وطن بلا مواطنين

 عبد الله الراشد

 منذ بداية الحديث عن تفكك السعودية، أصبحت مفردة الوطن حاضرة بكثافة غير مسبوقة في خطاب الدولة، وفي الصحافة المحلية، وفي تصريحات الأمراء، والعرائض الاصلاحية. ومن اللافت أن يتم طرح هذه المفردة بمعزل عن مضمامينها وكأنها تستخدم لأغراض سياسية  وآنية، أي مسلوبة الجوهر الحقوقي والقانوني. لم تعهد البلاد قائمة المفردات المتصلة بالدولة القومية مثل الوطن، المواطن، الديمقراطية، البرلمان، الدستور، السلطات الثلاث، الاحزاب السياسية، مؤسسات المجتمع المدني، حقوق الانسان..فهذه قائمة كانت تخضع دائماً لتفسيرات خاصة لدى الطبقة الحاكمة والايديولوجية الدينية التي تتبناها، الأمر الذي يلقي ظلالاً من الشك على استعمال مفردة الوطن في خطاب الدولة، سيما وأننا نعلم من الادبيات الدينية المحلية بأن الوطن هو أحد أشكال العصبية الجاهلية المرفوضة، والتي تقف على طرفي نقيض إزاء مفهوم الأمة، بوصفها الفضاء الحيوي والديني والقانوني للمؤمنين برسالة الاسلام، وهي تمثل منفردة الاطار الشرعي الذي يجب الامتثال له والدفاع عنه.

إذن مالذي يدفع الى مناصرة مفردة الوطن وملحقاتها؟

في الاجابة عن هذا السؤال لابد من وقفة مع السياق الزمني الذي طرحت فيه هذه المفردة التي كانت طيلة عقود ماضية محاربة ومنبوذة سياسياً ودينياً، إذ لابد من استكشاف ما اذا كان يحمل هذا الوطن لدى الطبقة الحاكمة ذات المعاني المقررة في علم السياسة أم أن للوطن معنى آخر ووظيفة أخرى، ولماذا غاب الوطن قبل الحادي عشر من سبتمبر وحضر بصورة فجائية ومكثفة بعد هذا التاريخ؟

مازالت الذاكرة الشعبية تحتفظ ببعض المفردات الشائعة عن كبار الامراء، فقد كان اختبار وطنية المرشح لمنصب في الدولة يدور تحديداً حول الولاء للعائلة المالكة فحسب، بصرف النظر عن متبنياته السياسية والايديولوجية. وهناك سؤال واحد يتم طرحه على أهل المشورة حول شخص يشار اليه بتولي موقع في الجهاز الاداري للدولة وهو (كيف ولاؤه؟) أي أن الثقة تمنح بناء على درجة الولاء للعائلة المالكة وليس على اساس الاخلاص لوطنه وكفاءته العلمية والعملية. ووفق هذه المعيارية يتسابق المتسابقون الى الجهاز الاداري لاظهار الولاء للعائلة المالكة، وبناء عليها تتم كتابة تقرير تفصيلي عن كل مرشّح للوزارة أو عضوية مجالس الشورى والمناطق، ومن يفوز ببطاقة الأكثر ولاء يكون أكثر تأهيلاً وترشيحاً وأوفر حظاً للفوز بالمنصب. أما أولئك الذين فضّلوا الاحتفاظ بكرامتهم وقدّموا الكفاءة على الولاء أو تبين لاحقاً ضعف ولائهم للعائلة المالكة أو رفضهمم للخضوع لمثل هذه القياسات فكان مصيرهم الفصل من المنصب أو التخفيض لمناصب دنيا أو التهميش.

هذه الصورة المضغوطة لما يجري في الأعلى ليست خافية، فقد باتت شبه معروفة، ولم تعد سرّاً خافياً على كثير من الناس لأنها تعكس واقعاً معاشاً وتكاد منهجية الدولة وسياساتها في التعيين تفصح بجلاء عن نفسها. فماذا تبدّل حتى أصبح الوطن معياراً جديداً، فهل أصبح الوطن قيمة تعلو فوق قيمة الولاء، أو بكلمات أخرى هل أصبح الولاء للوطن أولى وأجلّ من الولاء للعائلة المالكة؟.

