أخطاء التيار الاصلاحي أم حكومة غير مأمونة

 محمد الهويمل

 

ليس هناك من يتردد في إدانة الاعتقال التعسفي الذي أقدمت عليه وزارة الداخلية بحق مجموعة من رجال الاصلاح، مع استثناء بعض الاقلام الضعيفة المحسوبة على الجهاز الدعائي للسلطة.. وليس هناك أيضاً من يزايد على وطنية ونزاهة من إقتادهم رجال المباحث الى سجن عليشه في السادس عشر من مارس الماضي، بإستثناء الغريم الوحيد، اي السلطة التي رأت فيهم غير ذلك لغاية في نفسها. وبكلمة اخرى، فإن الاعتقالات التي جرت في السادس عشر من مارس الماضي يعد عملاً غير قانوني وتعسفي وانتهاك صارخ لحقوق الانسان وحرية التعبير.

إن ما سنحاول في هذه المساحة النقاش حوله هو قراءة الفعل الاصلاحي منذ يناير 2003 وحتى لحظة اعتقال رموز التيار الاصلاحي، بغرض الاجابة على السؤال التالي: هل أصاب أم أخطأ التيار الاصلاحي في تجربة النضال السلمي على جبهة الاصلاح السياسي؟

للاجابة عن السؤال يجدر بنا استكشاف ملامح تجربة العمل الاصلاحي منذ بدايتهاا قبل أكثر من عام، كونها تختزن بداخلها الكثير من الدلالات. فمنذ اللقاءات الاولى لممثلين عن الطيف السياسي الوطني في البلاد، كان ثمة توافق ضمني بينهم على تصوّرات عامة حول طبيعة الازمة الشاملة التي تشهدها الدولة وخيارات الحل الأمثل للخروج منها. وكان الاحساس المشترك لدى مجموعات سياسية متنوعة التوجهات الايديولوجية والاجتماعية نابعاً بدرجة أساسية من فهم عميق لمسيرة التدهور في الاوضاع الاقتصادية والسياسية والامنية، وهو الدافع الرئيسي وراء التقاء مجموعة من دعاة الاصلاح من مختلف المناطق والتيارات الفكرية والسياسية على أرضية مشتركة لغرض الدفع بإتجاه الاصلاح الشامل والفوري. وكان لدى جميع أفراد المجموعة الاصلاحية قناعة تامة بأن تعميم الاحساس المشترك بالخطر من إنعكاسات الازمة الشاملة ضروري لفعل التدافع الجماعي نحو الاصلاح والنهوض الشامل لوقف مسيرة التدهور في الاوضاع الداخلية. وهي ذات القناعة التي جعلت تحركات دعاة الاصلاح ذات ملامح محددة يمكن تسليط الضوء عليها على النحو التالي:

ـ العلنية المفرطة: وكانت هذه من أبرز ملامح العمل الاصلاحي الداخلي، فقد توسّل دعاة الاصلاح بالشفافية التامة في مجمل نشاطهم الاصلاحي، ولم تكن السلطات الامنية بحاجة الى بذل مزيد من الجهد من أجل مراقبة تحركات دعاة الاصلاح ومعرفة تفاصيل ما يجري في اللقاءات التي كانوا يعقدونها، ويدلّ على ذلك تسرّب كثير من المعلومات من داخل اللقاءات الى بعض المواقع الصحفية ومنتديات الانترنت، بل نجح بعضهم في افشاء سر بعض العرائض قبل وصولها الى القيادة السياسية في البلاد، كما حصل بالنسبة لعريضة (الاصلاح الدستوري أولاً) واللقاء الذي عقد في فندق الفهد كروان بالرياض، حيث نقلت مواقع اعلامية على الشبكة تفاصيل دقيقة حول النقاشات الدائرة داخل اللقاء.

قد يقال بأن طبيعة التيار الاصلاحي بما يضم بداخله من قوى سياسية متنوعة تجعل من العمل السري أمراً متعذّراً، وبالتالي فإن ما يتسرّب من معلومات ناشئ عن قصور ذاتي في التيار الاصلاحي وليس قراراً إرادياً. وقد يرد على ذلك ببساطة، أن العمل السري لو أريد له أن يكون خياراً لدى التيار الاصلاحي لأمكن اللجوء اليه بخاصة في وقت انشغال الدولة بمواجهة جماعات العنف، فقد كانت البؤرة النشطة في التيار الاصلاحي قادرة على ضبط ايقاعها على المسرح السياسي المفتوح بطريقة تجعل من اكتشاف تحركها صعباً، فأفراد التيار هم من ذوي تجارب حزبية وبينهم من لديه خبرة طويلة في العمل السري.

