الدولة بين تحدي الأمن وضرورة الاصلاح

  لم يكن تصعيد اللهجة السياسية المتشددة من قبل عدد من كبار الأمراء في العائلة المالكة بعد أحداث الرياض وينبع رد فعل تلقائي على اخفاق أمني في حادثة او حوادث محدودة ومنفصلة، بل جاء عقب تقارير غربية سرية تسرّب بعض اجزائها مؤخراً تتحدث عن احتمال تصدّع بنية النظام السياسي في السعودية. وقد حدّدت التقارير مدة عام كفترة حاسمة من أجل تحديد مصير هذا النظام وجوداً وعدماً. وقد تحدثت مصادر أميركية عن احتمال سقوط الحكم الملكي السعودي، بسبب عجز العائلة المالكة عن إخماد بؤر التوتر الامني في اجزاء مختلفة من المملكة، وتزايد الهجمات ضد المؤسسات الحكومية والمصالح الاستراتيجية والحيوية في الدولة.

كان هناك هدوء حذر دام قرابة ثلاثة شهور الأمر الذي أعطى قدراً من الاطمئنان الداخلي لدى الشارع والطبقة الحاكمة مما دفع بوزير الدفاع الأمير سلطان للتصريح بثقة عالية بأن الدولة تمكّنت من القضاء على ظاهرة العنف بنسبة 80 بالمئة. ولكن موجة جديدة من المواجهات انطلقت من جديد في مطلع ابريل الماضي بدأت بمناوشات عسكرية شبه يومية سقط خلالها عدد من رجال الأمن بين قتيل وجريح، ووصلت ذروتها في عملية انتحارية نوعية في قلب العاصمة الرياض، ودكّت حصناً أمنياً استراتيجياً، ونشرت دماراً واسعاً في في المنطقة المحيطة بمبنى إدارة الأمن العام الهدف الذي توجّهت اليه سيارة مفخخة قادها أحد افراد الخلايا الانتحارية في الداخل.. وتعد هذه العملية حلقة من حلقات مسلسل المعركة المتصاعدة بين التيار الجهادي والحكومة، والمؤشر الأبرز على انتقال المواجهات بين الطرفين الى مؤسسات الدولة بكاملها.

لقد كسرت العملية الانتحارية في منتصف أبريل الماضي قاعدة في المواجهات المسلحة بين التيار الجهادي العنفي والحكومة، فقد ظل الغربيون والمنشآت الاجنبية وبوجه التحديد السكنية الهدف الوحيد الذي تنطلق اليه العربات المفخّخة في الرياض، ولكن الهجوم الانتحاري على مبنى ادارة الأمن العام كان رسالة جديدة مدوّية توجّهها المجموعة بأن ليس هناك بعد الآن مكان آمن في هذا البلد، ثم جاء حادث اطلاق النار في ينبع الميناء النفطي على البحر الأحمر ليؤكد هذه الحقيقة مرة ثانية، مع الاشارة الى أن الحكومة كانت قد وضعت في فترات سابقة خططاً بديلة لاستعمال هذا الميناء كبديل استراتيجي عن رأس تنورة والجعيمه في حال اندلاع حرب في الخليج بما يحول دون تصدير النفط للأسواق العالمية، وبالرغم من أن تركيز الاستعدادات المكثّفة كان منصّباً بصورة جادة على المنشآت النفطية في المنطقة الشرقية التي تخشى الحكومة من أن يمتد اليها ذراع العنف لأسباب عديدة منها: أنها الشريان الحيوي لاقتصاد الدولة، وكونها مركزاً لتجمّع أهل الشرك والضلال حسب عقيدة هذه الجماعات، الأمر الذي يفرض إتخاذ تدابير احتياطية مشددة من أجل درء الاخطار المحدقة بهذه المنطقة الاستراتيجية.

لم تسفر المواجهات المسلّحة بين الحكومة وجماعات العنف عن انكسارات قاصمة، فقد أثبتت سلسلة المواجهات المسلّحة في مناطق متفرقة في شرقي الرياض والاجزاء القريبة منها أن مخزون العنف مازال كبيراً وأن ما حققته أجهزة الأمن من اكتشافات وخروقات لخلايا الشبكة السريّة مازال ضئيلاً، خصوصاً إذا ثبتت صحة فرضية عمل مجموعات الشبكة بطريقة إفرادية حيث تتألف هذه الشبكة من مجاميع صغيرة مكوّنة من ثلاثة الى أربعة عناصر ولا يربطها بالمجاميع الأخرى سوى القائد الرمز الذي يتخفى وراء سلسلة طويلة من الروابط المتقطعة داخل هذه الشبكة.

