هذه الظروف التي آمل أن تنتهي، وأن يعود الانسان الى وطنه والى أهله. بالطبع تجولت في أماكن عديدة، بحكم الضرورة، بين القاهرة وبيروت وباريس وبغداد وأخيراً دمشق، من أجل تأمين صيغة للحياة، خاصة بعد أن تفرغت بالكامل الى الرواية والى العمل الأدبي.

 

الاستاذ عبد الرحمن منيف، تقول أن جواز سفرك سحب منك قبل ثلاثين عاماً، وخلال هذه الفترة عرف عبد الرحمن منيف واشتهر، فقد كان المنفى فترة إبداع وعطاء رغم أنها مليئة بالألم الدفين بسبب النفي والغربة، الا تعتقد أنك مدين للمنفى بالشيء الكثير رغم تأثرك؟

 

طبيعي أنا أتأثر بسبب بعدي عن وطني، فعندما يسحب جوار سفر الانسان فمعنى ذلم أنه معاقب وأنه معرض للإضطهاد، ولذلك أفترض أن العقوبة التي أوقعت بي عقوبة ظالمة، وبالتالي لن أتمكن من العودة الى وطني الا اذا زالت هذه العقوبة، وإذا تسوى هذا الأمر بشكل لائق يحفظ الكرامة ويعيد الحق لأصحابه.

يكفيني الآن أن أكون كاتباً مقروءاً، وأن أحاول قدر الإمكان إيصال صوتي ورسالتي عبر رسائل عديدة.. ولكن مع ذلك أعتبر أن موضوع الجنسية وجواز السفر حقوقاً بديهية لا يمكن أن تنتزع من الانسان، لأنها من مستلزمات شخصيته ويتكوينه، وأستغرب أنه لاتزال هناك حكومات تمارس مثل هذه التصفيات في بلادنا وفي منطقتنا، لأن الجنسية ليست حقاً ممنوحاً من قبل الحاكم الى الفرد، وإنما هي حق طبيعي لا يسقط لأي سبب كان، حتى لو كان هناك خلاف أو تفاوت في وجهات النظر بين الحاكم والمحكوم. خلال فترة إبتعادي عن بلدي، وخلال فترة تجوالي الطويلة والتي لا تخلو من قسوة ـ على الأقل نفسية ـ حاولت الاستفادة من الوقت وأن أنجز أعمالاً فيها كم كبير من الحنين الى الوطن.. فيها نوع من العلاقة مع مواطني بشكل أو آخر من خلال الرسائل التي أوجهها عبر الكتب، ومن خلال التعبير عن هموم وطموحات المواطن في منطقتنا، ومن خلال محاولة إيصال الصوت العربي الى العالم، وربما أتاحت لي صفتي ككاتب فرصة إيصال هذا الصوت، وأن أعطي ـ مع الآخرين ـ ملامح الى الأدب العربي وأهمية في المرحلة الحالية.

 

عندما أسمعك تتحدث عن حدث تم قبل ثلاثين عاماً، أرى أن الصورة واضحة وحاضرة أمام عينيك، وكما يبدو من حديثك فإن الموضوع ترك ألماً بالغاً في داخلك.. هل كانت طريقة سحب السلطات السعودية لجواز سفرك وجنسيتك قد لعبت دوراً في خلق تلك المرارة، هل قدّم المسؤولون لك تفسيراً؟

 

ليتهم قدّموا ذلك! لقد كان الأمر أقرب الى الخدعة، فقد ذهبت لتجديد جواز السفر، فاستقبلت من قبل الموظف المختص استقبالاً بدا لي أول الأمر فيه حرارة وعناية، ولكن ما كاد يستلم جواز السفر حتى وضعه في الدرج، وأقفل عليه وتغيرت ملامح وجهه، وأبرز لي برقية من الرياض بسحب جواز السفر. هناك تصرفات غير منطقية وغير مقبولة وتتم بكثير من المكر والخداع، وطبيعي أن لا يستتبعها أي توضيحات وتبريرات، وحتى الآن يبدو لي أن موضوع سحب الجنسية وجواز السفر غير منطقي وغير مبرر وحتى غير واضح.

