مدخل الى التعايش

نقد الذات الشيعية

 فؤاد ابراهيم

 هل يمكن إعادة قراءة الذات بمعزل عن المطارحات الجدلية النمطية بين السنة والشيعة؟ وهل يمثّل الموروث الشيعي بكامل حمولته مصدر إلهام وإلزام للشيعة؟ وهل يكتسب المجهود الفردي صفة الديمومة والعمومية، بحيث يسري ناتجه في الزمان والمكان؟ أسئلة تضعنا أمام مواجهة الذات الشيعية بكل ما تفرضه من تقويم لوعينا الديني العام والخاص.

وللاجابة عن تلك الاسئلة لابد من تقديم لمقالة تبدو لدى الكثيرين شديدة الالتهاب والتفجّر، ولكنها في تقديري المدخل الصحيح لازالة الانسدادات التاريخية في قناة الحوار المذهبي. فقد باتت قواعد اللعبة السجالية مكشوفة، ولم يعد هناك ما يطيح بالقواعد تلك الا بالاقتحام المباشر على الذات وليس الآخر.

فقد إعتاد المتساجلون مذهبياً على أن يتسلل كل منهم الى مستودعات الآخر ليستخرج منها أدلة إدانة، واشهارها أمام الملأ لدحض متبنياته العقدية والتشهير به، في عملية مفاضحة متبادلة تكاد تكرر نفسها طيلة عشرة قرون، وقد أضفى عليها قاموس البذاءة والانحطاط في اللغة السجالية ما جعل التخندق في الذات خياراً نهائياً لا يسمح للقابعين فيه مجرد التفكير في الخروج منه. ينبىء عن ذلك سجّل المناظرات المتسافلة على شبكات الانترنت والتي نفث فيها المتساجلون من الفريقين كل قباحاتهم حتى جاءت صورة طبق الأصل عن واقع مأزوم.

ومادام تراث الأوّلين يضخ بما يكفي لتسعير السجال المذهبي، فإن المهووسين يجدون متكئاً مريحاً في مجالس الجدل العقيم، وطالما أن الفرقاء جميعاً يباركون سراً وعلانية سجلّ الماضين، فإن فصول المعركة تصبح معروفة: قيح هنا وقيح هناك، وتبرير هنا وتبرير هناك (كذلك زيّنا لكل أمة عملهم)، وفي نهاية المطاف يلوذ الفريقان بالصمت حيال الذات.  

وعلى الجبهة المقابلة يقف أولئك المناصرون لمبدأ الوحدة والتسامح بين المذاهب، ولكنهم في مواجهة الذات يأنسون بخيار الانتقاء من التراث ما يعزز موقفاً ظرفياً ومصلحياً وإسدال الستار على ما في هذا التراث من نصوص مناقضة لمنتقياتهم، وبدلاً من نقدها يلجأ هؤلاء المتسامحون الى إهمالها وفي أحسن الاحوال الاشارة اليها بوخز ضئيل من النقد دون تسمية الاشياء بأسمائها.

منذ سنوات بدأ بعض المتسامحين مذهبياً بإعادة قراءة الذات ولكن بطريقة انتقائية، كمن يقرأ موقف الشيخ ابن تيمية المتحامل من الامام علي، أو من يقرأ تراث الشيعة في موضوع سب الخلفاء.. وفي نهاية المطاف يخرج المعتدلون متعادلين في المنازلة مع التراث. إن الاحساس المتعاظم لدى هؤلاء بخطورة المشكل الطائفي والنية الصادقة التي يحملوها في غرس نبتة التسامح وقبول الآخر، لم تؤد الى دفن الخلاف ولم توقف دوي مدافع الطائفية، فقد كان من السهل على المتساجلين من الفريقين تهديم البناء الوحدوي من قواعده، لأن في كتابات ابن تيمية والشيعة ما يكفي وبأضعاف لاثبات النقيض.

