السلفيون في السعودية..

شعار واحد ومضامين سياسية شتى

  إبراهيم العجاجي

 من الناحية السياسية هناك فروقات هائلة بين أعضاء هيئة كبار العلماء وبن لادن والفقيه والعواجي والعودة والحوالي إلى درجة تسمح بالظن بأنهم ينتمون إلى مدارس فكرية شديدة التباين. ولكن عند البحث عن الخلفية الثقافية التي يستندون إليها فإن المرء يلمس وحدة تكاد تفوق الوصف.

 الكل يتحدث عن الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، والكل يتحدث بلغة تقطر إيماناً وورعاً وخشية، والكل يستند إلى مدرسة فكرية واحدة تبدأ من الإمام أحمد بن حنبل مروراً بابن تيمية وابن القيم وانتهاء بالشيخ محمد بن عبد الوهاب. هذا على مستوى الخلفية الفكرية والثقافية. أما على صعيد الرؤى والمواقف السياسية فإن تلك الخلفية الثقافية والفكرية المنسجمة والمتماسكة تتشظى إلى طروحات متباعدة تبدأ من أقصى اليمين وتنتهي بأقصى اليسار!

أعضاء هيئة كبار العلماء وكأي مجموعة من الموظفين يجاهدون ـ بوعي أو بغير وعي ـ في إثبات ولائهم للسلطة وينافسون العامة في النأي بأنفسهم عن الحديث في مجال السياسة أو المناصب أو المال العام أو العلاقات الخارجية أو العدالة الاجتماعية والاقتصادية أو المساواة، ثم ينافسون أجهزة الإعلام الرسمية في الحديث عن القضايا العامة، وذلك حين تطلب منهم السلطة ذلك وفي الاتجاه الذي ترغب فيه!

إنهم موظفون يفتقدون الاستقلالية ويجتهدون في إرضاء رؤسائهم في العمل (رجال السلطة) ويخشون أن ينسب إليهم هؤلاء الرؤساء أي تقصير أو تقاعس. ورغم ذلك فإنهم يستندون في كل مواقفهم إلى مبررات فكرية وثقافية مأخوذة من المدرسة التي ينتمي إليها البقية الذين يختلفون معهم في المواقف بصورة كلية وتامة. إنهم يتعاملون مع الحجج والمصطلحات والنصوص بطريقة انتقائية تسمح بإضفاء الشرعية على مواقفهم، مثل مصطلح: الفتنة والمصلحة وطاعة ولي الأمر. وكما هو واضح فإن هذه المصطلحات والمبادئ تسمح بالهروب وتبرير المواقف وتجنب عرض وجهة النظر الشرعية النظرية في المسائل ذات الصبغة السياسية.

وفي مقابل هذه العدمية والتواري إلى الظل في مواجهة القضايا الكبرى ستجد أن هؤلاء العلماء جريئون وغير مهادنين في كل ما يتعلق بعامة الناس، وستجدهم ضيوفا دائمين في برامج الفتاوى حيث تتم الإجابة باستفاضة على أسئلة البسطاء والمطلقات والعجائز، ويتم اختيار أشد الآراء وأكثرها تضييقاً، وتتوارى حجج المصلحة والفتنة وما إليها، حتى أن أحدهم أعاد مؤخراً تكرار تصوره للفرقة الناجية وضيق دائرتها إلى حدود تؤدي إلى استبعاد الغالبية الساحقة من المسلمين من دائرة الفرقة الناجية. ولا تسأل في هذه المنطقة عن حجج المصلحة وتلمس الأعذار وتوخي الحذر في الحكم على عقائد الناس!

أما إبن لادن فيتصرف من واقع التجربة الطويلة التي خاضها في الجهاد في أفغانستان، والتي جعلته ـ ربما بحسن نية وإخلاص ـ يعلي وينتقي الحجج والمصطلحات والنصوص التي تنسجم مع تجربته وموقعه وظروفه والبيئة الثقافية والاجتماعية التي تشكل وعيه وفكره في إطارها. وكل الحجج والمصطلحات والنصوص التي يستند إليها ستجدها مأخوذة من ذات المدرسة التي ينهل منها البقية!

أما ذلك المعارض في الخارج، فيرفع راية الإصلاح وصولاً إلى تغيير النظام، ولا يخفي تفهمه وتعاطفه مع أي عمل يصب في هذا الهدف، ولا يتردد في العزف على أي وتر حساس يخدم قضيته مثل محاولة استقطاب الأشراف واستثارة طموحاتهم السياسية أو العزف على الوتر القبائلي. وفي كل الأحوال فإن انحرافات السلطة توفر له معيناً لا ينضب من أسباب التهييج وإثارة السخط والغضب. وهنا أيضاً سنجد أن ذات الآلية التي تحكم فكر الآخرين متحققة أيضاً، وهي انتقاء الحجج والمصطلحات والنصوص التي تنسجم مع الموقع والموقف والظروف والهدف؛ وإن كان الأخيران يتمتعان بدرجة كبيرة من الاستقلالية التي توفر لهما قدراً كبيراً من المصداقية والشعبية والصراحة وعدم المداهنة، وذلك بحكم كونهما يعيشان في الخارج كما أنهما في صراع مع السلطة.

