ماذا بعد الإعتقالات وخنق التطلعات السلمية نحو التغيير

الإصـلاح الـراديـكـالـي

 مرتضى السيد

 هل هناك رؤية مستقبلية واضحة تنظّر لما بعد الإعتقالات، وقمع الحريات، وانكفاء المجتمع على نفسه، وتحفّز الفئوية المذهبيّة للعودة الى مواقعها الأثيرة لدى السلطة، كما كانت في الماضي؟ المقالة تتساءل: المملكة الى أين بعد هذا؟ هل تستطيع الحرب على الإرهاب كما على الإصلاح في آن واحد؟

 الإعتقالات اتخذت كخطوة استراتيجية، هدفها في المدى القريب: خنق (التطلعات) الشعبية نحو الحريات المدنية والسياسية. وفي هذا الأمر قد تنجح العائلة المالكة في مرادها. ولكن السؤال: ماذا بعد الخنق المستهدف؟ هل يمكن ضمان استمراره في المستقبل البعيد؟ هل يمكن (للخانق) أن يضمن تحصيناً حقيقياً للسلطة من التناوش والصراع؟ هل هناك رؤية لدى الأمراء ـ على الأقل في سبيل ديمومة عملية الخنق ـ تهتم بتوفير المناخ المناسب للعملية، والحدّ الأقصى لها من النجاح؟

يبدو من واقع ما جرى من اعتقالات، ان نصراً تكتيكياً قد تحقق حتى الآن لطاقم الإستبداد. فهناك إصرار على الفوز بالمعركة الأولى من الحرب. إصرار على الحسم بشأن بقاء المعتقلين الثلاثة الرئيسيين (الطيب والحامد والدميني)، وإصرار على تخفيض سقف هامش حريات التعبير خاصة الصحافية منها والتي هي هابطة أصلاً في مستواها؛ وهناك فوق هذا إصرار على مواجهة الضغوط الخارجية، إعلامية او سياسية مهما كانت النتائج، واستعداد لتوسيع مساحة الإعتقالات لتشمل آخرين.

هذا التحدّي الذي تبرزه تصريحات الأمراء الثلاثة: نايف وسلطان وسعود الفيصل، قد تضمن نجاحاً نسبياً مؤقتاً، حيث استعادت العائلة المالكة زمام المبادرة ولو كان بالقمع، كما استعادت بعضاً من هيبتها المضاعة عن طريق التخويف والإرعاب، وحددت بشكل واضح موقفها المتذبذب بشأن الإصلاحات، فالقرار الأخير والنهائي: (لا إصلاحات، لا انتخابات لمجلس الشورى، لا تنازلات للقوى المحلية، وإن كان التنازل للخارجي قائم على قدم وساق وفي موضوعات مختلفة).

هذا النصر الأوّلي النسبي هو في جوهره هزيمة للمنتصر (اي للحكومة/ العائلة المالكة)، كما هو هزيمة للمجتمع ولمستقبل أبنائه. وهذا النصر باهظ الثمن، مكلف للأمراء، غير قابل للديمومة، أي بعبارة اخرى: هو على المدى المتوسط والبعيد: هزيمة للذات، لا يمكن الإستمرار فيه.

لماذا نقول هذا؟

لأن استراتيجية مثل هذه قد جُرّبت من قبل، وتمّ التراجع مؤقتاً عنها ثم العودة إليها مجدداً. وخلال العقود الماضية ثبت ان سطوة الدولة لم تمنع الإنشقاق، لم تمنع تطلّع الناس الى مستقبل أفضل، لم تمنعهم من رفع سقف مطالبهم بما يتناسب مع ما هو متحقق في بلدان مجاورة وبينها دول الخليج. استراتيجية الحجر على الفكر وعلى مشاركة الشعب في صناعة قراره، لا تمتلك المبررات في ظل وجود تجارب مماثلة بالجوار؛ ومهما عزف على الخصوصية السعودية، فإن الغالبية الساحقة من أبناء الشعب لا يؤمنون بها، كما أن المخاطر والعقبات المتوقع حدوثها عند التحول السياسي، والتي يحاول الطاقم الحاكم استخدامها كفزّاعة للطامحين المتطلعين لمستقبل أفضل، تكسرت من خلال انكشاف بطلانها في بيئات اخرى متنوعة ومختلفة.