جوهر المشكلة يكمن في أن فضاء المقدّس تمدد لدى المتطرف والمعتدل من الفريقين بحيث بات يخشى من الدخول اليه بعقلية الناقد، فالمعتدل كما المتطرف يبارك هذا التراث ويرى فحصه جالباً لاثارة زنابير الخلية، ولذلك يجد في صناعة نص آخر يقوم على إعادة قراءة مهادنة للتراث أسلم من مزاولة النقد فيه، لأن ذلك يتطلب محايزة للمقدس وانفصالاً عنه. فالمصهارة المفتعلة بين المقدّس والماضي تمتص كل ما يعلق من نصوص بهذا الفضاء الرحب، الذي يشرع أبواب التسجيل على أفق واسع، ليصل التساوي بين النشرة الصفراء والنص القرآني حداً موازياً في التعظيم لدى المتلقفين اللاحقين، ليكونوا جاهزين لزج أنفسهم في أتون المحرقة الطائفية.

ولاشك أن النزوع نحو تأكيد الالتصاق بالجذور والاحتماء بالماضي يحقق أغراضاً متعددة لدى المستقيلين كرهاً وطواعية، منها الدفاع عن الذات وتبريرها، والحصانة أمام العصب المتشددة الجاهزة لاشهار سلاح (التحريم الكنسي). ولذلك يفرط البعض في (تدليك) التراث عوضاً عن مجابهته. وبهذه المنهجية المتهادنة يتم (ترسيم) النص التراثي ومركزته، إذ إن تنوع القراءات فيه لا تعدو كونها ضرورات مرحلية استثنائية تحفظ نقاوة التراث وسطوته الدائمة.

وحين يتساوى المتطرف والمعتدل في الاستقالة أمام التراث تصبح مولّدات السجال نشطة، فالبوصلة تشير دائماً الى الماضي بكل متوالياته (التراث، التاريخ، الرموز، النصوص القديمة) وهو يمثل الساحة التي يلتقي عليها الفرقاء جميعاً، وليس الحاضر بكل تحدياته وهمومه.. واذا كان المتطرفون يحملون وزر تهريب ذخائر التراث السجالي الى الحاضر، فإن المعتدلين غير معفيين من المسؤولية، فهم أمام تراث يمثل السجل الكامل لمخزون عقدي تشربوا منه في فترة ما وعيهم الخاص، ومن وحيه جرت صياغة نظراتهم ومواقفهم، وهم ملزمون بتحديد الموقف منه كلياً وجزئياً. ولا ننسى تداعيات هذا الموقف على الاجيال اللاحقة التي ستكوى بذات الجمرة الخبيثة، أي الطائفية، ما لم نعدّل الآن المسار المعوّج.

لم يعد يكفي مجرد تبني مبدأ التسامح المذهبي مع الابقاء على فورانية التراث وإستعماله ساتراً حصيناً في العلاقة مع الآخر، بل الحاجة تتأكد وبإلحاح شديد على تفكيك المقدس ووضع قياسات جديدة لهذا الفضاء المتمدد بلا حدود، فما نواجهه الآن هو تراث يكاد يطغى بنصوصه ورموزه ووقائعه على الحاضر، نابذاً للزمان الذي نحيا فيه، وملغياً لاستقلالية الدور الذي يجب ان نضطلع به في وعي ذاتنا وحاجاتنا. فهذا التراث الحاضن لكل قديم يجب إخضاعه لمراجعة دورية، ولا بد أن ننطقها صراحة بأن في تراثنا ما يستحق أن يكون طعماً للنار، فالكتابات غير المسؤولة التي صنّفت في أزمان غابرة ومظلمة يبلغ فيها التهافت حد الاسفاف الفارط في بذاءة اللغة، وركاكة الالفاظ، كتلك المقولات الهابطة في الخلفاء الراشدين، والتي تعكس نفسية معلولة لواضعها مهما علت رتبته العلمية.