أما الدكتور محسن العواجي فيشبه من سبقه في الدراسة العلمية المتخصصة والثقافة الدينية العامة وفي الطموح السياسي وفي الكثير من دوافع السخط وعدم الرضا، لكنه مثل البقية يفتقد الى المشروع السياسي البديل والثقافة السياسية الجادّة، كما أن درجة استقلاليته تقل عن أولئك الذين هم في الخارج. ومرة أخرى سنجد العواجي ينهل من ذات المدرسة الفكرية مثل البقية.

على أن الدكتور الحوالي، ومثله الشيخ العودة والدكتور ناصر العمر وغيرهما، ينأون بأنفسهم عن تزكية السلطة أو تأييد معارضي الخارج أو نقدهم. وأيضاً سنجد أن مواقعهم ـ وليس الفقه الذي يستندون إليه ـ تفسر مواقفهم، وسنجد أيضاً أنهم ينهلون من ذات المدرسة التي ينهل منها الآخرون وينتقون من الحجج والمصطلحات والنصوص ما يخدم مواقفهم وينسجم مع مواقعهم.

الآن، لماذا هذه المدرسة الواحدة والشعارات الواحدة والبلد الواحد والزمن الواحد تؤدي إلى هذه الإفرازت الشديدة التنوع والتناقض، ما بين علماء بيد السلطة وفي خدمتها وآخرين يتبنون العنف ولا يعرفون غيره، وآخرين يرفعون راية تغيير النظام بالطرق السلمية ويعمدون إلى التهييج والسباب والشتائم وآخرين يرفعون راية الإصلاح بصورة محدودة وعلى استحياء وآخرين ينأون بأنفسهم عن النظام وعن المعارضين؟

الجواب أنهم جميعاً يستندون إلى مدرسة بلا إرث سياسي وبلا مشروع سياسي وبلا وعي سياسي (المدرسة السلفية). إنها مدرسة صِدامية وعالية الصوت في ميدان العقيدة والعبادة، إلا أنها خرساء وخانعة في ميدان السياسة والحكم! مدرسة ترفع راية الخلفاء الراشدين ولكنها تطبق منهج الأمويين والعباسيين والعثمانيين في مجال السياسة. مدرسة قوامها التقليد، وهذا يوفر لها إرثاً ضخماً وهائلاً في ميادين العقيدة والعبادة والمعاملات تستطيع أن تنتقي منه ما تشاء، ولكن التطور السياسي قوامه الاجتهاد والنقد المستمر للذات، وهو ما لا تجيده هذه المدرسة، وبالتالي فحين لزمها إيجاد المشروع السياسي لجأت إلى ما تجيده وهو التقليد، فلم تجد سوى إرث الأمويين والعباسيين والعثمانيين. تلك هي المعضلة المركزية التي تعاني منها المدرسة السلفية في ميدان السياسة، وهذا هو السبب الجوهري الذي يقف خلف الإفرازات المتنافرة لرموزها على الصعيد السياسي، وهي التي تجعل كلاً منهم مطمئناً إلى سلامة موقفه.

هذا الغياب والإملاق السياسي الهائل أدى إلى سهولة وقوع أتباع التيار السلفي في براثن الاستبداد وسهولة استخدامهم في ترسيخه وتسويغه وسهولة إشاعة الشعارات الفارغة والمضللة بينهم.

 

شعارات مضللة

 

