التعايش على أساس العفو عما سلف

 

فرضت التطورات السياسية الداخلية والاقليمية واقعاً جديداً وظروفاً مختلفة بما تملي تبدّلات جوهرية في طبيعة العلاقة بين الفئات الاجتماعية والسياسية. إن الاختلالات الكبيرة والحادة التي شهدتها المنطقة منذ الحادي عشر من سبتمبر وتالياً الاطاحة العسكرية بالنظام العراقي قد رسمت مصيراً ومساراً جديداً لمنطقة الشرق الأوسط، ولا ريب أن متطلبات هذه التحولات المتسارعة تتصل بأوضاع كل دولة بصورة منفردة. إذ لم يعد بإمكان أي دولة المضي في سياساتها القديمة التي هي في الاصل مصممة في ووفق ظروف داخلية واقليمية ودولية مختلفة.

وما يقال عن الدول ينسحب على المجتمعات، فالانساق الاجتماعية التي هي في الاصل معدّة ومتوازية مع الانساق السياسية لابد أن تتبدّل تبعاً للتبدّلات التي تشهدها الاخيرة. والحال، أن تبدّل النسق السياسي بما هو حاصل جمع تبدّلات اقتصادية وأمنية واقليمية ودولية لابد أن يحدث بصورة تلقائية تبدّلات في شبكة العلاقات الاجتماعية والتراتبية النمطية المستمدة بقاءً واستمراراً من فعالية وقوة النسق السياسي.

إن ما نود الفات الانتباه اليه هنا هو ليس التبدّل الحاصل في العلاقة بين الدولة والمجتمع، فذاك متحقق بالضرورة مع انهيار النسق السياسي القديم، وهو ما تدركه الدولة بوصفها ظاهرة عقلانية، ولكن الكلام يدور تحديداً حول علاقة المجتمع مع ذاته، أي بين فئاته وطوائفه، وهي علاقة لا تقوم أحياناً كثيرة سوى على المفرزات المباشرة والمعلنة لتحولات سياسية قريبة، بحيث تنتج ردود أفعال انفعالية وليدة أوضاع خاصة تعيشها الفئات الاجتماعية وتترجم نفسها في مواقف وتعبيرات متفاوتة.

هذه المقدمة تستدرجنا بالضرورة الى الحديث عن التعايش بين الفئات الاجتماعية في ظل تحوّلات سياسية داخلية واقليمية، خصوصاً حين يكون لهذه التحوّلات تداعيات مباشرة أو غير مباشرة سلبية أو ايجابية على وضعية هذه الفئة أو تلك، بحيث تنعكس في حاصلها النهائي على نظرات ومواقف وعلاقة كل فئة بنظيرتها.

لاشك أن عواقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وهكذا احتلال العراق كانت وخيمة على بلدان وشعوب الشرق الأوسط جميعاً، فقد منحت الولايات المتحدة وحلفاءها عذراً مفتوحاً لتغيير خارطة العالم، وصياغة الانظمة السياسية وثقافات الشعوب بحسب الشروط والمواصفات الاميركية. فقد وجد العملاق النائم في سقوط البرجين ذريعة ذهبية لتحقيق مآرب ما كان يجرؤ ـ أو يجد المبرر الكافي ـ على تحقيقها في أزمان سابقة وتحت ذرائع أخرى، وقد أجاز لنفسه حرية التصرف في املاء قوانين النظام الدولي، بمعزل عن الهيئات الدولية، وليس مشروع الشرق الاوسط الكبير الذي يضم المساحة الممتدة من باكستان الى المغرب سوى إحدى المشاريع الاستعمارية المحمولة على عربة أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

هذا كان على مستوى الضرر الكلي والعام، أما على مستوى الدول والمجتمعات بصورة منفردة فهناك قائمة أخرى من العواقب تتفاوت من حيث درجة الخسارة وفي المقابل درجة الربح، وقد يتغلب الضرر الكلي والعام لدى فئة ما على الخسارة الخاصة بها. فهناك من الفئات المقهورة من قبل أنظمة حكمت فيها بغير العدل، عبّرت عن ابتهاجها للتحولات السياسية التي شهدتها بلدانها، لأن في ذلك إنفراجاً لأوضاع عصيبة عاشتها طويلاً تحت ظل حكومات قمعية. في المقابل، قد تجد فئات أخرى مقرّبة ومستفيدة نفسها خاسرة من أي تبدّلات جزئية أو كلية تطال الانظمة التي طالما أمدّتها بمصادر القوة والانتشار.

وقد يكون المثال العراقي شديد الوضوح حيث كان سقوط النظام البعثي لصالح الفئات المضطهدة كالشيعة والأكراد، وليس بالضرورة تصديقاً بما جاءت به قوات التحالف، وقد تعرّضنا لذلك في إفتتاحية العدد الماضي، الا أن الحديث سينصب هنا على السعودية، كونها تشهد خضّات داخلية متواصلة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتزايدت وتيرتها بعد سقوط النظام العراقي الذي كان يمثّل في فترة سابقة ركناً أساسياً في المعادلة الاقليمية، بالرغم من المخاطر التي كان يحملها للدول المجاورة.

