الإعتقالات تفتح الطريق نحو

 إعـادة لحـمة العلاقـة بين التيـار السلـفي وآل سعـود

 

واحدة من مستهدفات الإرتداد عن الإصلاحات السياسية التي كانت لاتزال في طور الوعود، هو تأكيد الخيار القديم ـ الجديد للعائلة المالكة والقاضي بأن لا بقاء لها إلا بتحالف قوي مع القوى السلفية التي قامت على أكتافها حروب تأسيس الدولة، وأنتجت نظاماً سياسياً ذا وجهين للإستبداد: ديني ـ سياسي، مرتبط بمناطقية مذهبية بغيضة تشرعن احتكارية السياسة والدين والثروة.

حين ووجهت العائلة الملكة بتداعيات تفجيرات نيويورك وواشنطن، وظهر أن الفكر السلفي ـ بقراءته الوهابية قد اصبح عبئاً على كاهل الدولة والنظام السياسي، وإزاء مطالبات الداخل والخارج بانفكاك السلطة السياسية عن السلطة الدينية، أو توسيع الأخيرة لتشمل أطيافا دينية أخرى تعبر عن التنوع الحقيقي في البلاد.. ولما كانت قوى سلفية متطرفة وراء استعداء الخارج سياسياً ودينياً على المملكة وشعبها، ووراء حملة العنف الدموي الذي شهدته العاصمة الرياض ومدن سعودية أخرى.. إزاء هذا كله، أرخت العائلة المالكة حبل النقد للتيار الديني، وتحميله مسؤلية الإنحدار الأمني والضغوط الخارجية، وذلك في إطار تحرك سياسي يستهدف إقناع الأميركيين بأن العائلة المالكة تسير في الطريق الصحيح والجاد في القضاء على (مفرخة) الإرهاب؛ وللتنفيس عن الشارع السعودي الذي ضاق ذرعاً بمحاباة العائلة المالكة لحليفها التاريخي مهما كان الثمن ومهما كانت الخسائر. ولعل العائلة المالكة كانت تريد أن ترسل إشارة الى التيار الديني الوهابي بأن لديها بدائل شعبية يمكن الإستناد اليها في حال خرج ذلك التيار عن خط التحالف التقليدي، وفي حال استخدم قواه باتجاه مضاد للعائلة المالكة وشرعيتها في الحكم.

وخلال العامين الماضيين بدا التيار السلفي يدافع عن نفسه ومواقعه ورجاله ازاء هجوم مكثف من خلال الصحافة، وأجهزة الإعلام الأخرى الرسمية، ومن خلال خطوات قامت بها الحكومة لإضعافه (بغية تطويعه لا إقصائه). دافع التيار عن تهمة العنف الملتصقة به، وتهم التكفير، وتهم التخلّف والجهالة، بل ان بعض المحاولات قد ظهرت لإعادة قراءة المواقف القديمة والأخطاء الكبيرة التي وقع فيها المجتمع والدولة والتي أدت الى تضخم المشكلة وصعوبة حلها. لقد نوقشت كل القضايا تقريباً، كقضية الهوية الوطنية، وقضية التعليم والمناهج، والمرأة، وقضايا الوحدة الوطنية، وتم تخفيض صلاحيات هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودمجت رئاسة تعليم البنات التي كانت مستقلة منذ تأسيس التعليم النسائي بوزارة التعليم، بل ظهرت مؤشرات لبزوغ رجال من داخل التيار غير الرجال يطمحون لإعادة قراءة التراث والماضي والسياسات السلفية تأسيساً لمرحلة قادمة، قائمة على قراءة جديدة تتواكب مع متطلبات العصر والمرحلة.

الهجوم الذي تعرض له التيار السلفي الوهابي في الداخل، كان يتصاعد مع أعمال العنف التي تجري في المملكة، أو تلك التي كانت تجري خارجها، كما حدث في المغرب او في العراق.. وكان شديد الإيلام، شديد التأثير، لم يخلو من منغصات وامتعضات كبار رجال الدين، والقضاة، الذين لم يعلن أحدٌ منهم ترحيبه بمركز الحوار الوطني ولا بنقاشاته، كما لم يرحب أحد منهم بتعديل المناهج. انقسم السلفيون الى عدة أقسام: قسم رأى أن ما جرى كان نتيجة اخطاء، وأنه لا بدّ من الإلتحام مع العائلة المالكة من جديد مهما كان الثمن والدفاع عنها، حتى لو تضمن ذلك قسوة على الذات. وقسم رأى ان الهجمة على التيار السلفي الذي هو جزء فاعل في جهاز الدولة، دليل خروج العائلة المالكة على مقتضيات التحالف، وأنها اخذت تميل الى الأعداء في الداخل والخارج، وبالتالي كان ذلك مبرراً إضافياً لإعلان الحرب عليها. وقسم ثالث رأى ان الإصلاحات والتعديلات مطلوبة، ولكن ليس الى حدّ إضعاف دور السلفيين (النجديين) بشكل حاد، وقد قبل هذا القسم ما جرى على مضض، واعتبره نتيجة منطقية لأخطاء التيار ورجاله، كما حاول بعضهم تأهيل نفسه لمتطلبات الحوار الوطني والإصلاح السياسي.

لكن القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً، هو اعتبار ما جرى بغض النظر عن مسبباته، سبب انحداراً خطيراً في قوة التيار السلفي على حساب قوى جديدة ناهضة لم تظهر على السطح منذ قيام الدولة، وكانت ولاتزال تحسب كقوى ضالة كافرة فاسقة.