من أبرز الشعارات المضللة القول بأن دستورنا هو الكتاب والسنة. وهذه الجملة تعد من الجمل الأخاذة والمؤثرة التي لا خلاف على مضمونها.. إلا أنه يتم توظيفها بصورة سيئة تؤدي إلى خدمة الاستبداد وتغييب الوعي السياسي. فالدستور في النهاية هو تنظيم لشكل وطريقة عمل السلطة السياسية وتحديد للحقوق الأساسية للمواطنين. فما الضير في ذلك؟ ولماذا نجعل الأمر وكأنه لا بد فيه من مخالفة الكتاب والسنة؟! إننا في أمس الحاجة إلى الدستور بما لا يخالف نصوص الكتاب والسنة، بل بما يجسد مبادئهما العامة المتعلقة بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن كلمات الحق التي يراد بها باطل القول بأن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً للحكم. وهذه الكلمة تساق من قبل الكثيرين لتبرير وشرعنة أنماط الحكم الاستبدادي. والواقع أن الإسلام لم يحدد شكلاً معيناً لنظام الحكم، ولكنه شرع قيماً معينة لا بد من تحقيقها، وفي مقدمتها الشورى والعدل والمساواة. وأي حكم يخل بهذه القيم لا يستحق إضفاء المشروعية عليه مهما كان شكله. ومن مبادئ الحق التي تقود على الصعيد السياسي إلى الباطل تجنب دراسة المضمون السياسي لعصر الخلافة الراشدة بحجة الإمساك عما شجر بين الصحابة. والواقع أنه لا خلاف حول المبدأ، ولكن توظيفه على الصعيد السياسي يؤدي إلى كوارث لا حدود لها، بل يؤدي إلى مخالفة العديد من الأحاديث الواضحة والصريحة. وللأسف فإن الكثيرين عبر التاريخ تناولوا الموضوع من زاوية شخصية وبغير وعي سياسي عميق، فنتج عن ذلك شخصنة الأحداث وتحويل الموضوع إلى موالاة ومعارضة ومدح إلى حدود التقديس، وذم إلى حدود الإثم. والواقع أنه يوجد مدخل صحيح لتناول عصر الخلافة الراشدة بصورة علمية وموضوعية لا تمس الأشخاص بل تنصب حول السنن. فلماذا لا نتحدث عن السنن بدلاً من الحديث عن الأشخاص، اذا كنا مأمورين باتباع سنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ؟! السلفيون يعرفون تفاصيل الخلافة الراشدة وجزئياتها وحوادثها، ولكنهم لا ينتقلون منها إلى اكتشاف السنن، ولذلك فهم لا يعرفون تلك السنن مطلقاً رغم الراية السلفية التي يرفعونها، بل إنهم يناقضون تلك السنن بصورة مفزعة ومحزنة!

ومن التضليل توظيف الأحاديث التي تحث على طاعة الحكام الظالمين لتخدم الواقع الفاسد. والواقع أن تلك الأحاديث تعالج موضوع التعامل الآني والحاضر وتتغير تبعاً للمصلحة، ولا علاقة له بمعتقدنا بشأن انحرافاتهم وضرورة الدعوة إلى ما نؤمن به؛ كما لا يعني التعامي عن الظلم أو تهوينه أو التقليل منه أو معاونة الظالمين بأية صورة، بحيث تنسب انحرافاتهم إلى الدين أو عبر تجنب الحديث عن الوضع الصحيح الذي ينبغي أن يتحقق. إنه لا يعني أبداً أن يكون الإنسان شاهد زور على واقعه أو تاريخه مراعاة للظالمين. لا يعني الخنوع للظلم وعدم الاجتهاد في مقاومته والعمل على تغييره.

ثم إن أحاديث الحث على طاعة الحكام الظالمين فضلاً عن سوء تفسيرها فإنها تمثل أنموذجاً صارخاً للنصوص التي يتم التعامل معها بطريقة انتقائية تؤدي إلى خدمة الاستبداد وترسيخه وتسويغه. إذ رغم المدلول الخاص لتلك الأحاديث إلا أنه أضفي عليها طابع عام وتجريدي وتم نقلها إلى منطقة الفكر والفقه ويعاد استحضارها وتكرارها وتضخيمها لغايات تخدم الاستبداد والمستفيدين منه والخانعين له.

 وفي مقابل ذلك فإن بعض الآيات والأحاديث الشديدة العمومية والتجريد لا تحظى إلا بقدر بسيط من الاستحضار والشيوع والاستثمار في مجال التطبيق. ومن ذلك قوله تعالى (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار).. وقوله تعالى (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).. وكذلك إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الناس إذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده. وليت الأمر يقف عند حدود الظلم، فهو يتجاوزه إلى حدود أبعد وأدهى. سنكتفي هنا بعرض سؤالين تصور درجة الظلم التي يتم السكوت عنها رغم أنها تحدث بصورة شبه يومية.

السؤال الأول: ماذا تفعلون بعامة الناس حين يسرق أحدهم ألف ريال؟

الجواب: نطبق عليه الحد إذا اكتملت شروط تطبيقه ويتم فصله من الوظيفة العامة بقوة النظام ولا يسمح له بالعودة إلى أية وظيفة عامة إلا بعد انقضاء ثلاث سنوات على ارتكاب موجب الحد. أو نعاقبه بالسجن من سنة إلى سنتين وبالفصل من الوظيفة العامة ولا يسمح له بالعودة إلى أية وظيفة عامة إلا بعد مضي خمس سنوات وصدور قرار من مجلس الوزراء يسمح له بالالتحاق بالوظيفة العامة!

السؤال الثاني: فماذا تفعلون بكبار المتنفذين حين يسرق أحدهم مليار ريال؟

الجواب: نعاقب من يجرؤ على اتهامه بالسرقة ومن يتجاسر محاولاً إثباتها أو الحديث عنها ولا ننفك نطلق على السارق لقب صاحب السمو أو صاحب المعالي أو صاحب الفضيلة!