لا شك أن أحداث نيويورك وواشنطن قلبت ظهر المجن لفئات عديدة، أما بالنسبة للفئات الدينية السلفية كما الدولة فكان العقاب شديد القسوة، حيث جرى في غضون شهور قليلة تقويض المشروع الديني السلفي الذي رعته الحكومة السعودية وأمدّته بالمال والرجال طيلة ما يربو على عقدين من الزمن، كما نقلت الادارة الاميركية المعركة الى مركز النشأة من أجل استئصال جذور المشروع السلفي، ومورست ضغوطات شديدة على الحكومة السعودية في تحمّل مسؤولية اقتلاع التطرف الديني في مناهج التعليم، والقضاء، والاعلام، والمساجد، وخطب الجمعة، والمؤسسات الخيرية، والهيئات الارشادية والدعوية.. فقد كانت حمّلة منظّمة شاركت فيها الدولة بضغط من الادارة الاميركية، ومازالت الحملة متواصلة حتى الآن.

إن نتائج هذه الحملة كانت دون ريب كارثية على المؤسسة الدينية وللتيار السلفي بصورة عامة، فقد شهد العالم إنهيار أكبر امبراطورية دينية أنفقت على بنائها مليارات الريالات، وشارك فيها عدة آلاف من الدعاة والمرشدين والمتطوعين لفعل الخير الذين كانوا يجوبون قارات العالم من أجل نشر الدعوة السلفية..وهي على كل حال خسارة بكل المقاييس. أما بالنسبة للفئات الأخرى فقد تكون مواقفها مختلفة إزاء الضربات التي تلقاها التيار الديني السلفي، إذ هناك من الفئات عانت من تشدد هذا التيار ومنهجه الاقصائي في التعامل مع الآخر، سواء كان على خلفية مذهبية كالشيعة والصوفية أو ايديولوجية كالليبراليين والعلمانيين. فقد التزم التيار الديني السلفي بمواقف متصلبة ازاء هذه الفئات، واستعمل في محاربتها أقصى وأقسى أنواع الاسلحة الدينية فكان يوصمها بالكفر والشرك والضلالة، الامر الذي جعل هذه الفئات ـ في رد فعل على الهجمة السلفية ـ تمقت هيمنته ومنهجه الاحادي في النظرة للآخر، وقد ينزع بها سوء حالها من تعامله الى حد تمني زواله.

لقد ساعد إنحسار التيار الديني السلفي على انكماش سلطته على الشارع وعلى الدولة، كما فرضت الظروف السياسة الجديدة على الأخيرة امتصاص التوترات الكامنة داخل الفئات المغيّبة والمتضررة، في محاولة لتحقيق توازن داخلي وتعويض نفسي لدى تلك الفئات. وقد نتج عن ذلك اجواء انفتاح فكري ساعدت على صهر الاطارات العازلة للفئات الدينية والسياسية الاخرى، ووضع حداً للطوق الرسمي والديني المفروض على نشاطها  في فترات سابقة. ولربما منحت الظروف الجديدة لمتضرري الأمس أن يبوحوا بالنقد العلني واللاذع للفئة التي حرمتهم من التعبير الحر عن متبنياتهم العقدية والايديولوجية والسياسية.

الا أن ما يلزم التنبيه عليه في ظل انفلات المشاعر في هذه الظروف الخطيرة والحساسة التي تشهدها المنطقة بصورة عامة والبلاد بوجه خاص، أن ثمة مسؤولية مشتركة تنتظر الجميع وتملي عليهم الاضطلاع بدور ما  في سبيل العمل على إشاعة مناخ جديد من التسامح وإرساء أسس مختلفة للتعايش، إذ أن التشدد لا ينجب الا تشدداً مماثلاً، والانتقام لا يولّد الا انتقاماً موازياً. وفي ظل وطن يحتضن تنوعاً في المعتقدات والتوجهات الفكرية والسياسية يصبح التعايش خياراً استراتيجياً، فالاوضاع السابقة لم تكن صحيحة حتى يعاد إنتاجها عن طريق افتئات فئة جديدة على فئة أخرى قديمة، لأننا بهذه الطريقة نؤسس لذات الاوضاع الخاطئة ونسمح بهيمنة الواحدية مجدداً في فضائنا الديني والفكري.

لا يجب أن تنحو الفئات المتضررة منحى الشامتين، ولا يصح أن تجنح الشماتة بانكسار التيار الديني السلفي الى حد النيل من معتقداته ورموزه لأن في ذلك تعدّياً على حقه في اعتناق ما يراه صواباً، فإن مقابلته بعقاب مماثل يفتح الباب أمام تصفية الحسابات التي قد تصل الى إهراق الدم، وفي ذلك انجرار الى المنزلق الخطير.