ولا ندري مالذي يحول دون مجاهرة علماء الشيعة بموقف حازم إزاء مقولات أقل ما يقال فيها أنها خزي على التشيع أولاً وأخيراً، وكنا نتمنى لو أن هذه المقولات ماتت في عهد قائلها أو اندثرت مع كاتبها، الا أن هناك من ضمن لها الحياة فترات أطول، فبقيت تغذي بعض الجماعات المغالية داخل الشيعة، متوهمين كونهم يحيون ما توارى من تراث أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة، ويكتمون عملياً ما كان يبوح به سيد المتقين (لأسلّمنّ ما سلمت أمور المسلمين) و قوله لأصحابه في حرب صفين الذي كانوا يكيلون الشتائم لأهل حربه من أهل الشام (إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين) ونصحهم قائلاً (قولوا اللهم إحقن دمائنا ودمائهم)، أو قول مؤسس المذهب (كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا) و(كونوا دعاة لنا ولا تكونوا دعاة علينا). فهل من الزين في شيء أن يكتب أحدهم في الخليفة عمر بن الخطاب كلاماً لا يصدر الا عن معتوه آفاك، ثم ينسب ذلك الى أئمة أهل البيت (ع)؟ وهل من الدعوة اليهم النيل من الخليفة عثمان بكلام لا يتفوه به الا شذّاذ الآفاق؟.

هل يكفي من علمائنا مجرد صرف النظر عن مثل هذه الروايات الشاذة، أو السكوت عنها، أم لابد أن يكون هناك موقف علني وصارم إزاء ما يتدفق علينا من تراث، ندرك تماماً بأن فيه من الغث ما يكفي لتأجيج سورة الغضب لدى راشدي الشيعة قبل غيرهم. كل ذلك لأن هناك في التاريخ من كتب في لحظة لاوعي عن قضية واهمة أراد بها اسداء خدمة لأهل دعوته، وتزلفاً لعامة ملّته. مالذي يحول دون كف ألسنة تلهج بالنيل من رموز دينين ومقدسات المسلمين؟ أليس من حق الأخوة الدينية علينا درء ما يغيظ شركائنا في الدين والعقيدة، وأليس الحقوق يعضد بعضها بعضاً، فكيف نطلب حقاً نمنعه عن غيرنا؟.

إن المتعثرين بالتسالم المتصدع على صحة المنقول في المصادر الشيعية لا تعنيهم الاجابة عن تلك الاسئلة، لأن في المنقول سلوة لما ألفوا، ولكن حين يعاد وضع المشكلة في اطار آخر، يصبح الحديث عن هذا الموضوع متمحوراً حول امتثال لسيرة أو الخروج عنها. ولتقريب الفكرة نقول إن ما كان يحول دون الاقتراب من بعض المجموعات الروائية لوضع حد للمهدورات في كتب السجالات العقدية، هو تلك الدعاوى غير المسنودة بوثاقة ما تضمنته هذه المجموعات من قبيل (الكافي كافٍ لشيعتنا)، كيف وقد تبين من تحقيق رواياته بأنه ليس مجرد غير كافٍ فحسب، بل ضم من الموضوعات على المذهب وأئمة أهل البيت ما يجعل التمسك بتلك الرواية كماسك الهواء. وليس في ذلك الا توهين التشيع وتهزيله، فقد نبّه الأئمة قبل ذلك من تسرّب كثير من الروايات الى كتبهم وفي حياتهم، وقد سبق أن عاش الشيعة محنة توثيق مرويات كثيرة شاعت في أوساط المحسوبين على الائمة.

فعن يونس بن عبد الرحمن قال إن بعض أصحاب الائمة سأله: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الاحاديث؟ فقال حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله (ص) يقول: لا تقبلوا علينا حديثنا الا ما وافق الكتاب والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا (ص) فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله (ص).

ونقل يونس بن عبد الرحمن ما جرى له في رحلته للكوفة، يقول: (وافيت العراق فوجدت بها قطعة من أصحاب أبي جعفر (ع) ووجدت أصحاب أبي عبد الله (ع) متوافرين، فسمعت منهم وأخذت كتبهم، فعرضتها من بعد على أبي الحسن الرضا (ع) فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله (ع) وقال لي: إن أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله (ع) لعن الله أبا الخطاب وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الاحاديث الى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله (ع) فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إن تحدثنا حديثنا بموافقة القرآن وبموافقة السنة، إنا عن الله وعن رسوله نحدث..).

وعن يونس عن هشام بن الحكم أنه سمع أبي عبد الله (ع) يقول: كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المتسترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها الى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها الى أبي ثم يدفعها الى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة، فكلما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم. وقد ورد في كتاب (اختيار معرفة الرجال مج2 ص 778) بأنه كان كل إمام يكذب عليه أحد.