بمقدار ما تقدمت الدولة في توسيع هامش الحريات الصحافية وما اتخذته من قرارات تقلّم بعض أظافر التيار السلفي، بذات المقدار كان الغضب والألم السلفيين، وهو ما تعكسه الكتابات المتعددة في الصحافة وفي الإنترنت. وكان من المتوقع ان المجتمع السعودي بقدر ما يتقدم من خطوات باتجاه التغيير، فإن احتمالات تصاعد العنف والغضب من التيار السلفي أكبر وأكثر. والسبب أن أي إصلاحات دينية او سياسية او إدارية ستكون في معظمها إن لم يكن كلها على حساب القابضين على السلطة وهم ينتمون الى جناحين: جناح المؤسسة الدينية وجناح العائلة المالكة. فالقوى المهمّشة ستأخذ بعضاً من حصتها من هؤلاء، وهذا ما يزعج الطرفين.

مسألة الإصلاحات التي كثرت الوعود بشأنها، لم تنتج عن قرار استراتيجي موحد بين أمراء العائلة المالكة. كان واضحاً أولاً انها مسألة وعود تكتيكية، وكان واضحاً ان خطوات استراتيجية لن تتخذ، بدليل ان أحداً من الأمراء لم يكشف لنا عن ما هية هذه الإصلاحات، ولم يعلن صراحة قبوله بالمشاركة الشعبية والإنتخابات. والمسألة الأخرى، ان تصريحات متناقضة حول الإصلاحات كانت واضحة، فالأمير نايف ـ وزير الداخلية ـ ليس فقط هو ضد الإصلاح، بل هو كما قال اكثر من مرة يكره كلمة (الإصلاح) ويعتقد ان استخدامها غير صحيح لأنها حسب قوله تعني ان الأمراء كانوا مفسدين!

لم يكن أحدٌ من الأمراء الكبار، المختلفين حول موضوع الإصلاح، درجته وحدوده، يتصور أنه يمكن التفريط بالتحالف مع التيار الوهابي، او مع قاعدة الحكم الأساس (نجد) التي يطبعها ذلك التيار بثقافته وتراثه ورموزه. وأكثر المتلكئين بشأن الإصلاحات هم أكثر المؤمنين بذلك التحالف والحريصين على ديمومته، وفي مقدمة هؤلاء الجناح السديري (سلطان ونايف).. وفيما ترك للأمير عبد الله ولي العهد، الإكثار من الحديث عن الإصلاحات، كوسيلة للتهدئة الداخلية والخارجية وللخداع أحياناً، رأى الجناح السديري أن ما يقوم به الأمير عبدالله وإن كان يكسبه شعبية خارج الحدود النجدية، فإنه يفقده كثيراً أو قليلاً من رصيده في جهاز الدولة السياسي والديني المسيطر عليه نجدياً، الأمر الذي يزيد من قوّة الجناح السديري المعارض في الأساس لأي توجه إصلاحي.

بدا أن هامش الحريات الصحافية، والخطوات الخجولة في تعديل المناهج، والتشخيص العام الذي يحمّل المؤسسة الدينية فشل الدولة واتساع رقعة الفساد في اجهزتها التعليمية والقضائية.. بدا أن هذا كلّه قد سبب أزمة صامتة بين المؤسسة الدينية وال سعود، كان الى قدر ما قابلاً للتحمّل.. ولما كان التيار المعادي للإصلاح قد اعتاد اللعب على حبال الصراع بين التيارين الليبرالي والديني، وهي لعبة استمرأها منذ الستينيات الميلادية، بحيث يضع جناحاً مقابل الآخر، فإذا ما انتهى من قمع أحدهما عاد الكرّة على الآخر وبدعم الضحية الأولى.

لقد أنجز آل سعود كثيراً من أغراضهم في تقليم الأظافر السلفية العنفية، وجرى خلق أجواء شعبية ضدّ التشدد الديني، وضد تمدد السلطات الدينية الى فضاء الحياة العامة بأكثر مما هو عليه الحال الآن.. وظهر أن التيار السلفي بكل تفرعاته الصحوية والعنفية والرسمية قد دجّن، واستعادت الحكومة عنصر المبادرة بمباركة الجمهور.. هنا، وقبل أن يصل الإحتقان في التيار السلفي الى مداه بشكل يهدد التحالف التاريخي بين الطرفين، عمد الأمراء الى مواجهة التيار الإصلاحي الذي انتشى خلال العامين الماضيين، وليضرب من جديد بمباركة التيار السلفي وتأييد منه، سواء جاء ذلك من التيار الديني الرسمي الذي مثلته تصريحات المفتي، أو من قبل التيار الصحوي والذي مثلته مقالة محسن العواجي، أو من خلال الصمت المنطوي على الغبطة عند بقية أعضاء التيار بشكل مجمل.

نحن إذن نواجه تعميقاً للتحالف بين السلفية وآل سعود، وأمام استرضاء لتيارها، ولنا أن نتوقع بأن تعديلات المناهج وغيرها من الخطوات التي تحدّ من تمدد التيار الديني لن تتم. وهذا ما عبر عنه تصريح للأمير سلطان، المسؤول عن اللجنة العليا للمناهج. خلط الأوراق هذا، يعيد البلاد الى وضعها القديم، حيث يتحالف الإستبداد الديني والسياسي لمواجهة دعوات الإصلاح، ولمواجهة مخاطر الضغط الخارجي. فالمتحالفان هما الخاسران من أي إصلاح، وقد يبدو أن قدرهما هو القتال حتى النهاية دفاعاً عن الفئوية والطائفية والمناطقية.