نعم قد يعاب على التيار الاصلاحي أنه أفرط في علانيته الى حد كشف نقاط الضعف والخلافات الحاصلة خلال الاجتماعات وهو ما مكّن الاجهزة الأمنية من استغلالها بطريقة ابتزازية كما حصل في اللقاء الذي جمع الامير نايف مع عدد من الموقّعين على عريضة (الاصلاح الدستوري أولاً). يبقى القول بأن ردود فعل سلبية ستنجم عن طريقة تعاطي السلطة مع علنية التيار الاصلاحي، ولعل أهم رد فعل هو أن السلطة لا تفرّق بين من يصرّح برأيه بطريقة واضحة ومكشوفة وسلمية وبين من يلوذ بوسائل سرية للتعبير عن موقفه وتحقيق أهدافه.. وهي بذلك تدفع كثيرين الى تبني أسلوب سري في العمل السياسي حين تكون أضرار العلنية أشد من السرية، وحين يكون الافصاح عن الرأي أخطر من توزيع المنشورات السرية على نطاق واسع. 

ـ توحّد الوسيلة: تمسّك التيار الاصلاحي بكافة أطيافه بوسيلة العرائض باعتبارها خياراً استراتيجياً وحيداً في التجاذب بينه وبين السلطة، أملاً في أن تحقق العرائض ما تأمله الغالبية العظمى من الشعب.. فكانت العرائض وسيلة للتعبير الاقصى عن المطلب الاصلاحي، ولربما أوحى رد الفعل الأولي ـ والايجابي في ظاهره ـ لدى القيادة السياسية الممثلة في ولي العهد الأمير عبد الله بأن (العريضة) وسيلة الدفع الوحيدة والنهائية لعجلة الاصلاح، وهذا ما شجّع التيار الاصلاحي على التمسك بخيار رفع العرائض حتى اللحظات الأخيرة، أي حتى لحظة إيقاف دينامو التيار الاصلاحي باعتقال رجال الاصلاح. وسيلة العرائض كانت ضرورية لتوحيد صف التيار الاصلاحي وتجميعه في نشاط مشترك، ويعبّر عن وجهات نظرهم واجماعهم على المطلب الاصلاحي، ولكن الاصرار على استعمال العريضة كخيار نهائي قد قلّص مساحة المناورة الى أقصى حدودها، بخاصة حين تكون الاستجابة من جانب القيادة السياسية سلبيّة كما هو الحال حتى الآن. وباستثناء الظهور المتقطع في وسائل الاعلام الخارجية، برغم القيود الصارمة التي تفرضها بعض القنوات الفضائية على ظهور شخصيات إصلاحية، وهكذا الاتصالات التي يجريها مسؤولو الجهاز الأمني مع هذه الشخصيات لابلاغها رسائل تحذير من الظهور في الوسائل الاعلامية الخارجية، فإن (العرائض) ظلت قناة التواصل والتجاذب بين التيار الاصلاحي والسلطة، الأمر الذي مكّن الاخيرة من احباط مفعولها واخماد تأثيرها باعتقال الفئة الفاعلة في التيار الاصلاحي، كونها تقف وراء كتابة العرائض ومتابعة انتشار وتحصيل التوقيعات عليها.

ـ الجمهور الغائب: ظل النشاط الاصلاحي منذ انطلاقته في يناير من العام الماضي محصوراً بصورة شبه كاملة في نطاق النخبة المثقفة والسياسية. وكان العزم منعقداًً لدى أغلب أفراد النخبة على استثناء الجمهور في هذه المرحلة ـ على الاقل ـ من الدخول الى معترك العملية الاصلاحية، وذلك لسببين أساسيين: الأول أن النخبة كغيرها من النخب السياسية والفكرية في الوطن العربي ظلت معزولة عزلة طوعية في أحيان كثيرة، بفعل انعدام لغة التخاطب من جهة، وغياب القنوات الحرة التي تسمح بتواصل النخبة بالجمهور ثانياً، وانعدام الحياة الحزبية ومؤسسات المجتمع المدني التي من شأنها اشراك الجمهور في الهموم العامة والتطلعات المشتركة بينهما ثالثاً، ورابعاً غياب المشروع السياسي والفكري لدى النخبة. والسبب الآخر: أن النخبة الاصلاحية كانت ترى نفسها أقدر على ادارة عملية التجاذب مع السلطة دون حاجة للاستعانة بالجمهور، ولربما يضاف الى ذلك رغبة النخبة في توفير تطمينات كافية لدى أهل الحكم وعدم إثارة الذعر في نفوسه من خلال الاستقواء بالجمهور في عملية قد تفلت عن نطاق السيطرة، أو قد يكون التيار الاصلاحي على غير قناعة بأن الجمهور مؤهل بصورة كافية للدخول في المعترك السياسي الداخلي.

