رخاء التعبير

 

 على العمري

يجد المثقف السعودي نفسه هذه الأيام وسط رخاء تعبيري وخطابي وشعاراتي غير مسبوق. فالملاحظ أن كل من هبّ ودب وسار على اثنتين أو أربع أو ثلاث أصبح يدلي بدلوه ولو كان دلواً مخروقاً أو بلا قعر. أصبح الكل يجد في نفسه القدرة على أن يكون المثقف المناضل، المنظِّر، المهموم بالشأن العام وحركة التغيير أو الإصلاح. ورخاء هذا المثقف المصاب بما لا حصر له من العقد والأزمات جاء متوالياً وعلى دفعات بدءاً بحرب العراق حين بدأت الألسنة تتذوَّق شتم النظام الاستعماري الإمبريالي الأمريكي وهنا وجد المثقف السعودي نفسه يجرب طراوة وحلاوة خطاب الأيام الغابرة التي لم تكن مجيدة، خطاب الحركات الثورية الخائبة التي لم يطل تأثيرها المثقف السعودي الذي كان حينها إما ملجوماً عن تذوّقها أو صغيراً بعد لم يبلغ سن الرشد.

في حرب العراق تم تجريب كل ركامات وشعارات وأوهام الخيبة وإن بأشكال مستعارة وسطحية لفظية لا تبطن تحتها أي غور. ثم بعد ذلك استفحلت الاستيهامات المكبوتة بأولئك المثقفين فأصبحوا يتخيلون سيناريوهات رهيبة وأحياناً مرضية لما سيكون عليه الوضع بعد الحرب وهنا لابد أن يكون المثقف السعودي مشتركاً مع أخيه العربي عموماً في ذات الداء. لقد غاب ويغيب تقريباً التحليل المنطقي العميق والمستقل عن أي ضغوط يستطيع أن يتبصر في راهن الوضع العربي الآن، وذلك تحت جفاف وقسوة الشعارات الجوفاء التي يبدو أنها غير مفيدة إلا لمروجيها. ثم بدأ المثقف السعودي هذه الأيام ينعطف في مسار خاص محلي تحديداً وذلك للإلتفات إلى شئون الإصلاح الداخلي بعد أن وجد نفسه في ظل منحه نصف وزارة للثقافة إما مغتبطاً بسذاجة أو مهموماً بأعباء هذا النصف الغالي من الوزارة. وفي كلا الحالين يبدو أن المثقف أحس أنه حقق إنجازاً لا يوصف كونه أصبح في دائرة الاعتراف والاهتمام، لقد ظل مثقفاً يحس باليُـتْـم وبفقدان الأبوة التي يبدو أنه لا يمتلك الشرعية بدونها رغم تقديمه كل فروض الولاء والطاعة. المهم أنه في حُمّى احتفالات ومناقشات نصف وزارة الثقافة بدأت تظهر التوسلات والاستغاثات بأن تُعزَّز هذه المكرمة إما بالتفاتة كريمة للمسرح مثلاً أو مساعدة خاصة للفن التشكيلي أو بغرفة للتصوير الفتوغرافي.. إنه نوع ساذج من التسول شهدته وتشهده الصحافة هذه الأيام.

 وفي خضم هذا المشهد بدأ رخاء المتثاقفين التعبيري والخطابي يزحف إلى الأوكار العصيّة والخطرة التي لم يكن من السهل الاقتراب منها نظراً لحصانتها المتينة. إنه هذه المرة تهديد من نوع آخر غير نظيره الأمريكي إنه تهديد الإرهاب، كل يستفحل ويسن سيف دون كيخوته وينزل ساحة مجابهة الإرهاب. الأكيد أن المثقف السعودي سيتلعثم ويرتبك طويلاً كونه لم يعتد التعبير لا عن نفسه ولا عن غيره، وأيضاً سيتوه طويلاً في دهاليز التوازنات واقتناص الفرص وكسب المواقع قبل أن يعي ضرورة استقلاله كمثقف حقيقي.