علاقة الهيمنة والجمود تسودها
النخب في المملكة العربية السعودية
د. خالد الرشيد
لا يُقصد بكلمة (النخبة) هنا، مجموعة الأفراد المتميزين في
المجتمع.. وإنما نقصد بها في هذا المقال الطبقة او المجموعة من
الأفراد الذين ينظرون الى أنفسهم وكأنهم مختارون من قبل الجمهور
أو بالطبيعة لكي يقودوا المجتمع ويسيطروا على الحكم. أي اننا هنا
نقصد بكلمة (النخبة) الطبقة أو الجماعة أو الأفراد الحاكمون
الذين يستشعرون بأنهم أحق بإدارة دفة الدولة سواء كانوا منتخبين
أو لأن الأقدار ساقتهم لأن يكونوا على رأس الحكم.
هناك
اتفاق بين من نظّروا لدور النخب (ونقصد بها السياسية الحاكمة)
بأنهم لا يشكلون سوى أقليّة تمارس دوراً مهيمناً على النشاط
السياسي وتسيّر معها إرادة الأكثرية، والخلاف إنما يدور حول مدى
هيمنة تلك النخب ومدى اتساع دورها وأهميته، وليس في أصل الدور،
أي في حدوده فحسب.
النظرية التقليدية للنخب
هناك نظريتان بشأن دور النخب، واحدة كلاسيكية (Elitism)
برموزها، موسكا ومايكلز وبارتو، والأخرى تعددية (Pluralist)
أشبه ما تكون بتطوير للنظرية التقليدية. في الأولى تؤكد النظرية
التقليدية على أن النخبة (الحاكمة) هي واحدة منسجمة تسيطر على
شؤون المجتمع في كل مستويات النظام السياسي، وتدير الوظائف
السياسية في الجهاز وتهيمن على مصادر القوة. وحسب هذه النظرية
فإأن النخبة الحاكمة حتى لو انتخبت جزئياً، فإن انتصارها لا
يتحقق بالأدوات الديمقراطية الإنتخابية فحسب. وعلى هذا فإن
الحديث عن ان الشعب هو الذي يحكم الدولة في المجتمع الديمقراطي
مجرد وهم، كما يقول هؤلاء؛ ذلك أن النخبة لا تستطيع أن تسيطر على
المجتمع بمجرد الأدوات والميكانزمات الإنتخابية. وترى النظرية
التقليدية أن النخب الحاكمة تستجمع قوة تراكمية تعطيها الفرصة
لإضافة المزيد منها، أو لتحصيل منافع ومكانة إجتماعية في مجال
زيادة الثروة لأعضاء النخبة، أو في المجال التعليمي حيث يحظون
بالأفضلية، أو في المقام الإجتماعي، وهي أدوات تعزز مداخل
السيطرة والوصول الى المزيد من السلطة السياسية. يتحدث موسكا
كرائد من رواد النظرية التقليدية عن الطبقة السياسية (Political
Class)
والتي يعرفها بشكل موسع بحيث تشمل ليس فقط أصحاب القرار الرئيسي
بل حتى أولئك الذين يمتلكون تأثيراً على صناعة القرار الحكومي.
أما تغيير النخب، فالنظرية التقليدية ترى أن صناعتها ضمن ما يعرف
بـ (دورة النخب) تنشأ من خلال: الثورات التي تأتي بنخب سياسية
جديدة وتستبعد أو تقوم بتصفية النخب السابقة المنهزمة. كما أنها
قد تنشأ من خلال الإحتلال والضم لمناطق جديدة، كما هو الحال في
المملكة العربية السعودية، حيث تقوم النخبة المنتصرة عسكرياً
بإفناء نظيرتها في المناطق المحتلة ـ قتلاً أو طرداً ـ وتسويد
نفسها عليها. ويمكن أن تنشأ النخب من خلال السيطرة على وسائل
ومصادر الإنتاج التي عادة ما تثمّر قوتها الإقتصادية لتؤثر أو
تشارك في صناعة القرار السياسي ـ حسب النظرية الماركسية؛ ذلك ان
القدرة المالية العالية تبحث عن مظلّة سياسية للحماية من جهة،
عبر المشاركة في صناعة القرار او التأثير المباشر فيه، كما أن
صنّاع القرار السياسي يبحثون أيضاً عن تثمير لمواقعهم السياسية
على شكل مردود مالي والسيطرة على وسائل انتاجية أو ثروات طبيعية.