الموضوع الآن تجاوز الألم، الى نوع من المحاكمة المنطقية، أن يحرم الانسان من حقوق أساسية، يعتبر تعدياً لا يجوز أن يستمر. يمكن أنني استطعت حل مشكلتي بنفسي من حيث أنني استطعت أن أحصل على جواز سفر آخر وبالتالي أنتقل به، ولكن تبقى المشكلة قائمة: كيف يحرم إنسان من حق طبيعي أصيل له؟ إن ما يستتبع ذلك ليس سوى الشعور بالغبن وبالظلم وبالقهر وبعدم المنطق.

الحق في العودة.. في رؤية الاصدقاء والأهل في وطني أمر طبيعي، وبالتالي يولد آلاما ومصاعب من نوع أو آخر، ولا تقتصر القضية في مرحلة لاحقة على مجرد الشخص، فتصبح الأسرة والأولاد والنتائج المترتبة على الموضوع متداخلة ومعقدة، بحيث أن بعض الناس يشعرون بأنهم ما كان لهم أن يعاقبوا بجرم الآباء أو أولياء الأمر، وهكذا القضية تتضاعف ككرة الثلج.

لاتزال هذه الحقوق المعترف بها في كل أنحاء العالم غائبة مع الأسف في بلادنا، وبالتالي فإن حركة المواطن مقيدة وفق رغبة السلطة وتقديرها الذي هو في أغلب الأحيان معتمداً على أسباب كيفية، وعلى معلومات خاطئة، أو على إحتمال بأخطار غير قائمة وهكذا.

 

ظاهرة اللجوء السياسي

 

أستاذ عبد الرحمن، من الملاحظ أن ظاهرة اللجوء السياسي من بلدان الخليج الى الخارج تبدو في غاية الغرابة لدى أغلب الناس في العالم العربي وغيره، فالجميع يتحدث عن جنة الفردوس في ديار النفط التي يقصدها الجميع من أجل رغد العيش، هل تعتقد أن ظاهرة اللجوء السياسي أمراً غير مبرر كثيراً بالنسبة لنا نحن أبناء الجزيرة العربية؟

 

اللجوء السياسي هو الاستثناء، هو الضرورة القاهرة، هو الحالة التي يجب أن لا تعم أو تنتشر، الوطن هو المكان الطبيعي لاقامة الانسان ويجب أن يحاول وبوسائل عديدة أن يصل الى حقوقه، وأن يحقق صيغة منطقية للعيش هناك. لكن مع الأسف فإن كثيراً من الأنظمة تلجىء المواطنين بسبب السجون والحرمان والاضطهاد والملاحقة لاختيار هذا الحل. وطبيعي أن أفضّل أن تحل هذه المشكلة بطريقة مختلفة من خلال اعطاء الحريات وتوفير مناخات ملائمة.

 

 

بلد بلا قانون

 

هل تعتقد أن معاناة المواطنين في المملكة تعود بالدرجة الاساس الى غياب القوانين التي تؤكد على حقوق المواطن واحترامه وعدم التعرض له بالإهانة والانتقاص.. هل كان عدم وجود القانون والدستور سبباً في كل هذا، أو كان أحد أهم المسبببات؟

 

أنت الخصم والحكم! لو كان في المملكة دستور فعلاً، لو كانت هناك قوانين.. لو كان هناك مجتمع مدني يحدد التزامات الحاكم والمحكوم، ولو كانت هناك علاقات طبيعية كما هو الحال في أماكن كثيرة في العالم، لما حصلت المشكلة من أساسها، ولكن باعتبار أن هذه الأمور ليست موجودة أصبحت هناك تعديات ضارة حتى بأولئك الذين قاموا بها.