الأمثلة كثيرة وفاقعة وتتجاوز كثيراً الأمثلة البسيطة التي تم عرضها، ولكن ليس هذا هو المقصود. فلنعد إلى أتباع التيار السلفي الذين لا يدركون سنن الخلافة الراشدة رغم الراية السلفية التي يرفعونها!

 

 لقاء مع وفد من بلاد (واق الواق)!

 

لكي نبتعد عن الحساسيات ومواطن الحرج سنتجاهل الأوضاع القائمة في بلادنا ونتخيل أن أهل بلاد واق الواق أسلموا وصحت عقيدتهم وواضبوا على أداء أركان وشعائر الإسلام ولكن لديهم عائلة حاكمة تفعل ما يفعله أمثالها من أمور لا ترضي. ولذلك فقد قرر أهل بلاد واق الواق إرسال وفد للاطلاع على التجربة السياسية للعلماء والرموز الذين ينتسبون إلى هذا البلد، وذلك بغية الاستفادة منها. فما الذي سيخرجون به يا ترى؟! مع كل الحب والتقدير نزعم أنهم لن يخرجوا سوى بنظام استبدادي قمعي يعيد إنتاج الأوضاع القائمة (أحدهم يدعو الى التعايش والآخر الى العنف والثالث الى التهييج، والرابع يدعو الى القشور، والخامس لا يمتلك سوى الوعظ وهكذا).

لنفترض أن أعضاء الوفد يسلّمون بأن الحق لا يُعرف بالرجال بل الرجال يُعرفون بالحق ويسلّمون بأن ا لحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. وبناء على ذلك رأى أعضاء الوفد مناقشة آخر يزعم أن لديه مشروعاً مختلفاً وصحيحاً. وهناك دار هذا الحوار:

** ستجدون عند غيري تفاصيل عن عصر الخلافة الراشدة لا حصر لها ومعرفة دقيقة بالحوادث والجزئيات والتفاصيل، إلا أن ما ستجدونه عندي هو أنني أستنبط من تلك الحوادث والتفاصيل السنن التي تحكم الأداء السياسي في عصر الخلفاء الراشدين. يا أعضاء وفد بلاد واق الواق: إليكم أول السنن وأهمها وأعظمها تأثيراً على الإطلاق. إنها سنة عدم الوصول إلى الحكم عن طريق القوة! إسألوا رموز السلفية: هل وصل أي من الخلفاء الراشدين إلى الحكم عن طريق القوة؟! إذا وصلتم إلى نتيجة أن أحداً منهم لم يصل الى الحكم بالقوة فاذهبوا إلى بلاد واق الواق وأطلعوا الناس على هذه السنة وأشيعوها بينهم وادعوا إليها وأشبعوها بحثاً وتأصيلاً.

*ـ* ولكن ذلك قد يغضب حاكم بلاد واق الواق وقد يؤدي إلى الفتنة!.

** وهل المهم لديكم إرضاء الله ورسوله واتباع سنة الخلفاء الراشدين أم إرضاء الحاكم؟ ثم من قال أن الأمر يتطلب العنف أو المواجهة لإشاعة هذه المعلومة؟ تجنبوا المواجهة بل وادعوا الناس إلى تجنبها إلى أن تثبت هذه المعلومة في الأذهان تماماً.

*ـ* حسناً، ولكن ماذا عن كيفية الوصول الى الحكم سلمياً، خصوصاً وأن طرق وصول الخلفاء الراشدين إلى الحكم كانت متعددة ومتنوعة؟!

** إذا خلصتم إلى النتيجة السابقة، فإنكم لن تجدوا سوى سنة واحدة تحكم أسلوب الوصول إلى الحكم وهي (سنّة الرضا والاختيار) وإن لم تتبعوا هذه السُنة فإنكم ستطبقون سنة القوة وتخالفون منهج الخلفاء الراشدين. وهنا فأنا أنصحكم بالابتعاد عن أية مدرسة بلا إرث سياسي وبلا وعي سياسي عميق كالمدرسة السلفية. فهذه المدرسة قوامها التقليد، ولذلك فإن لدى أتباعها نفوراً هائلاً من المستجدات وإحجاماً كبيراً عن الإبداع، في حين أن تحقيق سنة الرضا والاختيار كأسلوب للوصول إلى الحكم يتطلب الاجتهاد المستمر والمتواصل لترسيخها والحفاظ عليها. ستجدون لدى أتباع المدرسة السلفية حساسية وفهماً مغلوطاً إزاء قضية الدستور والانتخابات وتداول السلطة. فإن استسلمتم إلى هذه الحساسيات فستضيعون سنة الرضا والاختيار وتقعون في سنة القوة. تذكروا دائماً أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن الوسائل تأخذ حكم الغايات، ثم اسألوا أنفسكم كيف نحقق الرضا والاختيار؟. ستصلون بالتأكيد إلى اختيار وسيلة الانتخاب. قد تجدون أنه لا مناص من تشكيل مجلس شورى منتخب. إجتهدوا في وضع شروط الانتخاب والترشيح. ناقشوا وتحاوروا واجتهدوا حول كل التفاصيل، وتذكروا أنكم إن لم تفعلوا ذلك فلن تحققوا سنة الخلفاء الراشدين بل ستهدمونها وتخالفونها.

