نعود إليكم مع التحية
الصحوة الدينية السلفية بلا عقل
محمد علي الفايز
أول ما يسترعيه العنوان السؤال التالي: إن كانت الصحوة السلفية
التي بدأت بعد أزمة غزو العراق للكويت بلا عقل سياسي فهل هي صحوة
إذن؟ ليس في بعدها السياسي فحسب، بل في بعدها الديني أيضاً؟
الصحوة التي تفرز فكر التطرّف والعنف وتمزّق المجتمع، وترفع
الأسوار بينها وبين الآخر المختلف فكرياً او مذهبياً أو
مناطقياً، هل يصحّ أن تسمّى (صحوة)؟ والصحوة الدينية في بعدها
السياسي التي تلجأ الى الإرهاب والتفجيرات للمدنيين وتفتقد
أولويات الفعل والحكمة السياسيين، هل هي صحوة أم إمعان في
السبات؟ ثم كيف نفسّر تسييس الصحوة السلفية والإنطلاق من بعدها
الديني الى بعدها السياسي؟
يرى الأستاذ عبد العزيز الخضر أن الصحوة السلفية (الدينية) جاءت
كرد فعل على التحديث وإفرازاته السلبية التي باتت فاقعة مدمّرة
في الثمانينات الميلادية، حيث المخدرات وضياع الشباب والسفر
للمتع الجنسية في الخارج، وغير ذلك من المظاهر السلوكية السيئة.
وقد استطاعت الصحوة السلفية أن تحتوي قسماً من الشباب بتشجيع من
المواطنين ومن الحكومة، وأن تعيد انتاجهم في فترة قصيرة وتدفع
بهم الى أفغانستان حيث الجهاد والتطهّر. وقد رافق تلك الحملة
صراعاً محموماً في جانبه الثقافي مع التيار الليبرالي الذي كان
يوصم بالعلمانية والحداثية والعصرانية، والذي تلقى ضربات موجعة
أهمها ـ حسب الخضر ـ ضربتان، شارك فيهما أعلى هرم في السلطة
الدينية وهو المفتي ومن ورائه المؤسسة الدينية الرسمية،
والضربتان هما: صدور كتاب الحداثة في ميزان الإسلام، الذي قدم له
المفتي الشيخ ابن باز، والآخر بسبب الحملة غير المسبوقة لتسقيط
التيار الليبرالي على إثر حادثة قيام نسوة سعوديات بمحاولة
السواقة في شوارع الرياض احتجاجاً في بداية التسعينيات.
في تلك الفترة أصبح التيار السلفي منتشياً بانتصاراته، وبدأ
يصنّع مادته الدينية في قوالب سياسية بعد الغزو للكويت ووجود
أميركيين من الجنود نساءً ورجالاً. انخرط التيار الصحوي في الشأن
السياسي، فقد كان أكثر جاذبية من مجرد الموضوع الديني، ثم خرجت
عريضة النصيحة التي كانت تنظّر للدولة الدينية السلفية، وتطورت
الأمور الى إعطاء السلطات السياسية قوة إضافية للتيار السلفي،
وقلّمت بعض أظافر المتشددين من وجهة نظرها والذين كانوا يمثلون
تحدياً سياسياً.
الآن ماذا نرى؟
لا يوجد للتيار السلفي مشروع سياسي غير السباحة في إطار الدولة
الدينية ـ المتمذهبة. ولا يمتلك قادة التيار رؤية سياسية أو
وعياً كافياً في إدارة الدولة والعلاقات الدولية. لم يكونوا
سياسيين بقدر ما هم مهيجين سياسياً على قاعدة دينية او مذهبية،
ولذا ترى تحليلاتهم السياسية ساذجة الى أبعد الحدود، وتفتقد أبسط
مقومات المنهجية السليمة. ولا غرابة في هذا، فهؤلاء قد أقحموا
أنفسهم في الشأن السياسي بدون سابق خبرة أو وعي، وفي الوقت الذي
كانوا يطلبون من الآخرين اعتبارهم مرجعية دينية وأن لا يتدخلوا
في الشأن الديني فهماً او تفسيراً، نراهم يقتحمون المزالق
السياسية بتحليلات لا يقبلها إلا التيار السلفي الذي أُبعد ردحاً
طويلاً من الزمن عن الشأن السياسي وتعاطيه.
