العنف السعودي: هل من نهاية؟

 

حمزة الحسن

 

الملاحقات التي قامت بها أجهزة الأمن ولاتزال لجماعات وأفراد العنف في أحياء الرياض وفي القرى والصحارى القريبة منها، إضافة الى الموجة الجديدة من التفجيرات التي أصابت موقعاً أمنياً بشكل مباشر وأدى الى مقتل العديد من الأشخاص وجرح العشرات.. هذه الأحداث المتلاحقة تضطرنا الى إعادة التأكيد على ثوابت التحليل المنهجي لموضوعة العنف، حتى لا ننساق وراء أوهام الحلول المستعجلة، والنهايات السعيدة التكتيكية!

 يشعر عدد من المسؤولين في المملكة بأن تصاعد العنف فيها قد أخرج العائلة المالكة من أهم مأزقين حادين تتعرضان له. الأول: مأزق العلاقة مع الغرب وبالخصوص مع الولايات المتحدة الأميركية. فتفجيرات 11 سبتمبر قد أحدثت شرخاً استراتيجياً في العلاقات السعودية الأميركية لم يكن بالحسبان، وإن كانت مؤشرات تضعضع العلاقات قد بدت قبل ذلك بعقد من السنين. أصبحت السعودية متهمة بأنها مفرخة للإرهاب، وأنها تصدر الفكر والرجال المتطرفين، الأمر الذي استعدى قسماً من صناع القرار والنخب الغربية فاعتبروا السعودية من حيث الجوهر عدواً حقيقياً.

بيد أن التفجيرات التي طالت الرياض وفرت للحكومة السعودية المادّة المضادّة للسموم ـ حسب تعبير أحد المحللين. لقد بدت بعد التفجيرات ضحية الإرهاب، وراحت تتحدث عن اختلاط الدم الأميركي والسعودي، وكانت زيارة وزير الخارجية السعودية الى واشنطن في الثلث الأخير من الشهر الماضي وكأنها كشف بجدول النشاط السعودي لمكافحة الإرهاب الذي هو أولوية للسياسة الخارجية الأميركية. وفي هذا السياق نشير الى حقيقة ان التفجيرات أعطت للحكومة الفرصة في تليين مواقف حليفها الديني، وتمرير سياسات كان من الصعب الإقدام عليها لولا التفجيرات، ومن ذلك تخفيف النشاط الديني السعودي في الخارج، خاصة ذاك المختلط بالدبلوماسية السعودية وسفاراتها، كما استطاعت أن تلبّي مطالب واشنطن بتوجيه ضربات متلاحقة للنشاط الإغاثي السعودي في الخارج، وهو نشاط ـ للحق ـ يصعب فصله بصورة واضحة عن النشاط الرسمي والسياسة الخارجية السعودية، كما يصعب فصله عن تمويل حركات العنف، لطبيعة السياسة السعودية التي تمزج بين النفوذ الديني والسياسي وبين الفكري والمادي من جهة ولتنوع أدوار اللاعبين الدينيين واهتماماتهم. فالعمل الخيري لا يحصر في تقديم العون للفقراء والمحتاجين بل قد يتقدم عليه العون السياسي للجماعات والإتجاهات، وهذا يصبّ من وجهة نظر المنخرطين في النشاط الإغاثي في (عمل الخير).

يضاف الى ذلك أعانت التفجيرات الحكومة السعودية في تنفيذ المطالب الأميركية واستحقاقاتها بشأن تعديل المناهج الدينية، وفرض أنظمة مشددة على البنوك، وإقحام مؤسسة الإف بي آي في عمق المسألة الأمنية داخل السعودية برجالها وخبراتها، وهو أمرٌ كانت الحكومة تتحفظ بشأنه.

المأزق الثاني الذي جاءت التفجيرات المتواصلة وأخرجت العائلة المالكة منه ـ حسب بعض التحليلات ـ هو تعديل سلّم الأولويات ليس في ذهن صانع القرار، بل لدى الجمهور. فالأوضاع السياسية والإقتصادية البائسة كانت تدفع بالمطالبة بمشروع إصلاحي، هو في حقيقته يمثل خطراً كبيراً على سلطة العائلة المالكة ـ أو هكذا تنظر له ـ شأنه في ذلك شأن التهديد الأميركي بإسقاط العائلة المالكة أو تقسيم الدولة. وإذا كانت خطوات الإصلاح قد ابتدأت بدفع شعبي ابتدأ بوثيقة الرؤيا (يناير 2003) وانتهت بالعريضة الدستورية (ديسمبر 2003) فإن موجة العنف الأولى أقنعت صانع القرار السعودي بضرورة (التنفيس) الإعلامي لضمان حشد الشارع الداخلي، مع اطلاق وعود مخادعة بشأن الإصلاح السياسي توضح الآن أنها كاذبة وكانت تراهن على الوقت.