لا شك أن هناك عدداً غير قليل من المسحوبة جوازات سفرهم.. ولا شك أن هذا العدد يتزايد فترة بعد أخرى، واذا كان هناك تعتيم إعلامي، فإن الامور تتضح يوما بعد آخر، وربما كانت المنظمات الحقوقية الدولية والأجهزة التي تتابع موضوع انتهاكات حقوق الانسان على دراية ومعرفة أكبر بهذا الأمر. الشي الآخر هو أن هناك كماً متزايداً أيضاً فيما يتعلق بالاجراءات التي تتخذ بحق من يعتبرون معارضين في الداخل.. المنع من السفر، الحرمان من العمل، المضايقات العديدة. وأتصور أن الأمور تزداد سوءا، وهذا أمر غير طبيعي ويولد احتقاناً قد يؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأن حركة التغيير والتطور يمكن أن تحد لبعض الوقت، ولكن لا يمكن أن تمنع طوال الوقت.

ومن هنا، فإن الجزيرة العربية، حالها حال الدول الأخرى، يجب أن تكون على تماس مع العصر، وأن تكون على علاقة مع التطورات التي تجري في العالم كله، سواء كانت من الناحية الديمقراطية، أو من ناحية حرية الأفراد في الانتقال، وحرية التعبير، وحرية التنظيم المهني، بأشكال متلائمة مع الحاجة، والصيغ القانونية الأخرى وحكم الدستور، بعيداً عن الرغبات الكيفية والقيود التي تمس حرية الانسان والتي هي إمتداد للعصور القديمة المتخلفة.

لا بد من إصلاح الأخطاء، ومن إعادة الحقوق لأصحابها بما في ذلك حق الذين سحبت جنسياتهم وجوازات سفرهم بقصد منعهم من السفر، وأمور أخرى كثيرة، يجب أن تعدل ضمن منطق العصر والضرورة.

 

وضع متفجر

 

أستاذ عبد الرحمن منيف تتحدث عن معارضة داخل السعودية، وأنت تعيش منذ ثلاثين عاماً بعيداً عنها، هناك شكوى دائمة أو قل هناك إتهامات مستمرة بأن من يعيش في الخارج غير مدرك للوضع الداخلي وبالتالي يعتمد المبالغة، ترى ما مدى اتصالك بالشأن الداخلي، وأين تضع نفسك من مسائل التغيير في المملكة طالما أنك تحمل رأياً مختلفاً على الأقل؟

 

لاحاجة أن يدعي المرء أنه على معرفة بكل التفاصيل، بكل ما يجري، لكن أيضاً ينبغي أن ندرك بأن العالم أصبح صغيراً، وما يحدث في مكان ينتقل خبره خلال ثوان الى جميع أنحاء العالم، ومهما كانت القيود فإن ما يتسرب من البلاد من المعلومات، وما يتوفر من الوقائع يشير بوضوح الى تزايد عدم الرضا والى وجود الاحتقان، من الواضح أن ليس هناك قدرة على المواءمة بين الحاجات والضرورات. من جانبي، فأنا كما هو الحال بالنسبة لآخرين أهتم بما يجري في بلادي ولدي الكثير من المعلومات حول ما يجري هناك، لكن لا أزعم بأنني قائد سياسي، أو رجل ينظم المعارضة، أو يريد أن يحدث تغييراً قسرياً.

كل ما أطالب به، أن تتوفر حقوق معينة للمواطنين.. أن تتاح لكل من له حق حرية التعبير عن حقه، وأن تعطي الحريات بطريقة مناسبة ونظامية، وبداية هذا الأمر في الديمقراطية، التي أصبحت شعاراً شمل العالم كله، وأدى الى تغيير عميق في بنية العالم وفي موازين القوى، ومهما حاول الانسان أن يهرب من هذه الحقيقة، فإنها تجبهه وتواجهه في كل لحظة. ووجهة نظري بناء على استقراء الوقائع والمعلومات إضافة الى المراقبة، فإن حالة عدم الرضا لا بد وأن تؤدي الى نتائج وخيمة في فترة غير بعيدة.