ولو راجعنا إصدارات هذا التيار وتحليلاته السياسية، كما جاءت من
سفر الحوالي أو العواجي أو ناصر العمر وهم من أسموا أنفسهم رموز
الصحوة، لوجدنا بساطة في التحليل، وضعفاً في الأدوات، وتعامياً
في قراءة المستقبل.. ليست هناك بضاعة تُشترى سوى رفض الآخر
سياسياً بعد أن كان دينياً صرفاً. ومن المؤسف أن الدين الذي كان
بوابة التسييس للمجتمع السلفي، لم يستطع أن ينتج خطاباً رشيداً
للجمهور، ولعل مطالعة سريعة لمواقع التيار خاصة (الساحات)
لأصابنا الخوف والخشية من أن هكذا نوع من التحليلات للشأن المحلي
والعربي والدولي مع ما يرافقها من عنف واتهام وبساطة متناهية في
الأمور، يمكن أن تفجّر وضع المملكة الأمني من أساسه. لدرجة أن
كاتباً سعودياً قال بأنه (لا يريد أن يصدق) بأن ما ينشر في
الساحات هو وجهنا الذي نحاول أن نخفيه.
إن كلمة الصحوة دينياً أو سياسياً مضللة حين تستخدم في وصف ما
جرى خلال العقود الثلاثة الماضية. فالتيار السلفي لم يقدم صحوة
بقدر ما قدّم إعادة إنتاج لفكر التعصب المذهبي، والواحدية
الثقافية حتى أنه لم يبق مثقف لم يكفر أو يفتى بحقه كمرتد.. أكثر
من هذا، فإن التيار السلفي أنتج لنا المزيد من فكر الغلو
والتطرف، وكل ذلك جرى في أقل من عقدين من الزمان فحسب. أما في
السياسة فكان من المؤمل أن الحراك السياسي المحلي سيطعم بجرعة
قوية حين يسيّس الجمهور، ولكن التسييس جاء على قاعدة الخطأ، وعلى
قاعد العنف، وعلى قاعدة الإثرة السياسية، والتضاد مع الآخر،
والإصرار على أن الدولة مجرد مركبة للمذهب. التسييس جاء لنا
بتنظير أن الوطنية مضادة للدين، فسميت بالوثنية، وأن المساواة
بين المواطنين كفر (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) وأن حرية التعبير
نشر للضلال، والحرية السياسية لا تعني أكثر من زيادة تسلّط
التيار (الصحوي!) على مقاليد السلطة والمزيد من تهميش الآخر.
هذه ليست صحوة أبداً، ولم تكن كذلك في جوهرها.
لو بقيت الصحوة السلفية في حدود نشر الفضيلة ومقاومة الرذيلة
وتجنب آثار التحديث السلبية لكانت خيراً حقيقياً. لكنها أسست
أركانها على الجهاد الأفغاني والتطهّر من شركيات المذاهب،
ومحاربة المواطن المختلف حتى في أقل المسائل التي يجوز فيها تعدد
الفهوم. كانت الصحوة السلفية فالتة العقال، وكان التسييس لها
(فرصة) لعقلنتها، ولكن أنّى لعقول شبّت وبنت مستقبلها على التطرف
والواحدية أن تعقلن ما لا تستطيع أن تعقله؟!
الصحوة السلفية حققت نصف الطريق وهو نفي الآخر ثقافياً ومذهبياً،
ولكنها لم تقدم بديلاً، ولا رسالة غير الرفض لكل شيء وخنق
المجتمع بتوسيع دائرة المحرمات (عبر سد الذرائع). وفي بعدها
السياسي لم تقدم لنا السلفية كصحوة أية مشروع سياسي، وإنما
مشاريع شهادة أو تفجير، وحين يُسألون: لماذا؟ ثم ماذا؟ ولأي غاية
تسعون؟ لا تجد سوى رأياً هزيلاً يخلط بين الغاية والوسيلة.
الحق معهم، اولئك الذين نظروا الى الصحوة السلفية والى منظريها
بعين اتهامية، فمن يشهد النتائج اليوم لا بد وأن يدرك كم كان
عبؤها ثقيلاً على المجتمع والدولة. ومع ان تلك الصحوة لم تنشأ من
فراغ، ولم تنمو في فراغ، فإن النظام السياسي يتحمل جزءاً كبيراً
مما يجري. لقد أطلقت طاقة هائلة في المجتمع عاثت في الخارج عنفاً
ودماراً وعادت الى الداخل لتقول: نحن بضاعتكم نعود اليكم مع
التحية!
العدد السادس عشر - مايو 2004
|