وعادت حليمة لعادتها القديمة

مكافحة العنف بمزيد من الحقن الدينية المتطرفة

 

مرتضى السيد

 

تحدثنا في الأعداد الماضية، كما تحدث غيرنا ناقداً في الصحافة المحليّة قبل إخصائها من جديد بعيد اعتقال الإصلاحيين في مارس الماضي، محذّرين من مداواة العنف بالأداة الأمنية وحدها، ومن معالجته وفق النسق القديم الذي قاد الى المزيد من العنف فيما بعد. توقعنا أن الحكومة ستقوم بتقليم أظافر العنفيين، لأنها لا تستطيع وبكل صراحة أن تنهيهم، لا الآن ولا في المستقبل المنظور.. وقلنا بأن العائلة المالكة في المقابل ستقوم بإعطاء المزيد من الصلاحيات الى المؤسسة الدينية الرسمية، وأنها لن تجازف بالتخلّي عن الفكر السلفي ولا عن التحالف مع مؤسساته ورجاله، لأن ذلك يضعفها مقابل دعاة الإصلاح والتغيير، وأنها لن تقوم بالإصلاحات السياسية شأنها شأن الحليف الديني ـ السلفي الرافض، لأن هذا البديل مكلف لكلا الطرفين الفئويين.

كتب صحافيون سعوديون منذ أشهر عديدة وفي مناخ من الحرية الصحافية غير مسبوق، بأن ظاهرة العنف والإرهاب والتكفير في المملكة مختزنة في الثقافة السلفية المسوّدة، وقد تلقّت دفعة كبيرة بعيد احتلال جهيمان للحرم المكي في نوفمبر 1979.. وقد انتقد أولئك الصحافيون سياسة الحكومة وإن كان بأثر رجعي وبعد 25 عاماً، حيث أنها وبعد أن نجحت في القضاء على تمرد جهيمان، كافأت حليفها الديني السلفي بالمزيد من السلطات والقوة، حتى ساد الفكر الأحادي، وخُنق المجتمع ومفكروه ومثقفوه، فكانت النتيجة أن زاد الغلو والتطرّف، فانفجر التيار السلفي مرّة أخرى في بداية التسعينات مطالباً بالمزيد من السلطات السياسية والمزيد من الضغط على المجتمع تحقيقاً لنموذجه المتمذهب للدولة. هنا عادت الحكومة مرّة اخرى لسياساتها القديمة، عبر ضرب العناصر والقيادات السلفية المسيّسة بحجة التطرف والعداء للحكومة، والإغداق بيد أخرى على التيار بالمزيد من الصلاحيات والقوة في الشارع وفي مؤسسات الدولة، فكان ذلك إيذاناً بانفجار العنف منذ منتصف التسعينيات وتسارع خلال الفترة الأخيرة.

والآن وللمرة الثالثة، استخدمت القوى السلفية تلك الصلاحيات والقوة من اجل فرض منهجها العنفي في التغيير، وقد بدا للوهلة الأولى أن الحكومة وعت الدروس الماضية وأنها بصدد إعادة نظر في علاقاتها مع حليفها الديني، وأنها يمكن، ومنذ احداث نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001 واستمرار حوادث العنف، أن تبدأ بتقليص الجرعات السلفية المتطرفة في الإعلام والمناهج التعليمية وغيرهما. كما بدا ان الحكومة وقد اعترفت بأن أحادية الرأي المذهبي والفكري يشلّ المجتمع ويولد المزيد من التطرف والعنف، فأنشأت مركز الحوار الوطني، وظهر شيء من التنوّع على السطح وإن لم تعبر وسائل الإعلام عن ذلك التنوّع على الأرض.

لكن الحقيقة الواضحة الآن، هي أن الحكومة السعودية لم تتخذ تلك السياسات الدفاعية المحدودة إلا مضطرة، من أجل تخفيف الضغط الأميركي من جهة، ومن أجل حشد الشارع السعودي ليقف معها في مواجهة العنفيين.

المحصلة النهائية، هي أن ما بدا أن الحكومة قد أخذته باليمين من التيار السلفي، أعادته اليه بالشمال.. وأن نغمة الإصلاح انقلبت من جديد فأُدخل الإصلاحيون الى السجون. هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي تمثل رمزية للتيار السلفي، سُلّحت بأسنان جديدة، وعادت الى نشاطاتها السابقة، تخبط خبط عشواء في الشوارع والأزقّة. والإعلام الرسمي أصبح مقزّزاً الى أبعد الحدود، خاصة القناة التلفزيونية الأولى التي قال وزير الإعلام قبل أربعة أشهر أن 40% من برامجها دينية، مخصصة (لترشيد) الحالة الدينية السلفية! وهو ترشيد يعني المزيد من حقن التطرّف الفكري لمعالجة العنف! معادلة سعودية غريبة. ومن الواضح أن حقنة الـ 40% لم تكن كافية، فخلال شهر ونصف يبدو أنها وصلت بين 60-70% من مدة بث القناة التلفزيونية الأولى.