نشير هنا الى أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الروايات الشيعية ترجع الى الامامين الباقر والصادق، وبإمكان المرء أن يتصور كم هي عدد الرويات التي تسللت بإسم الامام الصادق الى المصادر الشيعية وانبثت في تراث الشيعة، وبالتالي كم مظلمة وقعت بحق مؤسس المذهب المشهود له بالتقوى والزهد والخوف من خالقه في نقل ما هو متطابق لكتاب ربه وسنة نبيه، فيما كان عدد من المدّعين نسبتهم اليه يضعون الرواية بإسمه ويبثونها بين الناس. وليس غريباً أن يكون الامام الصادق أكثر من وضع الغلاة أحاديث مدموغة بإسمه، فهو على العكس من أئمة المذاهب جميعاً كان يعيش في المدينة فيما كان الرواة عنه يعيشون في الكوفة، الأمر الذي أتاح لهم فرصة دعوى الانتساب اليه وفبركة الحديث بإسمه.

وندرك من خلال قراءة المجموعات الروائية الكبرى لدى الشيعة بأن هناك تناقضاً حاداً بين الاحاديث المنسوبة الى الائمة، بل وعن رجال الحديث الشيعة بما يشي بأن ما حذّر منه الائمة من تسرّب الكذب عليهم في كتب الحديث قد وقع بالفعل، ومنها تلك الروايات التي فبركها غلاة الشيعة القدامى والتي تنال من الخلفاء الراشدين وأمهات المؤمنين. وندرك أيضاً بأن سبك الروايات ومضامينها لا تتطابق مع تعاليم وأخلاق الائمة، بما يجعل صمت العلماء عن هذه المرويات مرفوضاً، والأنكى حين تجد من الشيعة من يعدّها من الاسرار الخاصة بالمذهب التي لم يبح بها الأئمة سوى الى حوارييهم وأهل خاصتهم، وكأنها أسرار الكون وخفايا الخلق، متناسين بأن هذه المرويات تمثل سبّة عار على التشيع، وتشويه لدعوة الائمة عليهم السلام.

إن الغواية الواضحة والبعيدة المدى التي انصاع اليها بعض مؤولي الشيعي قامت على فهم النص بوصفه ينشيء تمييزاً بين الدلالة الصريحة والدلالات الاحتياطية التي تجعل من النص قابلاً للاستعمالات المتعددة، وفي ذلك إغفال متعمد لحقيقة التناقضات القارّة في ذات النص أو المتعارضة مع نصوص أخرى، ولذلك يتم تعويض ازالة النص ونسفه بتكريسه عبر قراءات مزدوجة، خشية أن يقال عن فاعله مصادماً لنص مقدّس.

ولكن هل يمكن النظر بشكل مشروع الى النص مفصولاً عن قائله، أم أن القائل الافتراضي بات يقرر سلفاً شرعية النص ووثاقته وإن خالف مضمونه القرآن الكريم والسنة النبوية ونصوص أخرى صادرة عن الائمة ومتطابقة مع المصدرين الاولين؟

إن النزعة السكولاستيكية السابغة للتشيع تجعل الجدل محاصراً بين النص والعقيدة، إذ تصبح قراءة النص عملية عقدية خالصة أكثر من كونها ممارسة ذهنية عقلانية ابتداء، وبهذا لا يتخذ النص بكل قراءاته المزدوجة أهميته الا عندما يدرج في إطار التفسير العقدي، وهذا ما يتيح لمرور طيف من الروايات دون خضوعها للمساءلة الأولية، لأن هناك من أراد أو سمح لها أن تبقى صالحة للاستعمال.

ولا يمكن شق دروب وآفاق جديدة للتشيع طالما بقي حبيس مقولات متهافته صاغها أناس جعلوا الأئمة الاطهار تحت التصرف كيما ينهبوا منهم دمغة الاصالة النموذجية لنصوص مفبركة. بكلمة أخرى، أن هناك من تسوّر التشيع وألقى بداخله ما ليس جزءا من مكوّناته، وان تحميل رموز المذهب الأوائل تبعة اقترافات المحسوبين عليه ليس أقل من جناية بحق من نذروا أنفسهم لايصال رسالة الاسلام كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية. 