في المقابل، إن تجربة الماضي كانت كافية لأن يدرك الجميع وفي المقدمة من نزعوا فيما سبق الى مصادرة الرأي الآخر وإدعاء احتكار الحقيقة الدينية، بأن المصادرة لا تلغي حقيقة التنوّع ولا تفضي الى إزالة الاختلاف، وها هو الدرس الأول والأخير يتكرر بأن لا سبيل الا التعايش السلمي والاقرار بحق الآخر في اعتناق ما يراه صحيحاً. فما كان يصيب المتضررين بالأمس من حيف وظلم على يد التيار الديني السلفي قد طاله وظهرت آثارها الوخيمة، وفي ذلك تنبيه مدوّي بأن الغاء الآخر لا يجلب الا الشقوة والخسارة عليه وعلى من يليه.

لقد حان الوقت، وبعد أن خضع الجميع تحت تأثيرات ضرر الواحدية المذهبية والسياسية، لأن تطوى صفحة الأمس وأن يبنى لغدٍ جديد، يقوم على أساس الاحترام المتبادل، والاقرار بالتعددية المذهبية والفكرية، والاعتراف بحق الاختلاف، وذلك لا يتم ما لم يعد تقويم المواقف السابقة والنظرات القبلية من الآخر، وهذا يتطلب مراجعة نقدية لكل كتابات وفتاوى ونشريات جرى الترويج لها في مرحلة سابقة وأريد منها أن تكون مواد تحريض في وسط الانصار.

ففي خلال العقدين الماضيين صدرت مجموعة فتاوى تكفيرية ضد رموز دينيين في البلاد، في الحجاز ونجران والاحساء والقطيف وغيرها، وقد أسست هذه الفتاوى للقطيعة بين أتباع المذاهب وزرعت الكراهية في وسط قطاع كبير من أبناء هذا البلد، وكنا نأمل من أصحاب هذه الفتاوى سحبها واعلان التراجع عنها، لأنها قامت على أسس خاطئة في فهم الآخر ومعتقداته. إن توفير ظروف موائمة للتعايش المذهبي تتطلب ازالة مصادر الخصومة السابقة ومنها فتاوى التكفير والكتابات التشهيرية، إذ لا يمكن أن يلتقي المختلفون ومازالت أسباب القطيعة حاضرة وقائمة..وكنا نأمل ان تسهم المؤسسة الدينية في لعب دور مركزي في امتصاص التوترات المذهبية القديمة من خلال تصفية سجلاتها الافتائية، ودورياتها الارشادية التي تضمنت تشنيعاً على بعض المذاهب الاسلامية كالشيعة الامامية والشيعة الاسماعيلية والصوفية وغيرها.

في المقابل إن هناك مسؤولية دينية ووطنية ملقاة على كاهل أتباع هذه المذاهب في النأي عن كل ما يمس معتقدات أتباع المذهب الحنبلي، أو النيل من رموزه، تحت أية ذريعة أو عن طريق استغلال الظروف التي تعيشها البلاد..فليس من العدل أن يبادل الظلم بظلم آخر، فذلك ليس من اخلاقيات الاسلام وقيمه النبيلة. وليكن العفو والاعراض عن الجهل أولى من اللجوء الى ما يثير الفتنة ويؤجج أوارها، حتى وإن تطلب تنازلات متبادلة بين الاطراف المذهبية جميعاً من أجل تجنيب العباد والبلاد فتنة، ندرك يقيناً بأن هناك من ينبري لاثارتها وينذر نفسه وربما ماله من أجل جمع الحطب لاشعال جذوتها.

إن ما يستحثنا للدفع بإتجاه خيار التعايش هو ما نلحظه من انزلاق البعض للترويج لحرب طائفية قادمة في العراق، والتي تساهم في الاعداد لها بيانات مشبوهة ومقالات صحف غير مسؤولة وبعض المحطات الفضائية المغرضة، بحجة التباكي على المصير الذي لقيه نظام البعث في العراق، لتجعل من قضية السنة والشيعة مدخلاً لاثارة البلبلة والفوضى بين الشعب العراقي، والذي نعلم بأن النظام العراقي البائد لم يكن في يوم ما ممثلاً للسنة، بل كان نكالاً على السني والشيعي والكردي والتركماني، وإن تفاوتت درجات حيفه وبطشه. ومن المؤسف أن يتحفز البعض داخل المملكة لهذه الدعوة النتنه المشبوهة، دون حساب للنتائج الكارثية لمثل هذه الدعوات الطائشة والتي تفتح الباب للتدخلات الاجنبية.

ونقول كلمة لكل من يغشيه نداء الطائفية أن هناك أصابع مشبوهة تعمل جاهدة على إثارة النعرات القديمة، وإقحام الجميع في معارك جانبية لا يخرج منها منتصرواحد، وإنما سيجر كل الخائضين فيها أذيال الخيبة والهزيمة.  

(التحرير)