هناك من يجادل بحق بأن العائلة المالكة بلغت من الضعف حداً لا تستطيع معه المراهنة على مكانتها لدى السكان فاضطرت وهي تواجه مخاطر التفكك والانهيار الى إحياء حزمة قيم أخرى، ولا شك أن الوطن يمثل أهمها، وهي قيمة قادرة على دغدغة المشاعر واثارة النزعة العصبانية الخاصة وسط قطاع كبير من المجتمع. ولكن حقيقة الأمر غير ذلك، فالعائلة المالكة كعادتها الكريمة تتشبث بالاشكال والعناوين وتنبذ المضامين، فهي تريده وطناً ولكن بدون مواطنين، أي وطن يحل مكان الولاء للعائلة المالكة ولكنه يحمل ذات الخصائص والشروط والاغراض لمفهوم الولاء، ولأنها لا تستطيع في ظل هزالها الشديد استعمال مطلب الولاء فإنها تستبدله بعنوان آخر وهو الوطن والوحدة الوطنية..ندرك ذلك من حقيقة أن الوطن ليس شيئاً آخر سوى الدولة السعودية، وليست الخصائص الثقافية والتاريخية والاجتماعية والمشتركة، بل هو وطن تحتفظ فيه العائلة المالكة بكل امتيازاتها السياسية والاقتصادية، أي وطن بلا مواطنين، بما  تفرض المواطنة من حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية.

وندرك أيضاً أن الوطن يتم طرحه في مواجهة خطر تقسيم وتفكيك الدولة (والذي كان يطرح بقوة بعد الحادي عشر من سبتمبر)، وليس الوطن الذي يراد منه إدماج فئات المجتمع في النظام السياسي والاقتصادي وصولاً الى تحقيق مفهوم المواطنة الكاملة، ولذلك لم يكن مصادفة التأكيد المتكرر على الوحدة الوطنية والتمسك بها ومطالبة القيادة السياسية بصورة علنية بضرورة تنمية الشعور الوطني لدى السكان، رغم أن مناهج التعليم الرسمية والثقافة السياسية السائدة لم تهتم في يوم ما بتنمية مشاعر من هذا القبيل، ولذلك لم يكن مفهوم الوطن واضحاً لدى الاغلبية، بالرغم من الافراط الشديد في استعمال الشعار الثلاثي: الله، المليك، الوطن. فالأخير لم يكن سوى جزءاً ثاوياً في الثاني، وهذا ما ترجمته سياسة الدولة وثقافتها وصحافتها، فالملك وحده الماسك بكل زمام القرار والسلطة، فالمُلك يعلو فوق قيمة الوطن، وأن بقاء المليك أولى من بقاء الوطن، تماماً كما أن بقاء العائلة المالكة مقدّم على بقاء الوطن، وأن وجوده منوط ببقائها.

بالنسبة للوطنيين فالقضية مختلفة، مع التذكير بأن مشاعرهم الوطنية لم تنشأ في ظل تربية وطنية أو ثقافة داخلية بل هي استدعاء لصورة الوطن في أدبيات الاحزاب السياسية العربية في الخارج، وقد استحثهم الشعور الوطني للدفاع عن وطن يريدونه أن يكون للجميع، ولذلك جاءت البيانات والعرائض التي رفعها التيار الاصلاحي الوطني لتترجم موقفاً وطنياً خالصاً..فالوطن المدرك في وعي دعاة الاصلاح هو نقيض لوطن ترسمه العائلة المالكة، لأنه وطن الجميع، وطن يحسبون أنفسهم شركاء فيه وفي الدفاع عنه، أما وطن العائلة المالكة فهو بلا مواطنين.