 التعايش مع الآخر.. كيف؟

 لئن اتفقنا على القرصنة التي قام بها بعض المنداثين في التشيع في مرحلة مبكرة من نشأته، أي فرق الغلاة التي ظهرت في عصر الدولة الأموية وانضوت لاحقاً تحت لواء الامام الصادق مؤسس المذهب طلباً للحماية من البطش الأموي، ناقلة معها كل مقولاتها العقدية.. أقول لئن اتفقنا على ذلك، فإننا نقترب من وجه آخر للمشكلة، وهو دور العلماء في الادقاع بالنصوص المعلولة في المصادر الشيعية إزاء الآخر المختلف مذهبياً.

لا تظهر الصلة بوضوح بين هذه النصوص وأزمة التعايش مع الآخر الا في حال انتحلنا شخصية هذا الآخر الذي يشعر بالمهانة من نصوص تسلبه حق الاعتناق الحر، وتطيح من رمزية القيم والرجال بما يمثلون بالنسبة له جزءا من نظام المعنى الديني.

إن الاصغاء الى نداء الآخر وتذمره لا يغدو مجرد تنبيه الى عثرة عابرة، بل هو يتضمن دعوة غير مباشرة الى تعايش معه أيضاً، ولكن وفق شروط مختلفة. إن تبرّم الشيعة من صدور فتاوى ذات صفة إجمالية وجماعية وفي الغالب إستئصالية من قبل علماء في المدرسة السلفية، وهكذا نشر كتب تقدح في عقائد الشيعة يجنح بعضها للنيل من الرموز وفبركة الأساطير رجاء تعزيز الخصومة ونفي الآخر الشيعي، يقابله تبرّم نظرائهم في المدرسة السلفية من مصنّفات شيعية طالت في تعريضها رموزاً دينين كبار.. فالاقترافات المتبادلة هي ديدن المتساجلين، الذين يطحنون الهراء في مطارحات سقيمة لا تبني سوى حائطاً للقطيعة والعزلة وليس جسراً للتواصل والتعايش.

ومن وجهة نظر شيعية، فإن التعايش بين المعتقدات المختلفة لا يتم بإخفاء الاسلحة ولا باطلاق رسائل طمأنة لفظية، بل تتطلب بدرجة أساسية قراءة نقدية تفكيكية للذات الشيعية، للحيلولة دون تحميل الشيعة تبعات ما اقترفه بعض المحسوبين عليه، ونبذ ما يخالف عقيدة مؤسسي المذهب.. إن الخوف من سخط العامة والعلماء لا يغيّر من حقيقة أن في مصادر الشيعة ما يخالف تعاليم أئمة أهل البيت (ع) التي هي مستوحاة من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وآله.

يخبرنا التاريخ المعاصر عن قصص معاناة عدد من المصلحين الشيعة أمثال الشيخ محمد حسين النائيني مؤلف رسالة (تنبيه الامة وتنزيه الملّة)، والشيخ مهدي الخالصي والسيد محسن الأمين والسيد أبو الحسن الاصفهاني والشيخ محمد جواد مغنية والشيخ حسين علي المنتظري والسيد محمد حسين فضل الله.. فهؤلاء جميعاً قد أعملوا النقد الهادىء والحذر في بعض الممارسات الطقسية الشيعية، فهاج العوام وشهرت فتاوى التفسيق والتكفير، طمعاً في إطفاء صوت العقل، وإدامة النكير. ومن السوء أن تلك الحملات الشعواء قد حققت أغراضها، فقد اضطر النائيني لسحب رسالته ودفع المال لجمع ما تبقى منها في الأسواق وفي أيدي الناس، ولطّخت سمعة الشيخ الخالصي حتى صار الجهلة يطلقون إسمه على حذاء الحمام، ونزع عن الأمين نسبه الهاشمي، وتصدّعت مرجعيّة الاصفهاني في العراق، ونال المنتظري الحيف من أقطاب الحوزة في قم، وصدرت فتاوى التكفير التفسيق في حق السيد فضل الله.