وعلى أية حال، شعر التيار الاصلاحي بالعجز حيال المظاهرات التي جرت في الرياض وبعض أجزاء من المنطقة الوسطى والشمالية، حيث بدا وكأن التيار الاصلاحي فقد ما يعتقده السلاح الأمضى في الساحة السياسية الداخلية، أي العرائض، وقد نبّهت المظاهرات تلك الى أن الجمهور بات جاهزاً للعب دور في التغيير السياسي. وقد تكون عريضتا (الى القيادة والشعب) و (من أجل الوطن) محاولة استدراكية متأخرة لاشراك الجمهور في عملية الدفع نحو الاصلاح السياسي.

وبرغم ذلك، فقد بقي دور الجمهور في النشاط الاصلاحي محدوداً للغاية إن لم يكن غائباً، مما أفقد التيار الاصلاحي السند الشعبي الفعلي، في وقت كان بالامكان توظيفه في مثل حادث الاعتقالات، وبنفس القدر فإن غياب الغطاء الشعبي وفّر للسلطة فرصة تطويق التيار دون حساب للعواقب المترتبة على اعتقال رجال الاصلاح.

ـ الدور الخارجي: بالرغم من الحساسية المفرطة التي يفرضها الكلام عن دور خارجي لتيار اصلاحي يرى بأن الداخل خياره الاستراتيجي، لكونه يمثل ساحة العمل الفعلي والواقعي للتغيير، اضافة الى ما يترجمه من نزاهة للذات قبالة الاتهامات الافتراضية التي تلجأ اليها الانظمة الديكتاتورية في التعامل مع خصومها الداخليين، أقول بالرغم من ذلك فإن التيار الاصلاحي كان بحاجة الى وجه خارجي ورسالة واضحة للعالم.

 كان من الضروري أن يخرج ممثلون عن التيار الاصلاحي لشرح وجهة نظرهم في الاصلاح السياسي المقترح للحكومات الغربية والمنظمات الدولية المضطلعة بمراقبة أوضاع الشرق الاوسط والتي تلعب دوراً فاعلاً في التأثير على سياسات الدول الغربية. ونشير هنا الى أن العائلة المالكة قد أفادت كثيراً في حملة علاقات عامة واسعة النطاق في أوروبا والولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أجل تحسين صورتها في الخارج، وقد تضمنت حملة علاقاتها تشويهاً للقوى السياسية الوطنية والدينية المعتدلة، فقد نقلت رسالة الى الغرب بأن البديل القادم سيكون خصماً لدوداً للغرب وسيؤدي وصوله للسلطة الى ضرب المصالح الاستراتيجية للغرب في المنطقة، يؤكد ذلك صدور بيانات من المثقفين السعوديين تستنكر التدخل الاجنبي في الشأن الداخلي لبلدهم. وكانت البيانات تلك تصل الى مسؤولين في الحكومات الغربية وفي بعض الاحيان تقوم الحكومة السعودية بإيصال هذه البيانات من أجل ثني تلك الحكومات عن دعم التوجهات الاصلاحية في الداخل. 

ـ الالتحام بين الدعوة الى الوطن المشترك والدعوة المبطّنة للاصطفاف خلف العائلة المالكة: منذ صدور العريضة الاولى كان التيار الاصلاحي أول من حمل لواء الوطن المشترك مشفوعاً بدعوة مبطّنة للاصطفاف خلف العائلة المالكة في مواجهة التحديات الداخلية وبخاصة ظاهرتي العنف والدعوات الانفصالية. إن ظاهر الدعوة الى وطن للجميع تبدو في غاية الاهمية في وقت تشهد المنطقة أحاديث عن اعادة رسم لخارطة الشرق الأوسط بما تشتمل على ازالة أو ضم بعض الدول، ولكن في الوقت نفسه حققت هذه الدعوة اصطفافاً مجانياً وغير مشروط للعائلة المالكة، وجعلها في مأمن من تقديم أي التزام مقابل هذا الموقف الوطني. لقد كثر الكلام عن (الوحدة الوطنية) والتمسك بالقيادة السياسية لهذا البلد لدرجة جرى معه إهمال متطلبات الحفاظ على الوحدة الوطنية والولاء للقيادة السياسية، أي تحقيق العدل والمساواة والشراكة الشعبية والتمثيل المتكافىء في الجهاز الاداري للدولة وتحقيق الاندماج السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إن الموازنة الدقيقة بين الطرح الوطني كواجب والتزام سياسي واخلاقي وايديولوجي كانت تتطلب شرطاً مقابلاً يتوقف عليه موقف العائلة المالكة . 

ـ الافراط في نبذ جماعات العنف وتبرئة ساحة مصادر تغذيتها والمسؤول عنها وبخاصة العائلة المالكة.. وبصراحة فقد تحوّل التيار الاصلاحي الى أحد الاسلحة التي حاربت بها العائلة المالكة ضد جماعات العنف، ولكن حين خلصت من مهمتها في تصفية الجزء الأكبر من مشكلة العنف، قررت ودون تردد ضرب التيار الاصلاحي، ولربما لم يتنبّه الاخير الى هذه الغيلة المبيّتة رغم التجارب السابقة المماثلة.