 

مبدعون في السجون

 

كيف تقيّم تفاعل المواطنين السعوديين مع نتاجك الأدبي وأنت في المنفى، وهل يمكن لتفاعل أن يتم بالنسبة لأناس يقطون مملكة عرفت بمملكة الصمت، وعرفة بمحاصرة الكلمة الحرة ومراقبتها ومنعها من المروق بل ومعاقبة من يتداولها أيضاً؟

 

أعتقدد أنني نلت تكريماً كبيراً من خلال مواطني بي ككاتب، ومن خلال الاهتمام والمتابعة، ومن خلال الحنان والدفء الذي أحسه في عيون الناس وفي قلوبهم تجاه العمل الإبداعي الذي أنا أحد رموزه، وهو تكريم للموهبة إن صح التعبير، وللهموم المشتركة التي ألتقي بها مع الآخرين، أكثر مما هو تكريم شخصي فردي.

ربما يكون الأديب أقدر من آخرين على نقل الرسالة، وعلى إيصال صوت وتوضيح قضية، وبالتالي يجب أن يحاول التمتع بقدر من الحرية يتيح له إيصال هذا الصوت. وربما كان المنفى ـ رغم سوئه ـ عاملاً مساعداً في هذا المجال. أنا في بعض الاحيان لا أستطيع الا أن أحس بالظلم، أو بالصعوبات الواقعة على مبدعين موجودين في أمكنة معينة سواء داخل الوطن، او على التحديد في سجونه. فكم من الأصوات التي كان من الممكن أن تعبر عن أشياء جميلة ومهمة، لم تتح لها الفرصة مع الأسف.

 

محاصرة الكلمة عبث

 

ولكن الا تشكو من الحصار الذي يمنعك من التلاقي مع الناس.. خذ مثلاً روايتك مدن الملح التي جسدت تاريخ المملكة الحديث وتحولاتها الضخمة ورموزها وشخصياتها في عمل أدبي رائع، كيف يمكن للمواطن إقتناؤها وهضم الرسالة التي تحويها الرواية طالما هي ممنوعة؟

 

من حسن الحظ أن الكلمة، وخاصة في العصر الذي نعيش فيه، أصبحت مثل الطير لا يمكن لأحد أن يمنع طيرانها ووصولها، وبالوسائل الحديثة أصبح وصولها أسرع وأعم، فلذلك وأنا باعتباري أتعامل مع الكلمة، وباعتبار أن كلماتي تصل، فهذا نوع من المكافأة بالنسبة لي، ونوع من التقدير بأن ما أقوله ليس لأحد قدرة على منعه والحد من إنتشاره. رغم كل شيء أنا متأكد بأن الكلمة تصل الآن كما أشياء كثيرة وجميلة، لا أحد الآن يستطيع أن يمنع الأقمار الصناعية من إيصال أمواجها وأصواتها وصورها الى الأمكنة البعيدة، وأستغرب أنه لا يزال في نهاية القرن، أن هناك من يفكر في منع الخبر والصورة. هذه الأساليب كان يمكن أن تفيد وتؤدي الى نتائج في أزمنة سابقة، أما في عالمنا المعاصر، عالم ثورة الاتصالات والمواصلات، فإنه لم يعد بالإمكان الحجر على الأفكار والكلمات والصور والأشياء الجميلة والأمنيات والأحلام، فهي تتطاير في كل مكان وتصل الى الأمكنة التي يمنع الوصول اليها، وإن محاولة منعها هو نوع من الحمق والنظرة القصيرة التي لا تجدي، ولربما تكلف ثمناً غالياً في المستقبل.

