نموذج للكتب الإقصائية والتكفيرية التي تطبع في المملكة

حـول الـمـوسـوعـة الـمـيـسّـرة

 محمد بن علي المحمود

 قبل أن أذكر رأيي في هذه الموسوعة، أشير إلى أن عنوانها الكامل (الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة) صدرت عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي في طبعة خامسة (2003/1424) بإشراف الدكتور مانع بن حماد الجهني. وقد ظهرت في هذه الطبعة، بعد تنقيح! وزيادة، بحيث بلغت صفحاتها (1224) في مجلدين كبيرين.

وجدير بالذكر؛ أن الخلل الذي تضمنته هذه الموسوعة، ليس بأكثر مما تتضمنه كثير من الكتب التي تكتسح سوق الكتاب الإسلامي. بل إن كثيرا من تلك الكتب (الإقصائية!) التي راجت، أكثر خطلاً، وأوضح اضطراباً، وأشد ضرراً، وأقل فائدة، من هذه الموسوعة بما لا يقاس.

لكنني أرى ان هذه الموسوعة أولى من غيرها بالنقد؛ لأنها تختلف عن غيرها من كتب الإقصاء التي يكتب لها الرواج. وهذا الاختلاف الذي يستدعي مزيداً من الاهتمام ظاهر في أمور، أهمها:

1- هذه الموسوعة ليست معنية بتتبع ظاهرة معينة، ولا نقد مذهب محدد، ولا توصيف دين من الأديان، وإنما أخذت على نفسها - كما يشهد بذلك العنوان - أن تتناول كل ما له حضور واضح، من الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة كافة. بمعنى أن المشهد الإنساني المعاصر بكل تنويعاته الدينية، والمذهبية والطائفية يقع تحت طائلة تصنيفها، فهي بهذا، ستأخذ ميداناً فسيحا لها في الحراك السلوكي المتعين، كنتيجة طبيعية لاتساع دائرة الاهتمام.

وهذا الاتساع في ميدان الاهتمام، سيجعل من الأخطاء المنهجية والعلمية - وإن كانت ضئيلة وخافتة - ذات أثر كبير في توجيه الفكر والسلوك؛ لكونها تطرح كمرجع معتمد فكرياً، ولكونها عملاً في التصنيف قبل الوصف، ما يستدعي سلوكاً ما، تجاه المصنف. خاصة وأنها - لحيثيات كثيرة، ليست العلمية من بينها - تأخذ حظاً وافراً من الرواج.

2- أنها بصدورها عن الندوة العالمية للشباب الإسلامي تصبح خطاباً موجها - بالدرجة الأولى - إلى الشباب. وإذا كان بديهياً أن الطرح ليس موجها - على سبيل القصر - إلى فئة الشباب، فإن بنيتها (الميسرة/ المختصرة) تجعل من هذه الفئة - وما تقاطع معها في مستوى الوعي - هدفاً استراتيجياً لهذه الموسوعة.

إذن، فهي ليست رصداً توثيقياً فحسب، ولا توصيفاً لماض قد اندثر، ولم يعد له فاعلية في الحراك الراهن، وإنما هي عمل للحاضر والمستقبل، تأخذ في حسبانها صياغة الأجيال القادمة على نحو مؤدلج، وتطمح من خلال هذا الطرح الى المساهمة في صناعة المستقبل للأمة الإسلامية جمعاء، فضلاً عن طموحها في أن تقدم (إسلامها الصحيح!) إلى الآخر، بحيث تنجر من إحراجات واقعية التنوع الإسلامي.

3- هذه الموسوعة منتج مؤسساتي، تتبناه مؤسسة ذات كوادر مؤهلة، تأخذ على عاتقها مراجعة ما يصدر عنها، كما أنها - كما صرح المشرف بذلك في المقدمة - تأليف جماعي، تجاوب مع تنبيهات كثيرة على الطبعات السابقة. ومن ثم، فهي ليست عملاً فردياً، لا من حيث تبني العمل ككل، ولا من حيث العمل التأليفي البحت.