*ـ* ولكن المسلمين هدموا هذه السُنة منذ عهد بني أمية ومع ذلك لا نجد إدانة قوية لما حدث من قبل كل التيارات الإسلامية!

** هذه هي إحدى ثمار ثقافة الاستبداد وحجج المصلحة والفتنة التي عطلت حتى فرص العلم.

نعم، لن تجدوا إدانة قوية إذا بحثتم في التراث الفقهي، أما إذا بحثتم في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فستجدون إدانة لا تكاد تعادلها إدانة. ماذا تريدون أكثر من أن يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباع سنة الخلفاء الراشدين والعض عليها بالنواجذ؟! ولاحظوا أن الحديث هو عن الخلفاء وليس عن العلماء أو عامة الصحابة، الأمر الذي يعني أن التوجيه متعلق بالشأن السياسي تحديداً! ماذا تريدون أكثر من أن يصف الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم منذ عهد بني أمية بأنه ملك عضوض وملك جبرية؟! ماذا تريدون أكثر من أن يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن الخلافة تنتهي بعد ثلاثين سنة من وفاته وتنقلب ملكاً؟! بل ماذا تريدون أكثر من أن يشير الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن من هدموا الخلافة وأقاموا الملك هم فئة باغية وأنهم يدعون الناس إلى النار بينما أنصار الخلافة يدعونهم إلى الجنة؟! طبعاً ستجدون أن هذه الأحاديث خافتة الحضور والشيوع بين غالبية المسلمين بحكم ثقافة الاستبداد وحجة المصلحة والفتنة التي نخاف منها منذ ما يقرب من ألف وثلاثمائة وأربعة وثمانين عاماً (بداية الحكم الأموي)!

وإلى جانب ذلك فإن ثقافة الاستبداد وحجج المصلحة والفتنة وعوامل أخرى جعلتنا لا ندرس الآثار المدمرة لتعطيل سنة الرضا والاختيار في الوصول إلى الحكم واستبدالها بسنة القوة. يكفي يا أعضاء وفد بلاد واق الواق أن أذكر لكم أن تعطيلها كان السبب الرئيس في الافتراق السني الشيعي وفي ظهور مذهب الإرجاء، كما أنه أحد العوامل الرئيسة لنشوء مذهب القدرية، ثم إن سنة القوة قادت بعد ذلك إلى كل مظالم الاستبداد الملازمة لهذه السُنة واللصيقة بها، مثل القمع والتفرد بالأمور والفساد المالي والإداري والطبقية والإخلال بالكثير من قواعد العدالة والمساواة وغير ذلك.

*ـ* لنفترض أننا نجحنا في تحقيق هذه السُنة بعد زمن واجتهدنا في اختيار الوسائل والآليات الكفيلة بتأصيلها وترسيخها. فماذا نفعل بمن ينجح في انتهاكها ويستولي على الحكم بالقوة رغم كل احتياطاتنا؟!

** إذا تحققت هذه السُنة وأصبحت حقاً مكتسباً لشعب بلاد واق الواق، فأنا أسألكم حينها: ماذا تفعلون بمن يستولي بالقوة المسلحة على مركز تجاري في أحد الأحياء لديكم؟!

*ـ* نطبق عليه حد الحرابة إذا لم يتراجع قبل أن نقدر عليه!

** ولماذا لا تدعونه يستولي على المركز وتعملون لديه مقابل بعض الرواتب وتطلقون عليه لقب صاحب المركز وخادم الناس وتحذرون من الإمساك به بحجة المصلحة والخوف من الفتنة؟!

*ـ* لأننا سنقدر عليه، ولدينا من القوات ما يسمح بالقبض عليه، ولذلك لن نتساهل معه حتى ولو قتل بعض المتواجدين في المركز أو احتفظ بهم كرهائن.

** فلنفترض أنكم لم تقدروا عليه ولو لفترة معينة، فكيف ستتعاملون معه خلال تلك الفترة؟

*ـ* سنتعامل معه باعتباره مجرما وسنطلق حملاتنا الإعلامية والدينية عليه وسنعمل على تجييش كل قوانا وإمكاناتنا في مواجهته!

** فماذا تفعلون بمن يستولي بالقوة المسلحة على أحد البنوك بما فيه من أموال؟!

*ـ* أيضاً نطبق عليه حد الحرابة إذا لم يتراجع قبل أن نتمكن منه، وسنتعامل معه كما تعاملنا مع من استولى على المركز التجاري!