إن ما أوحت به قائمة الـ 26 الحكومية قد تهاوى مع سقوط أول حجر في مبنى ادارة الأمن العام.. فقد ظهر بعد اشتباكات أبريل شبه اليومية وصولاً الى العملية الانتحارية وحوادث ينبع بأن القائمة تتسع لعشرات لم يجر الكشف عن أسمائهم أو أدوارهم في دورة العنف المحلية.. فقد إنتهت عمليات تعقب المشتبه بهم قبل عدة أشهر عن ضبط حوالي 600 متهماً اضافة الى كميات كبيرة من قطع السلاح المختلفة الخفيفة والمتوسطة وبعد معارك وقعت في بعض الاحيان وتم تبادل لإطلاق النار بين قوات الامن وافراد من الجماعات المسلحة.

لاشك أن اهتزازاً عنيفاً قد أصاب مصداقية جهاز الأمن في شهر أبريل، ولذلك جاءت لهجة كبار الأمراء وبخاصة وزير الداخلية مختلفة هذه المرة، وقد تم التعويض عن الانتصار المشهود على الأرض عن انتصارات مزعومة وغير مرئية. إن ما ذكره الامير نايف عن اكتشاف عشرات الاعتداءات التي أحبطها رجال الأمن بقدر ما تمثل محاولة مقصودة لاستعادة المصداقية لجهاز الأمن، فإنها في الوقت نفسه تكشف عن حجم وطبيعة الجماعات الضالعة في عمليات العنف في هذا البلد، بما يجعل البحث عن قائمة صغيرة مجرد البحث عن إبرة وسط قشة كبيرة. فما كشف عنه الأمير نايف في مؤتمره الصحافي في التاسع والعشرين من أبريل الماضي يتجاوز حد الدفاع عن وزارته والاشادة بتضحيات وجهود رجال الأمن، بل تتضمن تصريحاته رسالة أخرى قد تكون غير مقصودة ولكنها واضحة بأن قوات الأمن تتعامل مع جهة بالغة الخطورة ومن الصعب القضاء عليها، وأن هذه الجهة تملك إستراتيجية عسكرية شديدة التعقيد وتعتمد على قدرة تسليحية عالية وكفوءة.

تلزم الاشارة الى أن هذه الجماعات وبفعل التنشئة الايديولوجية المتطرفة لا تقتصر رغبتها على التخلص من الأجانب الموجودين في مناطق مختلفة من المملكة والبالغ عددهم 35 ألف أمريكي و30 ألف عامل وموظف غربي موجودين في مناطق النفط والتجارة، بل إنهم أيضاً يريدون التخلص من العائلة المالكة نفسها التي يخلعون عنها صفة الشرعية ويضعونها في صف المتواطئين مع الكفار الاجانب، الى جانب رغبتهم في التخلّص من مجموعات سكانية محددة على قاعدة مذهبية او ايديولوجية.

العائلة المالكة التي بدأت معركة الأمن والمصداقية منذ مايو من العام الماضي، تخوض معركة وجود في الداخل من خلال تكريس كافة إمكانياتها الأمنية من أجل إستعادة مصداقيتها المتصدعة.. فقد استهلكت وزارة الداخلية 75 بالمئة من الفائض المالي الذي حصلت عليه الدولة في العام الماضي بفعل زيادة اسعار النفط والبالغ 42 مليار ريال، من أجل دعم التوجّه الامني وزيادة فعالية البرامج والاجهزة التابعة لوزارة الداخلية..

تصريحات الأمير سعود الفيصل التي أكد فيها على لجوء الدولة الى استعمال (القبضة الحديدية) وبذل كافة الجهود من أجل حماية الاجانب المقيمين في المملكة جاءت كرد فعل على تصريح للسفير الأميركي في الرياض والذي دعا فيه المواطنين الأميركيين الى مغادرة السعودية بسبب عدم قدرة بلاده على توفير الحماية لهم، وهذا التصريح يتزامن مع صدور تحذيرات من عدة حكومات غربية الى مواطنيها في السعودية والخليج بالمغادرة بسبب الظروف الأمنية الصعبة في هذه المنطقة.

وفيما تلحّ الحكومة على مواصلة السير في خيار المواجهة مع الجماعات المسلّحة في الداخل، اعتماداً على (القبضة الحديدية) وحدها في معالجة المشكلة الأمنية المتصاعدة، فإن مؤشرات عديدة تلمح الى تصاعد الهجمات المسلّحة. وهنا تبدو الفارزة الكبرى بين تحدي الامن وضرورة الإصلاح، حيث تخوض العائلة المالكة معركة ضارية من جبهتي الأمن والاصلاح.

