توقّف أم تراجع في مسيرة الاصلاح

 

كل شيء يشير هذه الأيام الى أن العائلة المالكة تحمل في جعبتها تصميماً جديداً على إعادة عقارب الساعة الى الوراء، وكأن ما وعد به ولي العهد من اصلاحات بات في عداد المفقودين. ندرك من مصادر عديدة بأن الاصلاح السياسي والمشفوع بوعود متصلة كان مثار جدل وخلاف وسط الطبقة الحاكمة خلال الشهور القليلة الماضية.

 لقد وجدت العائلة المالكة نفسها أمام وضع لم تكن مؤهله للدخول فيه والقبول بمتطلباته.. وقد يكون مجلس العائلة قد حسم في الخفاء ما كان ينوء بحمله في العلن، فما رشح من أنباء عن خلافات بين ولي العهد ووزير الداخلية حيال الطريقة التي تم التعامل بها مع موضوعي الاصلاح والأمن، والتي كانت في جوهرها تدور حول حدود السلطة المرسومة لكل منهما، والصلاحيات المقررة لهما، قد يكون حافزاً لدى أمراء المساعي الحميدة داخل العائلة المالكة للتدخل من أجل احتواء الخلاف وتعزيز التماسك الداخلي.

وفيما يبدو فإن الخلاف قد جرى تطويقه ـ مؤقتاً على الأقل ـ من أجل توحيد الموقف إزاء تنامي المطلب الشعبي الاصلاحي. وهذا ما تكشف عنه ـ جزئياً على الأقل ـ التصريحات المتساوقة عن الأمراء الكبار إزاء موضوع الاصلاح، والتي تشي بتوجّه جديد لدى العائلة المالكة، وهو توجه ينزع نحو كبح جماح الدعوات الاصلاحية داخل البلاد، وإحباط مفعول التيار الاصلاحي الوطني المتنامي بوتيرة متسارعة منذ انطلاقته الجديدة في يناير عام 2003. وبالرغم مما يقال عن أن التصريحات جاءت للرد على ما أعلن عنه الرئيس الأميركي بتقديم الدعم لدعاة الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، فإن هناك ما يفيد بإتفاق داخل العائلة المالكة على توحيد موقفها في هذا الصدد. فإضافة الى تسريبات حول موقف الأمير نايف المناهض للاصلاح، لفظاً ومضموناً، فقد جاء تصريح وزير الخارجية سعود الفيصل في وقت لاحق والذي نشرته جريدة الشرق الأوسط اللندنية في التاسع عشر من فبراير الماضي بأن (لا اصلاح يأتي من الخارج ولا ديمقراطية تفرض بالقوة)، ثم تصريح ولي العهد  الذي نشرته جريدة الحياة في الرابع والعشرين من فبراير بعد إجتماع بوفد برلماني فرنسي قال فيه (كي ينجح الاصلاح يجب أن يكون مقبولاً من غالبية أبناء الشعب)، لتضع الموقف الرسمي في سياق توحيدي ناظم لاجماع متجدد لدى العائلة المالكة..

هذه التصريحات حين توضع في سياق انتقادات وجهها بعض المحسوبين على التيار الاصلاحي بشقيه الليبرالي والسلفي والمقرّبين من الدوائر الرسمية، تنبّه الى أن الدولة تسير على عكس الاتجاه الشعبي الاصلاحي..فقد طابق الكاتب السياسي الدكتور تركي الحمد في تصريحه لاذاعة بي بي سي البريطانية الموقف الرسمي. وكان الحمد قد علّق في الثاني والعشرين من فبراير الماضي على عريضة (معاً في طريق الاصلاح) قائلاً: (إن التوقيت غير مناسب بسبب مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي تطرحه الولايات المتحدة، ويبدو كأنه دعوة للولايات المتحدة للتدخل في السعودية). وهو تصريح أشبه ما يكون برجع الصدى لتصريح الامير سعود الفيصل، الامر الذي يثير سؤالاً عريضاً حول التوقيت المناسب بحسب وجهة نظر الحمد، سيما وأنها ليست العريضة الأولى التي يرفعها التيار الاصلاحي، كما أن المشروع الأميركي للشرق الأوسط ليس الأول من نوعه فقد سبق وأعلن وزير الخارجية الاميركي كولن باول قبل ما يقرب من سنتين عن مشروع الشراكة الشرق أوسطية بما يتضمن تشجيع الديمقراطية، إضافة الى تصريحات أميركية كثيفة حول ضرورة إحداث تغييرات سياسية في عدد من دول المنطقة وعلى رأسها السعودية.

وسواء كان تصريح الحمد مستجيباً مع توجه السلطة السعودية أم غير ذلك، فإن الأخيرة تبدو وكأنها تميل الى التراجع عن مسيرة الاصلاح، بانتظار مجهول قادم، كالمتغيرات السياسية على المستوى الاقليمي أو على الساحة الداخلية الاميركية وتحديداً الانتخابات الرئاسية التي ستجري في شهر نوفمبر من هذا العام، والتي تأمل القيادة السعودية أن يأتي رئيس أميركي جديد يمكن التعامل معه على أسس جديدة، بعيداً عن تبعات الحادي عشر من سبتمبر.