ومع أن الكثيرين ينظرون الى أن العنف كان محصلة ونتيجة فشل السياسات الحكومية على مختلف الأصعدة الاعلامية والثقافية والسياسية والإقتصادية والاجتماعية، وبالتالي كان يجب أن تدفع بالإصلاحات السياسية كحل أساس لمعضل التشوّة الطائفي والاداري في الدولة، فإن الحكومة السعودية رأت في ذلك وسيلة لتغيير الأجندة، فبعد أن كانت العائلة المالكة متهمة بممالأة العنف ورجاله (السلفيين) أظهرت للشارع السعودي بأنها تريد القضاء عليه، وأن الخطر يتهدد الدولة والمجتمع، وانخرطت النخب السياسية الإصلاحية في تمهيد الشارع السعودي ثقافياً وسياسياً للوقوف صفاً مع الحكومة في أزمتها. بيد أن الأمراء سرعان ما غيّروا الإتجاه، فمع تصاعد العنف، وكان يفترض ان يؤدي الى تسريع الإصلاحات، أخذوا يروجون الى أن الأولوية الى مكافحته بالوسائل العنفية، وتعطيل الإصلاحات، وليس العمل بموازاتها. وهناك من يعتقد بأن الحكومة نجحت الى حد ما في إقناع شريحة من السكان بأن الأولوية لمواجهة العنف دون البحث في الآفاق السياسية، خاصة بالنسبة لسكان مدينة الرياض التي تعيش وضعاً متوتراً منذ عامين.

ومن وجهة نظر أخرى مختلفة، فإن الخروج من المأزقين الحادين: بترطيب العلاقة مع أميركا، وتأجيل ملف الإصلاحات السياسية، ليس سوى حلّ تكتيكي؛ فكلنا يعلم بأن العلاقات السعودية ـ الأميركية لن تعود الى سابق عهدها، وقد فتحت صفحة جديدة مختلفة، لن يؤثر فيها بشكل كبير تغيير الوجوه، كأن ينجح كيري على بوش في الإنتخابات، كما لن تغير فيها كثيراً التنازلات السعودية السياسية أو النفطية. جلّ ما في الأمر أن الأجندة الأميركية تعطي مكافحة ما تسميه بالإرهاب الأهمية القصوى قبل الإصلاحات السياسية، والحكومة السعودية لم تخرج من هذا الإطار، فهي تحاول إرضاء الأميركيين في الجوانب غير الموجعة، ولكنها لا تريد أن تقدم تنازلاً لشعبها في الموضوع السياسي، الذي هو المفتاح الحقيقي للإستقرار وللحرب على العنف.

يضاف الى ذلك أن الوقفة الشعبية ضد العنف، لا تعني بالضرورة وقفة مع النظام، ولا هي شهادة براءة له من تحفيزه للعنف وصنعه له وتهيئته لنموه، ولا هو تخلٍّ من الجمهور عن حقوقه السياسية والمدنيّة. ربما تستطيع الحكومة استثمار العنف لتأجيل الإصلاحات الشاملة، ولربما تستطيع شراء بعض الوقت وبعض التضامن مع موقفها، ولكن الى حين. ومن المؤكد ان استمرار العنف لا يعني استمرار وقفة التضامن في المحنة المشتركة المفروضة، فالمواطنون يبحثون عن الأمن أولاً، وقد يرتدّ الغضب على الحكومة لفشلها في تحقيق ذلك. وفي حال نجحت فإن سلّم الأولويات سيختلف وسيعود الموضوع السياسي الإقتصادي الى الواجهة من جديد ليضغط باتجاه تحقيق الإصلاحات السياسية.