على جبهة الأمن، تناضل الطبقة الحاكمة من أجل استرجاع ما خسرت بفعل سلسلة الانهدامات التي أحدثتها الهجمات الانتحارية والمسلحة، أما على جبهة الاصلاح فالمطلوب منها التنازل عن جزء مما في يدها، أي بما تفترضه ملكاً خاصاً لها. بكلمات أخرى، إنها في تحدي الأمن تناضل من أجل استرداد الهيبة والمصداقية والهيمنة، وفي ضرورة الاصلاح عليها تقديم تنازلات، ولاشك أن بين هذين التجاذبين تكمن خيارات الطبقة الحاكمة، وتعكس العقلية المسيّرة لدفة الحكم.

لا ريب أن ما تكبّدته الدولة في معركة الأمن كان فادحاً للغاية حتى الآن بالرغم من أن المعركة لا تزال غير محسومة وليس هناك ما يشير في الأفق الى نهاية قريبة أو منظورة لها، بل هناك من الدلائل المشفوعة بمعطيات عديدة وحقائق مادية على الارض على أن دورة العنف مرشّحة للاتساع والتصاعد. ولاريب أيضاً بأن الطبقة الحاكمة حسمت خيارات العلاج، من خلال تحويل البلاد برمتها الى ساحة مواجهة مع جماعات العنف (فيما يتم إغفال وبصورة متعمدة المشكلات العميقة والمتراكمة والمسؤولة عن توليد ظواهر عنفية كالتي تجري الآن) وهذا يجعل المواجهة في نهاية المطاف محصورة بين طرفين الحكومة وجماعات العنف.

في معركة الأمن تعزل الطبقة الحاكمة الجمهور عن المشاركة في الشأن العام وبمرور الوقت قد تتعزز القطيعة بينهما، بل قد ينقلب الجمهور في وقت لاحق ضد الدولة اذا فشلت في تسوية مشكلة الأمن ومصادرها الحقيقية وأسبابها الجذرية.

إن إلحاح الدولة على تحويل المواطن الى رجل أمن يعكس الشعور بحرمان الطبقة الحاكمة للدعم الشعبي والاصطفاف الداخلي، خصوصاً مع إدراك هذه الطبقة بأن المواطن ـ رجل الأمن الافتراضي يعيش معضلة العيش الكريم، ويحمل بداخله حنقاً متنامياً على الدولة التي ينظر اليها بوصفها مصدر شقائه، ويحمّلها مسؤولية معاناته، بسبب إخفاق مشروعها التنموي والتي إنعكس بصورة تلقائية وطبيعية في فشل سياساتها الأمنية.

إن تحدي الأمن يحفّز الرغبة الجامحة لحماية السلطة، أما ضرورة الاصلاح فهو ينبع من الاحساس بوجود وطن وهذا يمثل مأزق جوهري، ويعكس الى حد كبير فلسفة الحكم في بلادنا. إن الاستنفارات الأمنية الواسعة وحشد مؤسسات ومقدرات الدولة لمجابهة الخطر المحدق بالسلطة وحدها يجعل إمكانية ولادة وطن والاحساس به عسيرة، لأن السلطة والوطن يتحولان بفعل أداء الطبقة الحاكمة الى نقيضين لا يجتمعان في استراتيجية عمل موحدة، بخاصة حين يراد من السلطة أن تكون هدفاً نهائياً على حساب الوطن نفسه الذي يشيّده الاصلاح.. حينئذ تصبح المعادلة على النحو التالي: الأمن للسلطة والاصلاح للوطن.

وحين تقدّم الطبقة الحاكمة أولوية الأمن فهي تقدّم السلطة على الوطن.. إن الاعتراض الافتراضي على  كون هذا الزعم يتقوّم على الفصل بين الأمن والاصلاح والسلطة عن الوطن هو اعتراض يقبع في الاطار النظري بدرجة أولى وأساسية، إذ الصحيح هو أن الاصلاح والأمن عنصران متلازمان ومتكاملان، تماماً كما أن السلطة والوطن مكوّنان رئيسيان ينتميان الى مجال مفهومي واحد في عالم السياسة.. ولكن من الناحية العملية، وكإحدى التمظهرات البارزة لأزمة الدولة في بلادنا، فإن السلطة تصبح نقيضاً للوطن حين يصبح الوطن مفصولاً عن شروط تحقيقه، أي حين ينفصل عن مكوّناته الأخرى الضامنة لتحويله الى استراتيجية علاج شامل.

(التحرير)

  العدد السادس عشر - مايو 2004