هيكل ينتقد السعودية لاعتقالها دعاة الديمقراطية

الطيب محارب قديم في كتيبة الحرية!

 عبر الكاتب العربي الكبير محمد حسنين هيكل عن أسفه لقيام السلطات السعودية باعتقال عدد من المثقفين السعوديين المطالبين بالاصلاح. وقال هيكل في أول تصريحات بعد بلوغه سن الثمانين و قراره باعتزال الكتابه لصحيفة الاسبوع المصرية لقد استغربت مرتين لخبر اعتقال المفكر السعودي البارز محمد سعيد الطيب ومجموعة من رفاقه، بدعوى انهم كانوا يحضرون لرفع عريضة الي ولي العهد السعودي الامير عبد الله بن عبد العزيز. السبب الاول للاستغراب ان محمد سعيد الطيب كما عرفته وطني وقومي واضح الفكر، ملتزم في تصرفه بالشرعية والمعقولية معا. والداعي الثاني الي الاستغراب ان مثل ذلك التصرف يتناقض مع كثير مما سمعته بنفسي من الامير عبد الله عندما تفضل قبل سنتين ودعاني الي فنجان قهوة في فندق كلاريدج في لندن لحديث تواصل قرابة ثلاث ساعات، فقد بدا لي ولي العهد رجلا لديه نية الاصلاح السياسي في بلد طال انتظاره، وتعطل بادعاء الخصوصية الدينية، حتي كاد صبر الناس ينفد.

من الصعب قبول ان التعامل مع الافكار يجيء باعتقال اصحابها، ثم يكون رد ذلك الى ادعاء مقاومة ضغوط امريكية تتزايد، ورغم انني مع كثيرين اتحفظ بشدة علي مقولات الاصلاح الامريكي، الا انني استغرب بعض ما اري واسمع، لان طلب الاصلاح الامريكي المزعوم للمجتمعات العربية ليس اول ما يقدم الى عدد من النظم العربية، ثم يكون جوابه السمع والطاعة. طلبوا منها قبلها ان تتصالح مع اسرائيل ـ وتصالحت فرادي وجماعات، علنا وسرا. وطلبوا منها ان تقاتل في حرب مقدسة ضد الالحاد والكفر الشيوعي في افغانستان ـ وحاربت! وطلبوا منها تحريض العراق على الثورة الاسلامية في ايران تنفيذا لسياستهم في ـ الاحتواء المزدوج للبلدين ـ وحرضت! وطلبوا منها ان تتصرف في عالم الدول ـ كل بلد ونفسه ـ وتصرفت! وطلبوا منها خصخصة المنشآت الاقتصادية الكبري ـ وخصخصتها! وطلبوا منها ان ترفع الدعم الاجتماعي على السلع الضرورية لكل مواطن عربي اطبقت عليه الازمات ـ ورفعت! وطلبوا منها ان تتوقف عن السعي لحل عربي لكارثة غزو العراق للكويت سنة 1990 ـ وتوقفت! وطلبوا منها ان تدخل معهم لحصار ليبيا ـ ودخلت! وطلبوا منها تجميد العمل العربي المشترك متمثلا في جامعة الدول العربية ـ وجمدت! وطلبوا منها ان تفتح القواعد والتسهيلات العربية علي اراضيها لغزو العراق بهدف اسقاط النظام في بغداد ـ وفتحت! ومشت الجيوش الاجنبية غازية ـ من ارض عربية الي ارض عربية بدون قانون، وبدون موافقة من مجتمع دولي.

لكنهم حين جاءوا يطلبون من النظم العربية ـ التي لم يعد لديها ما تعطيه لاحد ـ تغييرا في اوضاع السلطة السياسية في بلدانها، مع اتاحة فرصة اوسع لمشاركة ديمقراطية اشمل، تذكرت النظم فجأة ان هناك كلمة في قاموس اللغة العربية اسمها المستحيل، اي ان كل شيء كان مقبولا على العين والرأس الا عندما وصل الطلب الي ما يمس فردية او وحدانية او عائلية السلطة السياسية في كل بلد عربي، وهنا فقط وقع الرفض، وكانت طريقة الرفض بالغة الغرابة لانها بدت ـ لغة واسلوبا وتعبيرا ـ وكأنها رفض لمستقبل تزعم هذه النظم انه شاغلها!

واعتقادي ان الولايات المتحدة غير جادة فيما تطلبه منا في شؤون الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وازعم ان الولايات المتحدة الامريكية وقفت ضد حق شعوبنا في هذه القيم دائما، وساندت مظالم سياسية واجتماعية وانسانية فاضحة واحيانا فرضتها، واذا كان بيننا من يريد ان يقول: اننا مع الاصلاح لاننا من الاصل اصحاب الدعوة اليه، فمن الغريب ان يكون بين اساليب ردنا على مشروعات امريكية مغرضة هو اعتقال المنادين بالاصلاح دون غرض مثل محمد سعيد الطيب وغيره من المفكرين واساتذة الجامعات للتحقيق معهم امنيا بوصفهم ـ على حد تعبير البيان الرسمي السعودي ـ اشخاصا جرى توقيفهم لانهم وقعوا بيانات لا تخدم وحدة الوطن وهو تعبير اكثر غرابة!! ومن سوء الحظ انه ليس لدينا جميعا هذه اللحظة غير ان نتوجه الي الامير عبد الله برجاء اعادة النظر في اجراءات الاعتقال والتحقيق، لان هناك وسائل اخرى لمناقشة او لمحاسبة الولايات المتحدة على دعوتها المعبأة بالظنون والذنوب، الا ان ذلك لا يتأتى باعتقال المنادين بالاصلاح من الوطنيين، وبالتحقيق معهم في افكارهم، خصوصا ان هذه الافكار ومسؤوليتها ليست مستجدة عليهم او طارئة، فلأربع سنوات من نهاية الستينيات حتى اوائل السبعينيات كان محمد سعيد الطيب رهن الاعتقال بسبب افكاره، اي انه محارب قديم في كتيبة الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان، وليس مثل آخرين غيره ـ في طاعة واشنطن وتحت امرها ـ الا عندما تصل المطالب الامريكية الي ابواب القصور وقرب مقاعد الحكم، ثم يكتشف البعض انهم عزلوا انفسهم قبل ان تحاصرهم القوة الطاغية للحليف والغالبة للصديق والحليف السابق، وتضغط عليهم، لتأخذ منهم ما بقي وهو ليس كثيرا ولا كبيرا!.