كل البرامج تتحدث عن وجوب طاعة ولي الأمر، وتحثّ على الجماعة، وتنذر بحدّ الحرابة، وتمنّي طلاب الموت بالعفو والمغفرة في الدنيا والآخرة إن هم ألقوا السلاح وعادوا الى حضن ولاة الأمر من جديد (العلماء والأمراء). البرامج تؤكد على (محدودية) العنف! وعلى شذوذ ممارسيه، وعلى عدم جدوائيته، وعلى أضراره. وأنه ليس نتاج السلفية ولا هو فكرها، فهي بريئة، براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب!، والحكومة بريئة مؤمنة موحّدة، يوجد بها أخطاء ولكنها أعظم حكومة في الدنيا!

تلحّ الخطابات الجديدة على أن شرع الله مطبّق، وأن الدولة قائمة على التوحيد وتسهر على رعايته ونشره، وفوق هذا يصرّ المشايخ المتحدثون أن الدولة لا تقوم لها قائمة إلا بسيرها في منهج الدعوة ـ وهي تقوم بذلك! حمداً لله! وبالتالي فشرعيتها مصانة، وحقها في الطاعة محفوظ، والمعترض مقصّر، والمحتجّ يستحق التقريع والسجن، وحامل السلاح لا ينتظرنّ إلا الإستئصال!

الخطاب الجديد الذي يراد له إقناع دعاة العنف السلفي بالجنوح الى السلم وإلقاء السلاح، والتمييز بين الدماء المعصومة وغيرها.. هو خطاب احتجاجي ضعيف للغاية، غير مقنع، حتى لو تسلّح بكل الأسماء الكبيرة من رجال الدين.

هو أولاً خطاب غير صادق في مدعياته التي تبريء السلطة والمؤسسة الدينية من الفساد والإنحراف. وهو خطاب يعتمد نفس المنهج والحجج النصيّة التي أفرزت العنف، وبالتالي لا يمكن أن تحاجج جماعة تؤمن بنفس الفكر، وتختلف معها في التطبيق فحسب. وللحق، وكما قال الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي ذات مرة في مقالة له بجريدة الرياض، بأن دعاة العنف، ابتداءً من الأخوان الأوائل مروراً بجهيمان الى أصحاب النعوش الملائكية الجديدة، هم أصدق ممن علّمهم من المشايخ في تعاطيهم مع الفكر السلفي والإلتصاق به، فهم يطبقون ما تعلّموا، بينما هناك انفصام بين تفسير النص الديني وبين التطبيق بالنسبة لرجال المؤسسة الدينية الرسمية أو من يسمون بوعاظ السلاطين. فكيف ننتقد الثمرة، ولا نخطئ الشجرة؟! كيف نعلّم دعاة العنف بأن الآخر كافراً، حلال الدم والمال والعرض، ثم إذا ما قاموا بالتطبيق نقول لهم بأنكم أخطأتم؟!

المملكة لا يمكن ان تختزل في فكر واحد، ولا في لاعبين سياسيين إثنين فحسب: العائلة المالكة والسلفية، فيما يبقى الآخرون مجرد متفرجين على حفلة العنف بانتظار حسمٍ يدفع كل الشعب ثمنه. يراد من العنف وسياسة مقاومته الحالية أن تقول بأن الصراع العنفي القائم داخلي بين الجماعة الحاكمة ولا دخل للآخرين فيه، ومع هذا يطالب الأمراء والمشايخ الآخرين بأن يكونوا الى جانب الأقوى الذي يستعبدهم وينتقص من حقوقهم ويسحق إرادتهم.

العنف هذه المرة يختلف عن المرات السابقة، فعمره سيكون أطول، وبيئته أكثر موائمة للإستمرار، ومعالجة الداء بمزيد من الداء نفسه لن يخلف لنا كما كان في السابق انفجارات مستقبلية، بل ان الإنفجارات لن تتوقف في الأصل.

اللعبة الحكومية كانت خاطئة وستبقى خاطئة ولن تثمر إلا التمزّق والتشرذم والعنف في كل مكان.

إذا لم يتعلم الأمراء من دروس الماضي، فإنهم بلا شك قد وصلوا الى وضع يصعب معه التعليم، ولم يبقَ إلاّ القطع والعزل، فسفينة البلاد ما عادت قادرة على الإبحار والحركة، وهي مخرومة من كل الإتجاهات ولم يبق إلا أن تغرق بمن فيها.

  العدد السادس عشر - مايو 2004