وبهذه المناسبة نشير مثلاً الى أن الملك عبد العزيز نصح أولاده
الذين أصبحوا ملوكاً بأن يضعوا خطاً فاصلاً بين (السياسة
والتجارة) وأمرهم بأن لا يتدخلوا في شؤون التجارة (التي كانت قبل
النفط مصدر المال) حتى لا يتدخل التجار في شؤون السياسة التي هي
حكر على الأمراء. ومثل هذه النصيحة نعلم أنه لا يمكن تطبيقها
بالصورة التي نصح بها الملك العجوز، فقد جرى اختراق ميدان
الإقتصاد من كل أبوابه من قبل الأمراء واستحوذوا على الثروة،
ولكنهم الى هذا اليوم لا يريدون أن يقترب أحدٌ من محيط سلطتهم
السياسية، ويرفضون كل المبادرات التي تدعو الى المشاركة الشعبية،
أو مشاركة الفئات الإقتصادية الكبرى في البلاد.
ووفق النظرية التقليدية للنخب، فإن هناك ميلاً لاعتبارها نخباً
محافظة، وتسعى لترسيخ قيم المحافظة الدينية والإجتماعية، وترتيب
علاقات متوازية مع رجال الدين وقيادات المجتمع التقليدية
لإبقائها غير بعيدة عن مركز النخبة الحاكمة ولكن دون أن تصل الى
صلب عملية اتخاذ القرار السياسي.
والسؤال المهم الذي تحاول أن تجيب عليه النظرية التقليدية هو:
كيف يمكن للنخب الحاكمة أن تتهرّب من سيطرة الأكثرية. هنا تطرح
عدّة وسائل متنوّعة الإستخدام في البلدان الديمقراطية وغيرها.
بالنظر الى (وجود) سيطرة على مراكز القوة في الدولة، فإن النخب
تتمتع بحسّ تآمري للإستفراد بالسلطة، يدعمها في ذلك نوع من
التنسيق والتنظيم فيما بين أعضائها، وربما توجد علاقات قرابية
بين المسيطرين، يتمتعون بالكفاءة واللياقة العملية والخبرة
الشخصية بحيث يجعلهم ذلك في موقع ليس فقط يكونوا معه قادرين على
استغلال الأكثرية والحفاظ على هيمنتهم عليها، بل بإمكانهم أن
يعضدوا تلك السيطرة عبر توليد القوة وتوسيعها، فالسلطة تجرّ الى
مزيد من السلطة، والثروة تجر الى المزيد منها، خاصة اذا ما
اقترنت بنخب نالت حظاً أكثر من التعليم ومن الخبرة.
تستطيع النخب منع المشاركة الشعبية كوسيلة للحفاظ على السلطة،
كما هو في المملكة اليوم، وتستطيع أن تهندس لها نظاماً انتخابياً
محدوداً يكرّس لها السيطرة ويبقي الأكثرية تمارس دوراً هامشياً
في صناعة القرار، كما هو واضح في اكثر من بلد في العالم، وتستطيع
أن تتلاعب بمجرى العملية الإنتخابية بقمع الناخبين وتهديدهم أو
منعهم (مصر في انتخاباتها النيابية الأخيرة مثالاً) كما تستطيع
أن تستخدم الرشوة، وتستخدم الإعلام الرسمي بكفاءة لخدمة مصالحها.
وفي حال تطوّرت الأوضاع لغير صالح الأقلية النخبوية، فإنها تحاول
أن تسيطر على المفاصل الرئيسية فقط، وتدخل أحياناً أفراداً آخرين
ضمن المستويات الدنيا، في عملية استيعابية، قد تنجح أو تفشل. وفي
الجملة فإن النخب الحاكمة تتمتع بقدر كبير من مهارات السيطرة
والخداع وتستخدم كل الأدوات المشروعة وغير المشروعة في البقاء
مهيمنة على صناعة القرار ومفاصل الإقتصاد الوطني.