لقد لاحظنا خلال تفجيرات الوشم الأخيرة، أن بعضاً من ذلك الغضب توجّه الى الحكومة، كما أن تعاطف الشارع خارج نطاق مناطق التوتر الأمني ـ العاصمة الرياض ـ قد ضعف، ليس فحسب بالنظر الى أن الحلول الأمنية غير ممكنة، حيث تتصاعد دعوات ضرورة الحوار، بل وأيضاً بسبب الإنسداد السياسي والتنكر لمجرد وعود الإصلاحات والتي دشنتها الحكومة باعتقالاتها لرموز الإصلاح، وتقلّص هامش حرية التعبير، بحيث لا ترى النخب الثقافية والسياسية في المملكة نفسها متحمسة حتى لمجرد التعليق على ما يجري، وكأنها تدعو النظام الى نزع أشواكه بنفسه.

بطبيعة الحال، فإن التفجيرات الأخيرة في حي الوشم بالرياض، كانت مفاجئة للأجهزة الأمنية، فهي قد اعتقدت بأنها قد سيطرت على الموقف (قال سلطان قبل التفجيرات الأخيرة ان حكومته قضت على ثمانين بالمائة من العنف) وأن حملاتها منذ تفجيرات المحيا قبل ستة أشهر في رمضان الماضي منحها فرصة لمواجهة الإصلاحيين، والحقيقة انها استعجلت في المواجهة مع دعاة الإصلاح ووضعتهم في نفس قائمة العنفيين من حيث تهديد النظام، مؤملة بأن يتفهم الغرب او يغض النظر عن التراجع السياسي، مادامت الحلول الأمنية تقدم نجاحاً يريده الأميركيون ضمن سياسة مكافحة الإرهاب. لكن ينبغي القول بأن التفكير الرغبوي الحكومي لم يكن مؤسساً على فهم صحيح للمشكلة، فالعنف مجرد عرض لمرض أخطر، إنه مرض فكري سياسي اجتماعي اقتصادي متشابك، لم تستطع الحكومة السعودية حتى الآن تحقيق تقدم فيه، ولربما ضاعفت المشكلة في بعض المواضيع بدلاً من حلّها.

لا تقدّم لنا الحكومة السعودية استراتيجية واضحة لمكافحة العنف، غير استخدام الحلّ الأمني، وهو حلّ ناقص وقد لا ينجح حتى في المدى القصير، ناهيك ان يتخذ كاستراتيجية. ولعلّ تجارب الدول الأخرى عربية وغيرها تقدّم لنا صورة عن حدود الحل الأمني ومضاعفاته. يتصور صانع القرار السعودي الأمني ـ وزير الداخلية ـ أنه حلّ سهل، وغير مكلف بالقياس الى الحل السياسي الإجتماعي الشامل. في أفضل الظروف لا يقدم الحل الأمني سوى تأجيلٍ لمشكلة العنف.

العنف بحاجة الى مستويات حلول عدّة للقضاء عليه:

ـ الحل السياسي بالإصلاحات والمشاركة الشعبية في صناعة القرار وحكم القانون.

ـ الحل الإقتصادي بالقضاء على البطالة والفقر وتوزيع الثروة بشكل عادل وبخدمات اجتماعية معقولة.

ـ الحل الثقافي والفكري بشرعنة التعددية الفكرية والثقافية والمذهبية والقضاء على الواحدية، وبتقليص حجم المؤسسة الدينية وسلطاتها الثقافية، وبهامش موسع لحرية التعبير في الصحافة وأجهزة الإعلام.

ـ ويتوازى مع هذا كله الحل الأمني، لضبط حدود العنف ومستوياته.

لم تنجح الحكومة في تحقيق واحد من الحلول هذه، ولهذا لا يجب ان نخدع أنفسنا كثيراً بأن العنف سينتهي من المملكة بين ليلة وضحاها. فلا تزال البلاد تمثل بيئة خصبة له، وإن القضاء عليه ـ إذا ما بُدئ به اليوم ـ يحتاج الى سنوات. بل قد نحتاج الى أجيال جديدة تتربى على مناهج ثقافية وفكرية مختلفة غير الحاضرة. ذلك أن أغلب المحللين السعوديين يعتقدون بأن ما يجري هو (حصاد) لسياسات استمرت ثلاثين عاماً أو أكثر. ومن الحمق الإعتقاد بأن أثر كل تلك السنين سينتهي بين ليلة وضحاها، بغض النظر عن الحلول المستخدمة.

  العدد السادس عشر - مايو 2004