 

المهجر.. والأشجار وإغتيال مرزوق

 

 

كيف أثر المهجر على عملك الأدبي، وهل كان الحرمان من حق العودة، حافزاً لك في أعمالك الأدبية ولطرق مواضيع معينة أو ذات خصوصية؟

 

تجارب الانسان وحياته التي يعشها تنعكس على عمله الأدبي، وهذا أحد المصادر المهمة للأديب والفنان، لأنه يعبر عن معاناة وتجربة. اذا كان الانسان بعيداً عن القضية فإن إحساسه بها يكون أقل ممن يعانيها. فمثلاً كنت على تماس بموضوع السجن، والاعتقال، والاضطهاد وقمع الحرية، وفي روايتي الأولى (الاشجار واغتيال مرزوق) كان أحد محاورها الأساسية ذلك المواطن الذي يسحب جواز سفره، وكيف يتعرض لمصاعب ومعاناة، وربما لم أكن أفكر في الموضوع لولا معاناتي الشخصية، رغم أن الموضوع إتسع وامتد ليتجاوزني، فالقضية تطال الآن مئات الناس بل آلافاً منهم.

 

 

علاقة خاصة بموضوع النفط

 

الى جانب هذه القضية الشخصية، هل هناك في المجتمع بعض القضايا تبحث عن كاتب، وشعرت أنت ككاتب بأنك ذلك الشخص الذي يجب أن يعالجها ويتحدث عنها؟

 

ربما ساعدتني الظروف على أن التقط بعض الموضوعات التي كان العامل الشخصي سبباً للتطرق اليها، مثل موضوع النفط، الذي خصصت له أكثر من رواية مثل (مدن الملح) بأجزائها الخمسة، ثم موضوع (سباق المسافات الطويلة). وأتصور لو لم أكن من تلك المنطقة النفطية، ولو لم أكن إختصاصياً في حقل النفط، ولو لم أعرف وتتوافر لي كمية من المعلومات حول هذا الموضوع، فلربما لم يخطر الموضوع ببالي، أو لم أعالجه بهذه الطريقة. لاشك أن هناك عشرات من الموضوعات الأخرى، التي تبحث عن مؤلف أو كاتب.. تبحث عمن يعبر عنها بطريقة أو بأخرى، وقد تتوفق الظروف وتحصل معادلة تكون في بعض الأحيان خيرة وجميلة ومناسبة، بحيث يتطابق الممثل مع النص، وبالتالي يكون العمل أكثر إكتمالاً وأكثر قدرة على التأثير والوصول. عندما حاولت أن أتصدى لموضوع النفط من خلال مدن الملح كنت على تماس وعلى علاقة أساسية بهذا الموضوع بحكم دراستي، وأيضاً بحكم إطلاعي وتقديري لأهميته وحجمه بحيث يفرض علي التصدي له ومعالجته.

 

 

مدن الملح أم مدن النفط

 

مدن الملح هي أفضل أعمالك وأقواها.. هل يمكن أن تفسر لماذا اخترت الاسم مدن الملح لا مدن النفط؟

 

المدن التي قامت على أسس واهية.. المدن التي نشأت في أمكنة غير أمكنتها، والمدن التي سوف يتعرض جذرها الى الغياب حينما تداهمها المياه.. هذه المدن التي صنعت من أجل أن تكون أفراناً للأجيال القادمة، والتي صممت في طريقة بنائها وبأحجامها لا لتكون مستوطنات بشرية ولكن لتكون مدافن.. هذه المدن هي بالتأكيد مدن الملح.

وقد حاولت من خلال تصوير مرحلة تاريخية انتقالية أن أشير الى أن هذه المدن لا تتمتع بالحد الأدنى الإنساني، لكي يقيم فيها الانسان ويستمر ويستقر ثم يسلمها للأجيال القادمة. من المستغرب تماماً أن تكون هذه المدن بواجهات زجاجية وبهياكل حديدية في منطقة تبلغ درجة الحرارة فيها في الظل ما يزيد عن 50 درجة مئوية، اذا كانت هذه الناطحات للسحاب، ملائمة لمدينة مثل نيويورك، أو كانت الشبابيك الكبيرة ملائمة لبلد مثل السويد، حيث تكون الشمس مثل القمر والحرارة فيها أمنية، فإنني أعتقد أن بلادنا بحاجة الى نمط آخر من البناء، والى نمط آخر من التعامل الانساني مع الطبيعة، حتى تكون المدن مرشحة للبقاء والدوام. هذه مسألة. أما الأخرى فإن الملح عبارة عن عنصر أساسي، وكما يقول السيد المسيح: إذا فسد الملح بأي شيء تملحون، لقد أردت أن يكون في هذا الإسم أكثر من دالة وأكثر من رمز، وعسى أن يفهم ذلك من وجهت لهم الرسالة!!