تحدّي
السيطرة بالإستيعاب
نقطة ضعف النخب، حسب النظرة التقليدية، تتمحور حول قدرتها على
تجديد نفسها، باستيعاب النخب الناشئة من خارج محيطها، والطموحات
الشعبية التي قد تفرز ثورات متتالية أو عنفاً يطيح بالنخب ويأتي
بغيرها. قوة النخب تقاس بقدرتها على إفساح الطريق لأعضاء جدد
وادماج المختلف عبر تسويات ضمن الطبقة الحاكمة نفسها.. وتنبع
أهمية التجديد من زاوية أخرى لا تقلّ أهمية، فالنخب قد تصبح
معزولة مع الزمن، وما استيعاب الأعضاء الجدد إلا دليلاً على قدرة
في التواصل مع الجمهور وطموحاته ورغباته عبر ذات الأعضاء الجدد
الذين قد يكونوا قادرين على إشعال الثورة والإنتفاضة بوجه
الحاكمين.
وهنا يدور النقاش حول حجم النخبة الحاكمة، فهل من الصالح أن تكون
صغيرة الحجم أم كبيرة؟ وكيف يمكن قياس ذلك؟ هناك اختلاف في تحديد
النخبة الحاكمة، فهل هي تشمل مجرد صناع القرار الرئيسيين، ام
ينخرط معهم المؤثرون والمنفذون للقرار؟ ان ذلك يعتمد على رسم
الحدود الفاصلة بين (المؤثرين سياسياً) و (الأقل تأثيراً) او
بتعبير آخر بين المستويات (العليا والأدنى) لصناعة القرار.
في كثير من الأحيان، كلما تقلّصت دائرة النخبة في الطبقة
الحاكمة، فإن ذلك يؤذن باضمحلالها. فالمهم ليس صناعة القرار
فحسب، بل المنفذون والمبررون له، وهؤلاء يقعون في الطبقة الأدنى
لصناعة القرار.. وتنبع أهمية هذه الطبقة الدنيا أنها (عامل
توصيل) بين النخبة العليا وبين المجتمع، بين الحاكم والمحكومين،
وهي تقوم بإيصال المعلومات وتوفير المبررات وشرح السياسات،
وتنفيذ القرارات، وهي فوق هذا الطبقة التي يجب أن ترتفع من
مستوياتها الأدنى لكي تحتل مواقع في أعلى سلم النخبة الحاكمة،
وهذه إحدى وسائل تجديد الدماء فيها، بحيث تكون بوتقة التوظيف
والنخل لأعضاء النخب الجديدة للصعود الى الأعلى.
حين لا ينظر الى الطبقة الأدنى (البيروقراطيون الكبار
والتكنوقراطيون في الوزارات والمؤسسات الكبرى) كجزء من النخبة
الحاكمة، ويتعاطى معها وظيفياً، كمجرد أداة، لا مشاركة حقيقية
لها، وحين لا يُرتفع بدور أعضائها لتبوّء مقعد في صناعة القرار
العلوي، كما هو الحال في المملكة، يختلّ الوضع، ولا تصبح الطبقة
الأدنى موصلاً صالحاً لقرارات الأعلى فلا تنفذها، أو لا تنفذ ما
لا ترغب فيه، ولا تستطيع أو لا تتحمس لإيجاد مبررات للنظام، بل
قد تفسد وتصبح عامل تخريب في جهاز الدولة وتعطيله عن الفعل،
فضلاً عن أنها قد تقوم بنفسها أو عبر أفعالها بتشكيل الرأي العام
المحلي ضد الطبقة الحاكمة، ومن ثم لا تستطيع أن تتحول الى عامل
حشد للجمهور خلف سياسات النظام السياسي، ونحن نشهد مثل هذا
واضحاً في كثير من أجهزة الدولة السعودية اليوم.