نقول أن هذا النصر النسبي الأولي قابل للتحطّم. قيل ـ وهو صحيح ـ ان الدولة لا تستطيع ان تحارب على جبهتي العنف والإصلاح، وقيل في المقابل إن ضرب دعاة الإصلاح إنما جاء بعد أن ساهموا في تحقيق اجماعي نفسي شعبي وفكري ضد موجة العنف التي أصابت البلاد وضد الفكر المتطرف الذي يرفده. ولما بدا ان دائرة العنف قد كسرت بحدود معيّنة، أو حسب تعبير سلطان أن 80% من العنف المسلح قد تم استئصاله، أخذ الأمراء فرصتهم في قمع الإصلاحيين. هذه المعادلة سريعة العطب. فماذا ستصنع العائلة المالكة لو عادت التفجيرات من جديد الى شوارع الرياض، ونحن نعلم ان المصادمات قائمة، كما نعلم بأن جذور العنف الفكرية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية لم يجر تغييرها او حلّها؟ من المرجح أن الشعور الشعبي، كما بين النخب المقموعة اليوم، لن يكون في مزاج الدفاع عن العائلة المالكة، التي هي من أنتج لنا العنف بسياساتها وتخبطاتها في ادارة الدولة. كيف ستحارب العنف والإصلاح معاً؟

العنف سيستمر على الأرجح في المستقبل، إذ لا توجد معطيات جديدة تمنعه، إنما هي جولة كسبتها الحكومة في معركتها الأمنية، ولكنها لم تكسبها على الصعيد الفكري والثقافي، ولم تكسبها في ردم بؤر تفريخ العنف.

ثم مع افتراض نجاح السياسة الأمنية في مكافحة خصمين مختلفين: أصحاب الدعوات العنفية، وأصحاب الدعوات الإصلاحية، فإن تلك السياسة سترجح كفّة الأولين، إذ أن الحملة على الإصلاحيين ستعزز من دعوات العنف، وستعزز الفكر المتطرّف، خاصة وأن التحالف الوهابي ـ السعودي انتعش بعيد قمع الإصلاحيين، خاصة مع الجناح الديني الرسمي، كما مع الصحوي الذي أبدى انتهازية واضحة وكأنه يرحب بسياسة الداخلية القمعية.

ولو تمادينا في التفاؤل، وقررنا أن العائلة المالكة استعادت هيبتها، وأجلت الإصلاحات، او أنهت الحديث عنها بالقوة، وأنها في الوقت نفسه نجحت في القضاء على العنف.. فهل ستنتهي الأمور عند هذا الحدّ؟ ان ما فعلته الحكومة عمّق البرزخ بينها وبين الجمهور، ولا يمكن جسر الهوّة العميقة بمجرد العصا. فالتوتر بين الدولة والمجتمع سيفضي في أي فرصة تتاح الى التصادم العنيف، خاصة مع التجربة المرّة التي مرّت بها العلاقة بين الطرفين، ومع الشعور المتصاعد بأن العائلة المالكة اصبحت عقبة كأداء امام الإصلاح وأن إزالتها قد يكون أمراً لا مفرّ منه.

بمعنى آخر، إن ما حدث من اعتقالات قد يخرق ما تعارف عليه من ثوابت (وطنيّة) في التغيير. فالعمل السلمي، قد تنخفض القناعات بشأنه، حيث ثبت حتى الآن أن العمل السلمي التدرجّي في الأهداف صعب التحقق والقبول من الطاقم الحاكم، أي أن سلمية العمل الإصلاحي تصطدم بعنفية السلطة، وبالتالي ستدفع باتجاه استخدام القوة لمواجهة عنف السلطة. ومن جهة ثانية، فإن ثابت بقاء العائلة المالكة على رأس هرم السلطة، متزامناً مع تحقيق التغيير، لم يعد ممكناً من الناحية الفعلية. الإصلاح ببقاء العائلة المالكة وموافقتها غير متاح، وهذا يدفع باتجاه الأهداف الراديكالية بإزاحة العائلة المالكة كشرط لتحقيق الإصلاح والإنفتاح وتجديد شباب الدولة. لا ننس هنا ان هناك أطيافاً اجتماعية عديدة ترى أن لا حل مع العائلة المالكة في السعودية إلا بإزالتها تماماً من قمة السلطة عبر العنف، وهي تنظر لذلك وتمارس الفعل على الأرض. هذه الفئات ستكسب أرضاً جديدة.