 

ربع ساعة أخيرة قبل الطوفان

 

هذا يجعلني أفكر في مقولة شائعة وهي أن الانسان يعيش بالخبز وحده، ربما هناك من يعتقد أن الانسان يمكن أن يعيش بالنفط وحد؟

 

كنت أتمنى أن يستخدم النفط كرافعة، كوسيلة من وسائل بناء المستقبل، خاصة وأنه مادة ناضبة ومدته ليست طويلة مهما حاول البعض أن يوهمنا بوجود كميات كبيرة غير قابلة للنفاذ من هذا النفط.. وبالتالي من حق الجيل الحاضر كما هو من حق الاجيال القادمة أن تتمتع بهذه الثروة وأن تبني مستقبلها ضمن أسس تستطيع لها الدوام والاستقرار والاستمرار. لكن طريقة استخدام هذه الثروة والتصرف بها مع الأسف الشديد، تتم الآن بطريقة خاطئة وتؤدي الى تبديدها ونفاذها في فترة قصيرة وكأنها عبء يحاول الحكام التخلص منه في أقرب وقت ممكن.

النفط بذاته ليس ذنباً، وإنما طريقة استعماله، وطريقة توظيفه والتعامل به أو معه كان. يمكن أن يكون طريقاً للمستقبل، طريقاً لمنطقة لا تمتلك سوى هذه الثروة، لكن تكاد هذه الثروة تتبدد وتطير دون أن يفكر في الأجيال القادمة أو في المستقبل، وأيضاً دون الاحتراس من عواقب الدهر. وإذا كان شعبنا في الجزيرة العربية قد عاش في فترات سابقة بدون النفط، الا أن طريقة بناء الحياة والنمط الاستهلاكي الذي يسود الآن، يجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل إمكانية العيش ضمن قيمه وعلاقاته السائدة، وأيضاً محاولة نقل صيغته الى المستقبل. ولا أبالغ إذا قلت أن كثيراً من الأمور تغيرت بحيث لا يمكن الرجع فيها الى الزمن القديم، كما أنه لا يمكن تسليمها الى المستقبل فنستطيع الإستمرار، وطبيعي فإننا حين نصبح فقراء فإن الغرب لن يحاول أن يمد يداً، ولن يحاول أن يمنع أي كارثة قادمة، وعسى أن نحاول بما تبقى من نفط أن نفكر في الربع ساعة الأخيرة، قبل أن يداهمنا الطوفان.

 

ديمقراطية الصحراء

 

ننتقل أستاذ عبد الرحمن الى موضوع آخر.. لا شك أنكم تابتعتم التطورات الكبيرة التي طرأت على الوضع الداخلي في المملكة والنقلة النوعية في المجتمع السعودية باتجاه الضغط من أجل التغيير والمشاركة السياسية والتعبير عن الذات وعن الرأي.. ومع هذا لاحظتم ولاحظنا أن العائلة المالكة سدّت الابواب بشكل كامل أمام التغيير وماطلت فيه حتى كاد المواطنون يصلون الى اليأس. الحجة التي يقولها الأمراء أن الديمقراطية لا تتناسب مع قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، وكأنهم يريدون أن يقولوا بأنه لا يفيد مع شعب الجزيرة العربية سوى السيف والعصا، ما هو رأيكم عموماً في موضوع الديمقراطية وفي الحجج المضادة لها؟