** فما بالكم إذن بمن يستولي بالقوة المسلحة على الوطن بكل ثرواته وخيراته ويتحكم في حاضره ومستقبله ويسعى لتوظيفكم أجراء لديه؟! أليس أولى ألف مليون مرة بتطبيق حد الحرابة عليه؟!

*ـ* حسن، فهمنا السُنّة الأولى، فماذا عن بقية السنن؟!

** السُنّة الثانية هي عدم توريث الحكم للأبناء أو أفراد العائلة. لقد توفي الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يوصي بالخلافة لأحد من أفراد عائلته. ولذلك لم يسلم المسلمون أمرهم إلى عائلة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا إلى أية عائلة أخرى ولم يقم بينهم متغلّب يغتصب السلطة بالقوة ولم يورث أحدهم أحد أبنائه أو أفراد عائلته بل حرصوا جميعاً على اختيار الأفضل، سواء نجحوا في ذلك أم لم ينجحوا. لم يوص أبو بكر بالخلافة إلى إبنه أو أحد أفراد عائلته، وعمر رضي الله عنه لم يوص بالخلافة لابنه أو أحد أفراد عائلته بل رشح ستة من أفضل الصحابة لخلافته، وحين جاء الثوار إلى علي كرم الله وجهه لتنصيبه خليفة رفض الأمر وأصر على أن تكون البيعة بالرضا والاختيار وفي المسجد.

حين تتيقنوا من هذه المعلومة، انطلقوا إلى بلاد واق الواق وأشيعوا هذه السُنّة بين الناس دون مجابهة أو صدام أو عنف. وأشبعوا هذه السُنة بحثاً وتأصيلاً واجتهدوا في إشعار الناس بالفارق الهائل بين عصر الخلافة الراشدة على صعيد هذه السُنّة وبين العصور التالية له منذ حكم الأمويين إلى عصرنا حيث لم يتحقق خلالها سوى السُنّة العكسية تماماً وهي توريث الحكم إلى الأبناء وأفراد العائلة.

 *ـ* حسن. فماذا عن السُنة الثالثة؟

** السنة الثالثة هي عدم اتخاذ تولية الأقارب والأصهار سنّة متبعة، إلا في الحدود التي لا تخل بمعيار الكفاءة. وستجدون أن هذه السنّة تحققت خلال معظم عصر الخلافة الراشدة، وأن التساهل اليسير الذي حدث إزاء هذه السنة في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه كان بمثابة بداية الخلل الذي اتسع وتعاظم إلى أن تمكن أولئك الأقارب والأصهار من هدم الخلافة وإقامة الملك (تكون بعدي خلافة راشدة ثلاثين عاماً ثم تنقلب ملكاً)!

 لقد أصبحت تولية الأقارب والأصهار سُنّة متبعة منذ عهد الأمويين إلى عصرنا. وباتباع منهج تولية هؤلاء تم الابتعاد تدريجياً عن معيار الكفاءة والجور على حقوق الأكفاء وحرمان الأمة من جهودهم. وبالمقابل تضخم الإحساس بالتميّز والفوقية لدى الأقارب والأصهار وأصبحوا يرون أن لهم من الحقوق ما ليس لغيرهم. وبحكم وضعهم فإنهم يحرصون أشد الحرص على هدم معيار الكفاءة لأنه لا يخدمهم، ويحرصون على استقطاب المتزلفين والمنتفعين والمطبلين الذين يمطرونهم بكل صنوف المديح والثناء ويعوضونهم عن النقص الذي يشعرون به ويغذون لديهم الإحساس بالتميز والأهمية.

هؤلاء الأقارب والأصهار يتحولون من أجل الحفاظ على مصالحهم وتعظيمها إلى ما يشبه الطبقة العازلة بين الشعب والحاكم، فمصلحتهم مرتبطة باستمرار الأوضاع القائمة وعدم انفتاح الحاكم على الشعب، إذ قد يصاب بلوثة تجعله يقلص من امتيازات بعض الأقارب والأصهار لمصلحة الشعب، أو يفكر في استبدال بعض الأقارب والأصهار ببعض الأكفاء من عامة الشعب! يا أعضاء وفد بلاد واق الواق: أشيعوا سُنّة تجنّب تولية الأقارب والأصهار بين الناس إلا في حدود ما يسمح به معيار الكفاءة، واحرصوا على تحذير الناس من التساهل في تطبيق هذه السُنة لأنها هي التي قادت في النهاية إلى انهيار الخلافة الراشدة.