الا أن ما يعنينا هنا أن الحكومة تنقلب حالياً على عقبيها في موضوع الاصلاح، في وقت أشد ما تكون الحاجة فيه للبدء بتنفيذ ما وعدت به مراراً، وإذا حملت تصريحات الأمير عبد الله على محمل التوجه الجديد، فإن الانتخابات البلدية لن تتم لأن مبرر عدم التأهيل الشعبي العام لهذه المرحلة قابل للاستعمال..وهذا المبرر يلتقي مع مبرر آخر سابق لولي العهد حول تطابق الاصلاح مع (الشريعة الاسلامية) الذي يضع الملف الاصلاحي ضمن جدل لفظي وتفسير مفتوح، إذ كيف يتم قياس درجة التأهيل الشعبي لمرحلة الاصلاح؟..فهل ستلجأ الحكومة الى الاقتراع الشعبي الحر المباشر، أم الاستفتاء المفتوح، أم استطلاعات الرأي العام لاختبار قدرة الشعب على استيعاب المطلب الاصلاحي؟، وما هي الشروط الدقيقة لتطابق العملية الاصلاحية بالشريعة الاسلامية؟، ومن يقرر ذلك التطابق؟، هل هم علماء المؤسسة الدينية المعيّنين من قبل السلطة؟، أم هم صفوة منتخبة من الشعب؟. نقول وبوضوح شديد، إن هذه التصريحات بكل تعمياتها ومربكاتها لا تشير الى أكثر من إطالة أمد الجمود السياسي الذي تعيشه البلاد.

إن ما يظهر حتى الآن، أن الحكومة فقدت القدرة على وضع سلّم أولويات واضحة ومحددة لمواجهة تحديّاتها الداخلية ومخاطرها الخارجية..بين أزمة شاملة في الداخل تفرض نفسها على الحكومة كيما تجد لها حلولاً جوهرية، وضغوطات خارجية تدفع بها لامتصاص تأثيراتها، وفي كل الاحوال هناك حل يجب صناعته. إن مأزق الدولة يكمن حالياً في جمودها وليس في حلولها، لأنها لم تأت حتى الآن بحل أو حتى نصف حل، فاطلاق العنان للمجهول كيما يقرر مصير الاوضاع الداخلية يفشي سر تخبّط الدولة ومأزقها، وهذا ما تعكسه تصريحات متضاربة مرتجفة لكبار الأمراء منذ انطلاقة التيار الاصلاحي الوطني في البلاد قبل اكثر من عام، وهي تصريحات في الوقت نفسه مناقضة لوعود سابقة. إن نوعية الاجابات التي يقدّمها الأمراء تفتقر الى قدرة الاقناع في الداخل والخارج، لأن من هم في الداخل يدركون بأن لا خيار أمام الدولة الا اصلاح وضعها بصورة شاملة وجذرية، ومن هم في الخارج يدركون في ضوء تجاربهم بأن إصلاح النظام السياسي لا يتم وفق شروط تعجيزية بل هو نابع من حاجة داخلية من أجل ضمان إستقرار ووحدة الدولة.

في واقع الأمر، أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتطورات اللاحقة قد أحدثت نقلة فجائية ونوعية في مسيرة الدولة، وسرّعت في فتح ملفات الأزمة الداخلية على النحو التالي: انسداد النظام السياسي، الازمة الدستورية، إحتكار السلطة، ضعف التمثيل السياسي والمشاركة الشعبية في الحكم، إنعدام الحريات العامة، غياب مؤسسات المجتمع المدني، البطالة، أزمات التعليم والصحة والخدمات العامة، الدين الداخلي، انتهاك حقوق المرأة، واختلال الامن..ملفات كان على صانع القرار أن يضع حلاً مبكراً لها قبل أن تتراكم وتحتشد، فالتعويل على الزمن في تقديم العون للقيادة السياسية من أجل إغلاق هذه الملفات أو تأجيل فتحها وحسمها لم يكن سوى تعويلاً واهماً، فقد تفجّرت هذه الملفات بصورة دفعية وخطيرة..

كل ما تتذرع به الحكومة من مبررات، بما فيها المذكورة هنا، لا علاقة لها بأصل القضية، أي الاصلاح السياسي، لأنها أمام خيار الضرورة، وإنما هي مبررات تعكس مأزق القيادة السياسية وجمود عملية صناعة القرار في الدولة، وهذا يلمح أيضاً الى عمق الخلافات المحتدمة داخل العائلة المالكة، وإن بدا ظاهراً توافقها التام..

الآن، ماذا يمكن أن تسفر عنه سلسلة الانتظارات المتكررة غير أن مزيداً من ملفات الأزمات ستنضاف الى القائمة، وتالياً مزيد من المسؤولية والضغط على الطبقة الحاكمة. نعم هناك حلول ترقيعية على طريقة السعودة الباعثة على السخرية والتهكم، كسعودة أسواق الخضار، وسيارات الأجرة (الليموزين)، وأسواق الذهب، دون سعودة العمالة في الشركات الكبيرة والمحتكرة من قبل الأمراء الكبار أو اللائذين بهم، فيما تبقى الملفات الكبرى مغلقة ومهملة كالمشار اليها سلفاً، دع عنك تعليمات ولي العهد للادارات الحكومية بسرعة إنجاز معاملات واحتياجات المواطنين، والشفافية والمحاسبة، وتعليمات عديدة ذهبت مع الريح..

وحين نرقب الجمود متنزّلاً من القمة الى القاعدة، فإن ذلك يعني عطباً متحدراً من مركز القيادة الى الاجهزة الادارية، فحين يشيع الفساد في الطبقة الحاكمة لا يمكن تحييد تأثيراته عن باقي أذرعة الدولة ومؤسساتها المتوسطة والصغيرة..وحين يصيب المرض رأس السلطة فإن تفشيه في كامل جسد الدولة يصبح نتيجة منطقية متوقّعة، فليس هناك ما يعصم المراتب الدنيا عن الخطأ طالما أن العليا منها قد بلغت من الفساد حداً مفضوحاً..