 

الديمقراطية عبارة عن مناخ ومجال للتعبير عن الرأي، وللمشاركة في صنع القرار، وأيضاً للمساهمة في بناء المجتمع. وهذه القواعد العامة مقبولة من كل الشرائع الدينية والأرضية، ومهما حاول الانسان أن يمنعها أو يهرب منها فإنها تفرض نفسها. المشكلة الاساسية كما أراها هي أن هناك ضرورة أن يشترك الناس في صنع حياتهم وتقرير مصيرهم، وهذه الصناعة يجب أن يساهم فيها كل من له قدرة وله حق في هذه الممارسة.

ومن هنا فإن الديمقراطية تعبر عن نفسها على شكل علاقات من نمط معين بحيث تلائم كل الأماكن. حتى الصيغ التي طرحت أخيراً في البلاد والتي لم يجر تنفيذها حتى الآن، هي كما عبر عنها أصحاب القرار، بداية اطلالة نحو الديمقراطية، وأظن أننا نخطىء كثيراً حينما نضع الديمقراطية في مواجهة الأخلاق والأصالة، لأن من جملة مستلزمات الأخلاق والأصالة أن يشترك الشعب في إختيار نظامه، وأن يساهم في صنع مصيره.

ولذا أرى أن الديمقراطية صيغة ملائمة حتى للأنظمة القائمة في الخليج، إذ من خلالها يتم خلق مناخ يمنع الاحتقان وبالتالي يمنع الثورة، ولكن هذه الأنظمة تضع الحصان خلف العربة، وتزعم أن هذه أخلاقنا وقيمنا التي ورثناها، علما أن العصور تتغير، والأوضاع تتغير، ومطالب الناس بالتالي تتغير.

 

الأميركيون وحقوق الانسان

 

فيما مضى كان البعض يتساءل لماذا يدعم الغرب الديمقراطية في أوروبا الشرقية ولا يدعمها في الشرق الأوسط، ثم أصبح السؤال لماذا يدعم الغرب الديمقراطية بنحو أو بآخر في الجزيرة العربية والخليج ولا يقبل بها في السعودية.. لماذا ينظر الأميركيون الى موضوع الاصلاح السياسي وحقوق الانسان في المملكة بعين الريبة في حين أنهم رحبوا بها في اليمن والكويت وبلدان الخليج الأخرى؟

 

إذا أخذنا تجربة الإتحاد السوفييتي، فإننا نجد أن نقطة الضعف الأولى والهامة التي أدت الى تقويضه كانت: غياب الديمقراطية. والدول الغربية التي أسقطت النظام الشيوعي بحجة الديكتاتورية، هي نفسها التي تحمي الأنظمة المتخلفة التي ليس لها علاقة بالديمقراطية، وهذه إحدى المفارقات التي تبرهن على وجود إزدواجية المعايير، وعلى وجود معادلة لتمرير الشعارات حسب الحالات وعلاقات التحالف والرضا.

الأولى بالدول الغربية أن تضغط على السلطة لاعطاء الحريات ولتغيير الصورة القاتمة، خاصة وكلنا يعرف بأن الأوضاع في الجزيرة العربية والخليج لا تقوم ولا تستمر الا من خلال الدعم الغربي، ومن خلال العلاقة العضوية التي نشأت وقامت واستمرت بين هذه الانظمة وبين الدول الغربية. كما أن الوسائل الحديثة من المراقبة والسجون ووسائل التعذيب الأخرى، هي عبارة عن صادرات غربية الى تلك المنطقة.

إننا نلاحظ كما هائلاً من النفاق الغربي، والضرورة تقضي أن يطبق المقياس الواحد في الأمكنة المتعددة بنفس الطريقة وبنفس المقدار. لقد مورس الضغط على المعسكر الاشتراكي، وكان منصباً بالدرجة الأولى على موضوع الديمقراطية، الأمر الذي يغيب بالكامل عندما يتم الحديث عن الجزيرة العربية ودول الخليج، وهذا أحد مظاهر النفاق الغربي وتغليب المصالح على القناعات الفكرية.