*ـ* ما هي السُنّة التي تليها؟

** السُنّة التالية هي عدم استثناء أحد من الخضوع لأحكام الشريعة ومتطلبات تحقيق قواعد العدالة والمساواة. إذهبوا إلى أعضاء هيئة كبار العلماء ورموز السلفية الأخرى وسترون أنه لا يخفى عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أشار فيه إلى أنه إنما أهلك الأمم من قبلنا أنه إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وسيذكرون لكم بافتخار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقسم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع يدها. أيضاً سيذكرون لكم بافتخار موقف عمر رضي الله عنه حين ضرب ابن عمرو بن العاص قبطياً فأمر عمر رضي الله عنه بالاقتصاص للقبطي من ابن حاكم مصر وقال قولته المشهورة متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! لن يجدوا في عصر الخلافة الراشدة أنه كان يخطر بالبال أن أحداً يمكن أن يستثنى من أحكام الشريعة. فإذا تيقنتم من ذلك فانطلقوا إلى بلاد واق الواق وأشيعوا بين الناس سنة سيادة الشريعة وقواعد العدالة والمساواة على الجميع.

 قد تبدو هذه السنة بدهية ومعلومة، ولكن الفرق أنهم ينبغي عليكم الاجتهاد في إشاعتها بين الناس وتحقيق مبدأ الشفافية وحرية التعبير لكي تتمكنوا من اكتشاف حالات اختراق أحكام الشريعة وقواعد العدالة والمساواة. حينئذ اجتهدوا في التشهير بالمخترقين وفضحهم بين الملأ، وذلك دون عنف أو صدام.

*ـ* لنفترض أننا أشعنا بين الناس سنة سيادة أحكام الشريعة وقواعد العدالة والمساواة ورسخنا مبدأ الشفافية وحرية التعبير بما يسمح بفضح المحظيين والمتنفذين وأصحاب الاستثناءات. فما هي السنة التالية؟

** السنة التالية هي سنة المساءلة. وهذه السنّة مرتبطة أيضاً بمبدأ الشفافية وحرية التعبير. إذهبوا إلى أعضاء هيئة كبار العلماء والرموز السلفية فسيذكرون لكم بافتخار قصة المرأة التي جادلت عمر رضي الله عنه حتى قال: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وقصة الرجل الذي استوقف عمر رافضاً السمع والطاعة إلى أن يشرح للجمع الحاضر كيف أمكنه تدبير الثوب الجديد الذي يلبسه. إذا تيقنتم من أن هذه السنة كانت إحدى سنن الخلافة الراشدة فاذهبوا إلى بلاد واق الواق وأشيعوا هذه السنة بين الناس وأشبعوها بحثاً وتأصيلاً واحرصوا على تحقيق مبدأ الشفافية وحرية التعبير بما يسمح لكم بتحقيق وترسيخ هذه السنة.

*ـ* هل من سنن أخرى؟

** هناك سنّة من أهم وأخطر السنن وهي سنّة الشورى وعدم التفرد بالأمور العامة. أيضاً إتصلوا بعلماء ورموز المدرسة السلفية في بلادي، وسيخبرونكم بأن الله وصف المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم وأنه خلال معظم عصر الخلافة الراشدة كان هناك نقاش وحوار وأخذ ورد حول الأمور العامة، وأنه بعد عصر الخلافة الراشدة أصبحت السنة المتبعة هي التفرد بالأمور العامة ومن قبل أناس محدودي العلم والتفكير! حين تذهبون إلى بلاد واق الواق أشيعوا بين الناس هذه السنة الكبرى واربطوها بسنة الرضا والاختيار واجتهدوا في الأخذ بكل الوسائل التي تضمن تحقيق هذه السنة وبعد أن يتحسن الوعي ويحدث التغيير لا ترضوا بأقل من تحقيق الوصف الإلهي للمؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وهذا بالتأكيد سيقودكم إلى الاقتناع التام بأن الشورى لا بد أن تكون ملزمة وإلا انهارت وحدث التفرّد بالأمور العامة.

*ـ* هل بقيت أية سُنة كبرى من سنن الخلافة الراشدة لم يتم تحديدها والحديث عنها؟.

** بقيت سُنة من أعظم وأكبر وأخطر السنن، وهي سُنة عدم التعدي على بيت مال المسلمين أو المال العام بما يجاوز نفقة الحاكم وأهل بيته أو ما يمكن أن نطلق عليه بالتعبير الحديث الراتب. أيضاً أنصحكم أن تتصلوا بكل علماء ورموز المدرسة السلفية في بلادي وأن تستوضحوا منهم عما إذا كان أي من الخلفاء الراشدين قد أخذ من بيت المال ما يجاوز نفقته ونفقة أهل بيته، وستجدون أنهم سيذكرون لكم وقائع تفوق الوصف حول زهد الخلفاء وحرصهم على الحفاظ على أموال المسلمين. وبالمقابل فإنكم ستجدون وقائع تفوق الوصف حول مدى انتهاك هذه السُنّة وتدميرها منذ عهد بني أمية، وذلك فيما عدا اجتهادات شخصية نادرة لبعض الحكام تثبت القاعدة ولا تنفيها! لقد أصبح بيت المال للحاكم وأفراد عائلته وأصبح الموظفون من المسلمين يحصلون على الرواتب، والكثير من المستحقات أصبحت مكرمات يتفضل بها الحاكم على الناس من مالهم! لا أحد يستطيع السؤال عن بيت مال المسلمين حتى وإن بلغ السفه في الإنفاق والسطو على المال حدوداً تفوق الخيال! بيت مال المسلمين أصبح بيت مال الحاكم وكفى!