وبالرغم من أن هؤلاء المصلحين لم يتوغلوا في عمق المصادر الشيعية ولا القضايا الكبرى في التشيع، وإنما سلكوا منهجاً في تحليل بعض حوادث التاريخ وطقوسه ورجاله، وخلصوا الى نتائج غير مرضية للذوق العام، ولم يكتموا ـ كما يفعل بعضهم ـ علماً قد يحرّض عليهم المتقاطبين في الدائرة الشيعية.. مع علمنا بأن هناك من علماء الشيعة من نجح في تسيير الدفة على خلاف رغبة العامة والعلماء معاً، فقرار الامام الخميني بحظر طباعة بعض الكتب الشيعية القديمة (كما في مثال عدد من أجزاء موسوعة بحار الأنوار للشيخ المجلسي) كان جريئاً، ولكن موقعه الكاريزمي وتسنمه مقام القيادة الدينية والسياسية العليا في ايران ألزم مناوئيه بالصمت، ولكن في مثال السيد محمد حسين فضل بمرجعيته الناشئة خارج الحدود الايرانية كان الحال مختلفاً، فقد توالى صدور الفتاوى التكفيرية من الحواضر المركزية للتشيع، قم والنجف، وكل ذلك لأنه رجّح رأياً في حادثة تاريخية لا تمت للعقيدة بصلة.

إن ما يذهل المرء أن تضمحل دعوة مصلحي الشيعة أمام هياج بعض الجهلة وفتاوى المتنطعين، حتى صار التشيّع محكوماً بمردة لا شأن لهم سوى بعث ما تردّى في مصادر الشيعة ليجعلوه من مراسمه ومعالمه الكبرى.. وما يجري في محرم الحرام في ذكرى أبي الأحرار الحسين بن علي شاهداً ساطعاً، حيث تسيل دماء باردة بدعوى الإيثار بالروح من أجل شهيد الطف، فيما تذوى في هذا الطقس الدرامي رسالة كربلاء.. وكأن أصحاب العزاء يندبون حظهم على عدم الانضمام الى جيش الحسين، فاستبدلوا ذلك بالثأر من الذات كما فعل المتخاذلون والمتأخرون من بعد نحره.

ولكن.. هل ندع هؤلاء السير بالتشيّع في طخية عمياء، والعبور به الى مهالك دهماء، فما جرى على هؤلاء المصلحين يؤكد الحاجة الى مجهود جماعي يدحض غلواء الغالين، ويدرأ جموح المتربصين والمتنطعين داخل المؤسسة الدينية الشيعية. فالتجارب السابقة تؤكد حاجة المصلحين الشيعة الى التمأسس لمواجهة نبال الغلاة داخل المجتمعات الشيعية، فالمجهودات الفردية لم تعد كافية لمواجهة تكتّل صلبٍ يملي إرادته ويفرض سطوته على كل مصلح يخالف ما عليه غلاة الشيعة، وأليس من واجب الراشدين أن يجهروا بمساندتهم لدعوات الاصلاح، حتى لا يعيث الغلاة خراباً في مدرسة أهل البيت عليهم السلام.

إن التشيع ليس إحتكاراً فئوياً حتى يقرر فيه المنتسبون اليه ما يشاؤون، وليس قضية دنيوية حتى يتنازع على امتيازاتها ما يأملون، فالتعامل هنا يدور حول تشيع غرسه أئمة هداة تقاة، وقد عانوا بسبب غلاة عصرهم ما جعلهم يحذّرون مراراً من لحق بهم من دسائس منسوبة اليهم.

وكلمة أخيرة: إن نقد الذات ليس تقويضاً لمذهب رسخت جذوره في التاريخ، وليس تبديداً لتراث الماضين، وإن ما يمليه نقد الذات من دور لا يأول الى إرضاء الآخر، فهذا الآخر له أيضاً دور ينتظره في نقد ذاته ومراجعتها، وإنما هي المسؤولية الدينية بالمعنى التام تدفعنا جميعاً لنفي ما تسرّب الى التشيع، وما حاكه الغلاة من روايات انتحلت مشروعية الصدور عن الائمة. بكلمة أخرى، إن نقد الذات ليس تعريضاً بها بل هو علامة قوة وعزّة، ولا يجب أن يقعد بنا الخوف من استغلال الآخر أو إثارة سخط العامة أو حفيظة بعض العلماء عن الاضطلاع بدور منتظر في نقد الذات وتصحيحها.