يقتلون في العراق بمباركة الخطباء والوعاظ

أطفال سعوديون إنتحاريون في العراق!

 

ممدوح المهيني

 

أحد الذين تربطني بهم صلات عائلية بعيدة قتل مؤخراً في الفلوجة بينما كان يخوض مواجهة بين المجموعة الجهادية التي ينتمي لها وبين القوات الأمريكية.

أحاديث نقلت عن مجلس العزاء الذي أقيم في منزل أهله المتواضع في مدينة حائل حيث توافد الرجال والنساء لتقديم مواساتهم وعزائهم على روح ابنهم الذي لا يعرفون في أي بقعة تحديدا من الفلوجة ـ المكان الذي يطأه لأول مرة ـ تنام جثة طفلهم الصغير، الذي كان مولعاً ـ قبل أن ينضم لجماعات إسلامية ـ بمدينته الشمالية الوادعة، رافضا هجرها، ومتمنياً بعد موته أن تحتضنه رمالها الحمراء الناعمة. من مجلس العزاء نقلت أخبار تقول أنه هاتف أهله قبل مقتله بأيام قليلة وأبدى خلال المكالمة سعادة وحماساً بالغين، ووعد عائلته بأن النصر سيكون حتما من نصيبه في النهاية. هو سينتصر إذا نجحوا في تسديد ضربات موجعة للقوات التحالف تجعلها تهرب من العراق كالفئران، وهو أيضا سينتصر إذا قتل وذلك يعني الحياة من جديد في الجنة في زمن متجمد وأزلي.

شخص آخر، كان من المقربين لأحد أصدقائي قتل في العراق قبل الأحداث الأخيرة. الأنباء التي تواردت عن مقتله بينت أن العملية تمت بدون تعقيد، وبسهولة بالغة، وبطريقة أشبه بقنص طيور القطا ببنادق قديمة. كان يجلس مع مجموعة من أصدقائه في إحدى الغرف التي جهزتها لهم المنظمات الإرهابية هناك. وبينما كانوا ينظفون أسلحتهم.. دهمهم الجنود الامريكيون، ولم يمر وقت طويل حتى انتهى كل شيء، وتحول مجموعة الأطفال السعوديون إلى جثث تنبض في بعضها عروق لم تنفذ تماما تعليمات الدماغ الذي تحول إلى نافورة دم ذات مولدات ضعيفة.

جاهد أبوه كثيرا ليبعد إبنه عن هذا الطريق. وكان يعتقد في قرارة نفسه أنه يلعب دور الأب الفاسد الذي يريد أن يثني إبنه عن المضي في سبيل الله، كما في القصص التي تزخر بها أشرطة الكاسيت الإسلامي. حضر من أنبأه بهذا الخبر، كانا شخصين حاولا ان يتصنعا البهجة عندما أخبروه بمقتل طفله الصغير. الخبر الصاعق والمزلزل أصاب الرجل بصدمة عنيفة، وبدأ وجه يتقلص وينتفض ويمتلأ بالنبضات المتألمة والمتشنجة، واكتست عيناه الهرمتين بدموع بلورية كبيرة، هذا المنظر دفع بالرجلين ليزيدا من درجة بهجتهم المصطنعة وقالوا له: (أنه يرفل الآن في النعيم.. أنه بطل.. شهيد.. أنه برفقة الصحابة والمرسلين.. سيشفع لك ولجميع عائلتك، عليك أن تحزن ولكن ليس إلى الدرجة التي تنغص عليه فيها حياته الخضراء الأبدية.. تذكر انه حي!).

بينما كان الرجلان يغادران كان الأب قد تحول إلى حطام بشري، وتلاشت بسرعة جميع المشاهد التي رسموها لأبنه في الجنة، ولم تبق إلا صورة طفله مطموراً في تراب بعيد عنه وملفوفاً في كفن لا يعرف ما هو نوعه.

أمه كانت متوفاة منذ مدة ليست بعيدة. شقيقاته وقريباته بكينه كثيرا، وعندما تستبد بأحدهن نوبة بكاء هستيرية يهدئنها النسوة الأخريات وهنّ يتمتمن في أذنها: إنه شهيد.. إنه شهيد).

آخر أعرفه جيدا، إسمه بدر، عاش في بداية الحرب على العراق أياماً من التوتر والإنتظار. كان يغلي ولم يكن بحاجة إلإ إلى هزة رأس من شيخه المفضل تأذن له بالإنطلاق إلى قلب الحرب الصليبية.

شيخه كان مترددا وحائراً، وطالب مريديه بالتريث بدون أن يبدي أسباباً منطقية، وكان الامر عالقاً إلى أن سقطت بغداد وانتهت الحرب فعلياً.

الكثير من الشباب السعودي المراهق يتواجدون الآن في العراق، وهم منخرطون في التنظيمات الإرهابية المنتشرة هناك. تواجدهم الكثيف لا بد وانه تم عبر شبكات تنظيمية مجهزة ودقيقة توصلهم بعناية من قراهم النائية في حائل والقصيم وابها إلى الفلوجة والرمادي والأعظمية.