النخبة الحاكمة في المملكة صغيرة للغاية، فصناع القرار الرئيسيون
لا يزيدون عن 5 أمراء كبار، يليهم طبقة من الأمراء أيضاً يساهمون
في صناعة القرار كأمراء المناطق وبعض الأمراء في الأجهزة
العسكرية والأمنية والسياحية والرياضية والدبلوماسية وهم لا
يزيدون عن خمسين شخصاً. ويلي ذلك طبقة التكنوقراط كالوزراء
ووكلاء الوزارات إضافة الى طبقة الشخصيات الكبرى في المؤسسة
الدينية كأعضاء هيئة كبار العلماء وكبار القضاة وغيرهم، ويمكن
تقدير هؤلاء جميعاً بمائتي شخص فحسب. لكن هذه المجموعة في الجملة
لا تلعب دور الوسيط الذي تحدثنا عنه، فهي إما تعمل لنفسها بصورة
جمعية كالمؤسسة الدينية، أو تعمل لذات أفرادها ومصالحهم بشكل غير
منظم، ولا يأمل هؤلاء أن يكونوا جزءً من صناعة القرار المباشر،
بقدر ما يقومون بأدوار وظيفية محضة، يطبقونها في بعض الأحيان
خلاف رغباتهم، أو يتجاوزون القرارات فيمنعون تطبيقها وتموت دون
إصدار شهادة وفاة. الطبقة الدنيا هذه ليست في الجملة ـ عدا بعضاً
من رجال المؤسسة الدينية ـ حامية ولا مدافعة عن النخبة الملكية
الحاكمة، ولا تستطيع حماية مواقعها، وهي ليست حاضنة تجديد
(النخب) ولا مساهمة في (صناعتها). وهذا ما يجعل من النخبة
الحاكمة من الأمراء معزولة بقدر لا يستهان به عن الجمهور، وغير
قادرة على استشفاف تطلعاته وطموحاته وآرائه.
يضاف الى هذا، فإن صغر حجم النخبة الحاكمة يهدد سيطرتها، خاصة
اذا ما ترافق ذلك مع ضعف قدرتها على التنظيم.. فكلنا يعلم بأن
الخلافات داخل النخبة الحاكمة شديدة، بحيث أصبحت الدولة مجرد
إقطاعات موزّعة الأشلاء. ميزة النخبة أنها قادرة على إدارة جمهور
متشظّ، عبر توحيد أعضائها وانسجامهم كقوّة موحدة ضاربة؛ وكلما
ضعف التنظيم، وصغرت أعداد النخبة الحاكمة كانت قدرتها على إدارة
الجمهور أضعف، وهذا واضح لكل من له عين بصيرة حين النظر الى
الدولة السعودية التي أصبحت دولة (تسير بالبركة)!
يؤخذ على الجمهور عادة أنه متلقّي لا إبالي بالسياسة وهو لا
يمارس فعلاً سياسياً إلا إذا تعرّضت مصالحه للخطر.. بمعنى آخر،
فإن الجمهور متذرّر غير طموح للقيادة، وأفراده محكومون ببيئتهم
المحلية، ولا يمتلكون نظرة شاملة للأوضاع، وبالتالي فهم غير
قادرين على العمل ضمن إرادة واحدة إلا في حالات صعبة للغاية
واضطرارية وفي حال توفر قيادة نخبوية (معارضة أو حاكمة).. وهذا
ما يعطي الفرصة للنخبة الحاكمة الموحدة أن تواجه التحديات بثقة
واقتدار! وهي تقوم في الغالب بتكسير العصب القيادي لكل الأعمال
الشعبية التي يأتي منها التحدّي بالإعتقال (نموذج ذلك اعتقال
الناشطين الإصلاحيين في المملكة في 16 مارس الماضي) أو عبر
اجتذاب بعض رؤوس التحرّكات المعارضة او الإصلاحية وإغرائها لتكون
ضمن الطبقة الدنيا في النخبة سياسياً او عبر الرشوة المالية.
العقيدة
السياسية لنظام الحكم
لا تستطيع النخب الحاكمة الإستمرار في الحكم بأدوات السيطرة
المادية، فالنخب أياً كان توجهها وفي أي محيط وجدت فيه، تحتاج
الى (عقيدة سياسية) تشرعن من خلالها سيطرتها واستحواذها على
السلطة ومقدراتها. فائدة العقيدة السياسية أنها تسمح للجمهور بأن
يعتبر نفسه محكوماً وفق مبادئ روحية ومعنوية وهي بهذا تقدّم
مسكّناً ومضللاً للجمهور في آن واحد، بأنها تُحكم وفق الضوابط
الأخلاقية ووفق القيم (المحافظة عادة) وكثيراً ما يتخذ هذا
الخضوع تضليلاً متعمّداً للذات من قبل أفراد الجمهور، بقصد تحقيق
الرضا الداخلي النفسي وعدم الدخول في مواجهة مع السلطات قد تكون
مكلفة.