وبما أن العمل الفردي إنما يعبر عن الرأي الخاص لمنتجه - مهما ادعى لنفسه الحديث باسم العام - فإن هذا المنتج الفردي لا يخضع للمحاسبة نفسها التي يخضع لها المنتج الجماعي؛ لأن المتلقي يدرك ان المنتج الفردي يخضع لمستوى منتجه العلمي من جهة، ولتحيزاته العاطفية المتلبسة بظروف واقعه العام والخاص من جهة أخرى. وبهذا، فالقصور، والزلل، والتحيز، وعدم التراجع عن الآراء التي تظهر مباينتها للحقيقة في الطبعات السابقة، كل ذلك ليس بمعزل عن المنتج الفردي، بل هو مظنة أن يتلبس به، والمتلقي (الواعي) يعي هذه الحقيقة، ويتعامل مع كل منتج فردي على هذا الأساس.

لكن، إذا كان العمل جماعيا، ويصدر - في الوقت نفسه - عن موسسة تتبناه، بحيث لا تخرج الآراء المطروحة فيه إلا وهي تعبر عن رأي المؤسسة، بعد مساهمة الجميع - عبر آليات العمل الجماعي وشروطه - في صياغته، بحيث لا ينفرد أحد ببلورة رأي، ولا تشكيل رؤية، إذا كان العمل كذلك فإن مستوى الصوابية (الصواب معضلة في التفكيك، ولكن المراد هنا: القرب من التوصيف الدقيق للواقعي، وظهور مستوى مقبول من الحياد) لا بد أن يكون عاليا، ولا بد أن تكون المنهجية العلمية المحايدة مقبولة لدى أكثرية الباحثين، شرط أن يكون من هؤلاء الباحثين من يختلف ايديولوجيا مع من يصوغ العمل بحياد!.

إن الخطورة في العمل الموسوعي ذي الطابع الجماعي (خاصة إذا كان يصدر عن جهة تمنحها الجماهير ثقتها) تكمن في أن المتلقي يتعامل معه وكأنه صورة من صور الإجماع. أي يعبر عن آراء مرجعيات علمية محل ثقة في كفاءاتها العلمية، فضلاً عن ثقته المعرفية فيه، باعتبار المعلومة قبل تظهر على صفحات الكتاب تكون قد خضعت - كما يفترض - لخطوات اجرائية عديدة، بدءاً من الاستقصاء الشامل وانتهاء بالتحقيق والمراجعة، كما هو المفترض في أي عمل موسوعي. ومن ثم، فعلى كل عمل يطمح في أن يكون مرجعية علمية لشرائح عريضة من المجتمع الإسلامي أن يكون مستوى الجهد المبذول فيه، ومستوى الحياد - النسبي على الأقل - على مستوى الطموح الذي تستدعيه العنونة من جهة، ويستدعيه طابع الإصدار المؤسساتي من جهة أخرى.

وإذا كان ليس قصدي - هنا - أن أتتبع كل ما في هذه الموسوعة من تحيز وقصور معرفي، ولا أن أصرح برأي خاص؛ لأسباب كثيرة ليس أقلها السياق المتاح، فإنني سأعمد الى الإشارة - والحر تكفيه الإشارة - إلى ما يلي:

1- الموسوعة تصدر عن الرؤية السنيّة، ولا ضير في ذلك من الناحية المعرفية؛ لأنه قد تم التصريح بذلك في المقدمة بوصفها (الميزان الضابط، والحكم العدل على ما عداه من فرق ومذاهب) (15/1). لكن عند التعرض للمذاهب والأحزاب السنية تمت مؤاخذتها على (مآخذ!) انطلاقا من مذهب إقليمي، باعتباره معيار الحقيقة الخالصة، ولم تتم مؤاخذة هذا المذهب بشيء إلا شدة في بعض الأتباع، وإغفال للمعاصرة تم تداركها قبل أن تصبح تهمة!.