هذا يشير إلى أن خطوط توصيلهم بهذه الوفرة والتدفق غير المنقطع هي خطوط معدة وراسخة ومثبتة بالعديد من نقاط الإرتكاز المتينة.

مؤكد أن محطة الإنطلاق الأولى التي تغذي هذه الخطوط موجودة هنا في السعودية. هذه المحطة يشيدها خطباء المساجد المتطرفون والذين لا يكفون عن ترديد خطب تحريضية وتجييشية تأمر الشباب بشكل مضمر وعلني إلى التوجه الى هناك وتحميلهم مسؤولية المحافظة على شرف النساء العراقيات المسلمات.

يتكثف هذا الأمر في اللقاءات والمحاضرات الخاصة وحلقات المساجد والمخيمات الدعوية وتجمعات المنازل حيث يحقن الشاب المراهق بحقن كثيفة ومتتابعة من المحرضات والمهيجات ويتم تشكيل الرغبة لديه في الذهاب للجهاد في سبيل الله وقطع رقاب الكفار. مع بداية تكون الرغبة في الذهاب، توجد تيارات جذب تستقطبه لها وتدفعه نحو المضي في رغبته على الرغم من وجود خيوط غريزية تسحبه نحو راحة ومتعة الحياة الآمنة.. إلا أن نقاط الشفط تستجذبه بشكل أقوى، وتستغل حماسته لدفعه لاتخاذ قراره النهائي والمتعجل للتسجيل في ركب المجاهدين الذين باعوا أرواحهم لله. تسير الأمور على هذه الطريقة: (أنت لديك رغبة صادقة عظيمة ونبيلة، ونحن نملك السبل التي تحققها.. هيا إمضي).

بهذة الطريقة يتم سحق أي مؤشرات للتراجع والارتداد التي تظل تومض حتى التسجيل النهائي والاعلان عن موعد المغادرة.

نقاط الشفط هذه هم الأشخاص الذين يجهزون إنتقال هؤلاء الشباب وتأمين سيرهم نحو البقعة التي ينوون فيها الجهاد، وهم بالتأكيد موصولون بجماعات ارهابية خارجية تتسلم هؤلاء الشباب وتدفعهم نحو اهدافها.

الحكومة السعودية بحاجة إلى أن تتنبه لهذة المسألة جيدا. أصبحنا بئراً من الجهاديين المراهقين موصولة بأنابيب واسعة وصلبة ومرتبطة بمحطات دولية توصل أبناءها إلى العراق لمحاربة قوات التحالف. هذه الأنابيب تبدو مريحة وآمنة بحيث أصبح شخص مثل بدر ينتظر فقط تلويحة شيخه. اما كيفية تحقيق ذلك، من الإعداد من هنا والسفر والاقامة في الخارج والاكل ومن ثم التسلل إلى أكثر المناطق العراقية خطورة، فيبدو بالنسبة إليه أمرا لا يستحق التفكير والحديث عنه مضجر وغير مفيد ويشغل الذهن عن التركيز الذهني الذي يجب أن ينصب على القتال.

بالتأكيد ان هذة الأمر سيدخل المملكة بإشكالية مع الولايات المتحدة، فمواطنوها يخرجون منها بوفرة وسهولة ليلحقوا بقواتها الخسائر جراء العمليات الأرهابية التي يقومون بها. الأمر الآخر هو ان وجود هذه الشبكات المتقنة في عملها وإن كانت تصدر للخارج فإنها لا بد أن تتقاطع مع التنظيمات الإرهابية التي قامت بالتفجيرات في داخلها. المنطقان المتشابهان لا بد وأن يتطابقا في لحظات معينة، مما يعني فتح الأبواب بين هذه التنظيمات لتزويد الأسلحة وتبادل الأفراد أو تقديم المساعدة والدعم المطلوب. إضافة لذلك فإن الجماعات الجهادية في الخارج مرشحة للإنقلاب داخلياً، كما حدث سابقا في أفغانستان والشيشان.

على الحكومة السعودية وقف هذا التدفق نحو العراق وذلك بمنع الخطب التحريضية العلنية والسرية، وعليها أن تتخذ إجراءات صارمة في ضرب وتفتيت هذة البؤر التصديرية وقطع خطوطها الدولية، التي قطعت لأبنائنا تذاكر مؤكدة للجنة، ولكنها اورثت لبلدهم أضراراً كبيرة ولعوائلهم آلاماً مأساوية عظيمة تظللهم بغيمة من الألم والمرارة لم تبددها تطمينات وتأكيدات أخروية لا يوجد في الحقيقة على وجه هذه الأرض من هو قادرعلى الجزم بها بشكل نهائي.

(نقلا عن ايلاف ـ 3 مايو 2004)

 

  العدد السادس عشر - مايو 2004