بسقوط هذين الثابتين، من المحتمل أن يسقط الثابت الوطني الثالث، وهو بقاء وحدة الدولة نفسها. ففشل العملية الإصلاحية ينذر بتصاعد الحس الإنفصالي كمخرج من عقدة التحالف الوهابي ـ السعودي ـ النجدي المستأثر بالسلطة. الوحدة التي لا تحقق لسكانها الحدّ الأدنى المقبول من العيش الكريم لا يمكن الإحتفاظ بها بغير العصا الغليظة. وكما يعلمنا التاريخ ان العصا لا بدّ وأن تُكسر يوماً ما، اذا ما توافرت الظروف الإقليمية والمحلية المناسبة.

الإعتقالات الأخيرة، لا تزيد من هامش خيارات العائلة المالكة، وتقلّصها في جانب الجمهور. انها رسالة ودعوة صريحة للبحث عن مخارج غير مألوفة لمشاكل مستعصية في الدولة.

لا توجد أمام العائلة المالكة خياراً اكثر من الحل الأمني، لمشاكل المجتمع السياسية والإقتصادية والإجتماعية، وبدهي ان هذا ليس حلاً. هو حل مرحلي لظاهر المشكلة الأمنية والسياسية، كما لا ينتظر أن تحل العائلة المشاكل المتراكمة في العقود الماضية والمتعلقة بالوضع الإقتصادي والتعليمي والخدماتي العام.

ليس لدى الحكومة السعودية مشروعاً مستقبلياً لمرحلة ما بعد الإعتقالات. ليس بإمكانها توفير الحدود الدنيا من متطلبات الحياة الكريمة للمواطن عبر التغلب على مشاكل الفساد وسوء الإدارة والتلاعب بالمال العام. ولذا لن يكون امامها سوى التصعيد في عملية القمع بتصاعد حالة السخط الشعبي المتوقعة، وبتصاعد التعبيرات المنشقّة المعبّرة عن طموحات التغيير.

لربما تعمد العائلة المالكة الى هندسة الإصلاحات والسيطرة عليها من جديد ووفق اجندتها. هناك من يرى بأن العنف والإعتقالات إنما جاءت بسبب فقدان الأمراء السيطرة على الوضع السياسي المستقبلي للبلاد. فقد كان تأخرهم في إجراء الإصلاحات وتوافر محفزات التغيير الداخلي والخارجي أجبرهم على اقتحام فضاء لم يكونوا قادرين على التحكم به. ويضرب هؤلاء مثالاً بحرية التعبير التي تجاوزت الخطوط الحمر الملكية، وبهامش حرية الإعلام المحلي الذي توسع خلاف رغبة الأمراء. فكأن الإعتقالات ـ برأي البعض ـ جاءت ليس لإلغاء التغيير والإصلاح من أساسه، وإنما لإعادة الأمور الى الوراء، ثم التقدم خطوة خطوة وفرض تغيير متحكم به.

بالرغم من أن هذا الإحتمال يخالف ما جاء من تصريحات الأمراء التي أعقبت الإعتقالات، إلا أنه احتمال قائم. ولكن العائلة المالكة ـ ومرة اخرى ـ ستجد نفسها غير قادرة على التحكم بمسار الإصلاح وحدوده ورجاله. والسبب ان السدّ الذي تضعه، هو أوهي من أن يتحمل تراكمات المياه القديمة، وإن التنفيس من خلال السدّ وبحجم صغير قد يؤدي الى شروخ فيه تنذر بانهياره كليا.

كأن العائلة المالكة أو بعض رجالها الكبار على الأقل رأوا صورة ما كتبه ميكافيللي الذي يرى أن عدم الإصلاح يوفر ضمانة وديمومة للحكم من إصلاح غير قابل للضبط.

أياً تكن الأحوال، فإن وضع البلاد الهش يفتح احتمالات التدخل الخارجي، واحتمالات تصاعد العنف، والميل الى الخيارات الراديكالية (اسقاط العائلة المالكة وتقسيم السلطة)، ولذلك ليس هناك في المدى البعيد مصلحة للعائلة المالكة فيما قامت به. كل ما ستحققه انها ستؤخر الإصلاحات. لكنها لن تستطيع الغائها، ولن تستطيع استيعاب الضغوط الداخلية والخارجية، ولن تكون في المستقبل ـ اذا استمرت عمليات الإعتقال وخيار الإنقلاب على الإصلاح ـ بنظر المواطنين سوى الصورة القبيحة التي تغطي مستقبلاً واعداً بالإشراق.