وعند عرض مذهب أهل السنة، بوصفه التصور الصحيح للإسلام تم الحديث عن أن منهجهم أنه (يجوز قتال أهل البدعة والبغي وأشباههم، إذا لم يمكن دفعهم بأقل من ذلك، وقد يجب بحسب المصلحة والحال) (41/1) ولاشك أن إطلاق هذه العبارة من غير تفصيل لماهية البدعة، ومستوياتها، والـ (أشباه) الذين لم يتم تحديدهم، فيه خطورة كبيرة، خاصة في كتاب موجه للشباب ومتوسطي الثقافة، اضافة أنه كتاب رائج (ومروج) في الوقت نفسه.

إن قسوة الحكم (قتال) وشرعنته كانت تستلزم سكوتا عنه في هذا الطرح (الميسر!) أو تفصيلاً للموضوع وللحكم؛ حتى لا يغترّ بهذا الطرح أحد، وليكون من الممكن مناقشة ما فصل من أحكام؛ لأن هذا الحكم الخطير، مع عدم تحديد المستهدف على نحو دقيق، يؤسس لمشروعية قتال المخالف، حتى عند أدنى مخالفة، إذ يستطيع من شاء - بدعوى محاربة أهل البدع وأشباههم! - قتال (إرهاب) من شاء، وباتكاء منه على موسوعة (علمية!) معتمدة، ذات طابع مؤسساتي.

ولعل من الحسنات التي تحسب للموسوعة ما جاء فيها من أنه (لا يجوز تكفير أو تفسيق أو حتى تأثيم علماء المسلمين لاجتهاد خاطئ أو تأويل بعيد خاصة في المسائل المختلف فيها) (43/1) وهذا بلا شك يؤسس لتعدد الرؤى، وتفهمها في الوقت نفسه.

وهذا التقبل المتسامح للاختلاف يظهر حتى في الاختلاف المذهبي، أي خارج المذهب الواحد، فقد جاء في الموسوعة أن (الشيعة الإمامية الاثنا عشرية هم تلك الفرقة من المسلمين الذين زعموا أن علياً أحق في وراثة الخلافة) (51/1). وظاهر أن جملة (من المسلمين) تبعد شبح التفكير الذي يطغى على الخطاب التقليدي. ولكن - للأسف - يأتي الاتهام للمختلف المذهبي من ناحية أخرى، عندما تقول الموسوعة عن الشيعة الإمامية (ومن شخصياتهم البارزة تاريخياً عبدالله بن سبأ وهو يهودي من اليمن) (52/1) هكذا، اتهام بلا دليل، مع توثيق جازم لدور هذه الشخصية في الهامش، واتهام المشككين بها بالتأثر بالاستشراق!.

2- كما يظهر الابتسار في هذا العمل، ذي الطابع الموسوعي!، وكأن المقصود به مجرد اتهام فحسب، وليس قراءة لمشروع، تقول الموسوعة: (وهكذا نجد أن المعتزلة حولوا الدين الى مجموعة من القضايا والبراهين المنطقية وذلك لتأثرهم بالفلسفة اليونانية وبالمنطق الصوري الأرسطي خاصة) (69/1). ومع اختلافنا مع المشروع الاعتزالي في بعض مناحيه - الرؤية العقدية خاصة - إلا أن اختزاله في هذا الاتهام ينبع من تصنيف مذهبي فحسب، لا يأخذ المعاينة الموضوعية في حسابه.

ولا تظن أن هذا اتهام لأمة منقرضة!، أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يبق منها إلا تراثها الفكري. بل هو تأسيس لاتهام الحراك الفكري الحر، وتنويعاته المعاصرة، وهذا ما يظهر في اتهامها للفكر الجديد، إذ تقول: (يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفا عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوبا جديدا، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل.. العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي) (72/1). وبهذا دخلت جميع أطياف المعاصرة الإسلامية في دائرة الاتهام الاعتزالية!، ومن ثم، فلا عجب حين تتم الإشارة بعد ذلك إلى رموز الفكر الإسلامي الحديث باعتبارهم امتداداً للاعتزال المتهم سلفاً، مثل: محمد عمارة، وهويدي، والعوا، وحسن الترابي.. الخ، انظر ( 73/1و74).