أهم ما أنصحكم به لكي لا تكرروا الأخطاء هي عدم الاعتماد على الثقة في أي حاكم أو أي شخص بخصوص المال العام. فالأنفس ضعيفة أمام المال، وأوجه التأويل والتسويغ متعددة. ولذلك فإنكم تحتاجون لكل السنن الأخرى لتحقيق وتثبيت وترسيخ هذه السُنة. كما ستحتاجون إلى وضع تنظيمات وإنشاء أجهزة ومؤسسات لتحقيق هذه السُنّة وعدم تركها للمصادفات والنوايا الطيبة والثقة.

بقي أن أقترح عليكم خطة العمل التي تمكنكم من إشاعة هذا المشروع السياسي وقطف ثماره بأقل قدر من الوقت والجهد والتضحيات. أقترح عليكم أن تحددوا مدة زمنية لنشر المشروع وإشاعته بين الناس، ولتكن تلك المدة في حدود عامين. خلال هذه المدة أرى أن يكون همكم الأول هو نشر المشروع وإشاعته بين الناس بأقصى درجات الحكمة ودون مصادمة للسلطات أو استعدائها. إجعلوا سنن الخلافة الراشدة التي تم تحديدها كالهواء وكالماء بأيدي الناس واحرصوا على تعميق وعيهم حول أهمية هذه السنن وخطورة مخالفتها. إجعلوهم يشعرون بأن انتهاكها أكثر خطراً من الجرائم الفردية مثل القتل الفردي أو الزنا الفردي أو شرب الخمر الفردي. هذه السنن هي سنن عامة تقيم حياة أمم أو تزهقها، والإخلال بها يؤدي إلى انحرافات جماعية وعامة.

لا يمكن إحداث إصلاح سياسي أو تغيير سياسي جوهري إلا بعد إحداث تغيير ثقافي عميق يتناول الوعي السياسي. هذا ما تقوله سنن التاريخ وما تشهد به كافة تجارب البشر. في إطار المذهب السني لم يحدث أي إصلاح أو تغيير سياسي جوهري منذ عهد بني أمية إلى لحظتنا الراهنة، سواء رفع الحكم الشعار الديني أو رفع الشعار العلماني. في الكثير من الدول العربية لا مشكلة لديهم في اقتباس الليبرالية ووضع الدساتير المستنسخة من أعرق الديمقراطيات الغربية ولا يوجد تيار سلفي عريض يعيق الحكومة عن تطبيق الديمقراطية. ورغم ذلك فإنك لا تجد إلا الاستبداد الذي قد يفوق استبداد من يعادون الديمقراطية والانتخابات والدساتير. لماذا؟ لأنه لم يوجد أي تغيير ثقافي جوهري يعمق لدى الناس قناعتهم بأن من حقهم الاختيار ويجعل تلك القناعة في مستوى العقيدة الراسخة التي يكون الناس على استعداد للتضحية من أجلها.

في المذهب السني، وطالما أننا نضفي الشرعية على حكومات القوة منذ عهد بني أمية فإنه لا أمل في الإصلاح مطلقاً. الناس يعرفون التعاليم العامة للدين ويعرفون الشعارات الأساسية للعلمانية بشقيها الاشتراكي والليبرالي. ولكن ما الذي يجعل الناس يقتنعون بتفسير معين ويقاتلون من أجل الانتصار له؟ إنه التغيير الثقافي الهائل والعميق. وفي تقديري فإن أولى خطوات التغيير هي وضع أسلوب القوة في الوصول إلى الحكم والاحتفاظ به ضمن دائرة الإثم والانحراف والمعصية.

وفي إطار المذهب الشيعي هناك الشيعة الإمامية (وهم الأكثر والأبرز) وهؤلاء يعتقدون أن الإمامة بالنص لعلي وأحد عشر من نسله آخرهم المهدي المنتظر الذي اختفى وهو طفل وسيعود في آخر الزمان. وبناء على ذلك بنوا اعتقادهم السياسي القائل بالتقية والانتظار إلى أن يعود المهدي المنتظر. وقد ظلوا بسبب هذه العقيدة على هامش أحداث التاريخ إلى أن حدث التغيير الثقافي بعد أن طال الانتظار. حيث اخترعوا فكرة ولاية الفقيه التي تسمح للفقهاء بأن يكونوا ولاة على الأمة إلى أن يعود المهدي. وبناء على ذلك عاد العالم الشيعي إلى عالم السياسة وتمكن من تغيير إحدى أعرق الديكتاتوريات.