 

المؤسسة الدينية

 

هل تعتقد أن المؤسسة الدينية تمثل عائقاً أمام التغيير، وهل التصاق السلطتين السياسية والدينية يخدم ذلك؟

 

حدث نوع من التوافق خلال فترة تاريخية معينة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، الأمر الذي أدى الى نشوء حالة وحكم من نمط معين، هذه الحالة كان لها إيجابيات في مرحلة زمنية معينة، الا أن طابع الجمود وطابع إستغلال الدين من أجل خدمة الحاكم وإعطاء المشروعية لكل تصرفاته، جعل المؤسسة الدينية أقرب الى التزمت، والى محاولة حصار المجتمع ضمن قيم ومقاييس أصبحت متخلفة وقديمة. ومن هنا لا بد من تغيير هذه الصيغة وإيجاد حالة جديدة تقتضيها طبيعة الظروف والأوضاع التي استجدت وتستجد كل يوم. الحاكم ومن أجل تبرير وتسويغ الكثير من تصرفاته لا بد وأن يستغل رجال الدين، ولا بد أن يستغل المرونة المبالغ فيها في النصوص وبالتالي تفسر الأمور بأشكال متعددة، ولكن الهدف الأساسي هو حماية المصالح وحماية الحالة القائمة، بغض النظر عن النتائج التي تترتب عليها. ومن هنا أصبحت المؤسسة الدينية في بلادنا عبارة عن مؤسسة سياسية أو امتداد للسياسة بشكل آخر. فغالباً ما نرى قسماً من رجال الدين كأدوات بيد الحاكم يستخدمهم، ويحاول أن يحارب بهم، يستفتيهم ويفتون كما يريد.

 

الحركة الدينية المعارضة

 

مع هذا ظهرت في السنوات الأخيرة حركة دينية قوية في مختلف مناطق المملكة، تريد أن تتخلص من سيطرة النظام وتدعو للفكاك منه.. كيف تقيم نشاط التحركات ذات الأساس الديني في المملكة خصوصاً وفي العالم العربي عامة؟

 

لابد من الاعتراف أولاً بأن هناك ديناً شعبياً، بمعنى أن كثيراً من الناس متدينون بالسليقة، بحكم القناعة وبحكم التكوين التاريخي، ومن حق كل مواطن أن يمارسه طقوسه بشكل كامل بدون أية عقوبات أو قيود.

ليس هناك شك بأن الدين إذا ما أخذ في جوهره وفي طبيعته الأصلية هو عبارة عن عامل مساعدة في تطهير الانسان من كثير من العوامل السلبية، حيث ينقي سريرته ويجعله اكثر صدقاً واكثر حرصا تجاه وطنه. لكن هناك جوانب سلبية فيما يتعلق بالموجة الأصولية الحالية، فهي موجة يغلب عليها التعصب، ويغلب عليها إلغاء الآخر، وعدم الاعتراف به، وعدم القناعة بأن له حقوقاً يجب أن يمارسها، وبالتالي تقطع الطريق على إمكانية قيام المجتمع المدني الديمقراطي القائم على حق التعدد والمشاركة.

أعتقد أن المرحلة الآن هي مرحلة وطنية، وتعني أنه يجب أن تكون هناك قواسم مشتركة للدفاع عن حرية الوطن وأبنائه، وحقه في الاستقلال والغاء التبعية السياسية والاقتصادية والفكرية، واختيار النظام السياسي الذي يساعد على تقليص الفروق بين الأغنياء والفقراء، أي بين من يملكون ومن لا يملكون، وبالتالي خلق مجتمع متوازن تسوده العدالة والمساواة والمنطق والحرية، وتتساوى فيه الفرص، ويكون كل ذلك أساساً لبناء علاقات من نمط جديد.