3- الحداثة كأدب وكرؤية فكرية شمولية ذات طابع تعددي، كانت ضحية الجهل والكسل العلمي والرؤية الضيقة، والعداءات الشخصية ربما، وإلا فكيف يتم تعريف الحداثة في هذه الموسوعة بأنها (مذهب فكري أدبي علماني، بني على أفكار وعقائد غربية خالصة مثل الماركسية والوجودية والفرويدية والدارونية) (867/2). ما كان لهذا الخلط العجيب أن يكون لولا الجهل الفاضح بالحداثة، بحيث لا تتعدى محاولة الفهم الجمع والتلفيق.

وإذا كان هذا هو مفهوم الحداثة لدى صانعي الموسوعة فإن أهداف الحداثة لديهم تأتي وفق هذه العلمية المميزة، في هذه القصيدة الهجائية العصماء، التي قالوا فيها: (تهدف الحداثة إلى إلغاء مصادر الدين، وما صدر عنها من عقيدة وشريعة وتحطيم كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، بحجة أنها قديمة وموروثة، لتبني الحياة على الإباحية والفوضى والغموض، وعدم المنطق والغرائز الحيوانية، وذلك باسم الحرية والنفاذ إلى أعماق الحياة. والحداثة خلاصة مذاهب خطيرة ملحدة) (867/2). وقالوا ايضا: (إن الحداثة خلاصة سموم الفكر البشري كله، من الفكر الماركسي إلى العلمانية الرافضة للدين، إلى الشعوبية، الى هدم عمود الشعر، إلى شجب تاريخ أهل السنة كاملا، إلى إحياء الوثنيات والأساطير) (869/2).

ثم يذكرون بعد ذلك أهم خصائص الحداثة، فيكون منها:

- محاربة الدين بالفكر والنشاط.

- الحيرة والشك والقلق والإرهاب.

- تمجيد الرذيلة والفساد والإلحاد.

- الهروب من الواقع إلى الشهوات والمخدرات والخمور... الخ الخصائص! (871/2).

أظن أن الجهل واضح هنا لأدنى قارئ في الثقافة المعاصرة، ولكن ليس هذا هو المهم، وإنما المهم أن هذه الموسوعة المعتمدة كمرجعية سيأخذ منها شبابنا تصوراتهم عن الحداثة، ولك أن تتصور شاباً - فضلاً عن باحث أكاديمي متأدلج - يأخذ تصوره عن الحداثة من هذه الجمل، ثم يرى أو يسمع من أدبائنا أو نقادنا من يقول عن نفسه: إنه حداثي، أو يتهمه الآخرون بذلك. لا شك أنه سيراه متصفاً بكل تلك الصفات السابقة التي عرفت بها الموسوعة الحداثة، وهل سيبقى الحداثي في نظره - إذا اعتمد هذه الموسوعة كمرجع علمي - مؤمناً أم كافراً؟!

وقد ذكروا في آخر الكلام على الحداثة مراجع للتوسع! فكانت أربعة مراجع، ثلاثة منها ألفها أعداء للحداثة، واثنان منهم خاضا معارك حامية الوطيس مع الحداثة المحلية. وإذا كانت هذه هي المراجع التي يطلب فهم الحداثة من خلالها فلا تستغرب نتيجة البحث، إذ كيف تريد للحقيقة أن تأتي من مؤلفات الخصوم، فقد أصبح الخصم حكماً، وللأسف فهم خصم لم يفهم الحداثة أصلاً.

ولن أختم إلا بنادرة من هذه الموسوعة، ستضحك كل من كان ذا إلمام بالنقد الأدبي الحديث. لقد قالوا عن البنيوية: (ويمكن تصنيفها ضمن مناهج النقد المادي الملحدة) (897/2) وقالوا: (يتضح مما سبق: أن البنيوية منهج فكري نقدي مادي ملحد غامض) (899/2) وبدون تعليق، ولا أقول إلا: اضحك الآن بملء فيك.

(عن الرياض، 6/5/2003)

  العدد السادس عشر - مايو 2004