وتصطنع النخب أو تستعير منتجات أيديولوجية مختلفة (اشتراكية،
ليبرالية، ديمقراطية، قومية، دينية) تعمل على وضعها في إطار محلي
يتناسب مع طبيعة (المستهلك). وفي المملكة، كانت الأيديولوجية
دينية مذهبية (وهابية) يدخل في إطارها منظومة من القيم القبلية
التي لا تتماشى بالضرورة مع المفاهيم الدينية، مع استبعاد كامل
لكل المفاهيم الديمقراطية. في أفضل أحوالها، كانت الأيديولوجيا
الوهابية غير كافية لشرعنة حكم النخبة العشائرية لكونها مذهباً
غير وطني، وإنما يخص سكان منطقة بعينها. وفي أسوأ الأحوال، هو ما
نراه اليوم، أن الوهابية تقوم بشرعنة الخروج على النظام بدل أن
تكون وسيلة تخدم مشروع النخبة العشائرية السياسي. ومشكلة النخب
الحاكمة في المملكة أنها لا تمتلك أيديولوجيا سياسية مقنعة،
فضلاً عن أن تلتزم هي بها، ولذا فهي تعوّل على استخدام القوة
والعنف أكثر (لاحظ التصريحات التي تكرر مقولة أن الأمراء أخذوا
الحكم بالسيف وأنهم لن يتركوه إلا لمن يحمل سيفاً مماثلاً
يقاتلهم به وينتصر به عليهم).
يفاقم من المشكلة أن أيديولوجيا سياسية بديلة بدأت تنتشر بين
المواطنين كبديل لأيديولوجيا النظام، حيث يزداد الإقتناع بضرورة
الديمقراطية والمشاركة الشعبية واحترام مفاهيم حقوق الإنسان. لكن
الأيديولوجيا الشعبية (الديمقراطية) لاتزال أضعف من أن تواجه
أيديولوجية الحكم (الوهابية) حتى وإن لم ترضخ النخب الملكية
لمتطلبات الأخيرة. وهذا أدّى ويؤدي الى احتقان سياسي وأمني بين
الجمهور الليبرالي أو الديني السلفي وبين النظام السياسي، ولا
يوجد هناك من حلّ واضح لهذه المسألة في الوقت القريب، ولكن يمكن
التوقع بأن شرعية النخبة الحاكمة وأيديولوجيتها الى انحدار
متسارع، قد تسفر عن إنفجارات عنف متواصلة أكثر مما شهدناه خلال
العامين الماضيين.
النظرية
التعددية للنخب
وهي
لا تختلف عن النظرية التقليدية في الخطوط العامة، ولكنها تبحث عن
بعض ثغراتها في التفاصيل. فالنظرية هذه ترى بأن ليس من الضروري
ان تكون النخبة موحدة لتستمر، ولا ترى أن سلطة النخب يصعب ضبطها
ضمن السيطرة الشعبية، كما لا ترى أن الأكثرية لا تحكم، وإن
الجمهور يمتلك القدرة على فرض إرادته، وفي بعض الأحيان لا يستطيع
لأنه مهمش من القوة والسلطة ومبعد عنها. وتضيف هذه النظرية بأن
النخب الحاكمة يمكن أن تواجه ويحدّ من تسلّطها من خلال جماعات
الضغط التي تشكل سلطة موازية لسلطة النخب على الدولة.
وتنتقد النظرية التعددية نظيرتها التقليدية في موضعين مهمين،
أولهما اجرائي ويتعلق بتعريف النخبة ومن ينضوي تحتها، فالنخب
السياسية قد تسيطر على السياسة، ولكن السياسيين متغيرون وكذا
السياسات. فمن يسيطر على النخبة يسيطر على السياسة. وثانيهما
يتعلق بالمنهجية، حيث تجادل بأن نخبة منفردة لا تستطيع السيطرة
على كل الفضاءات، وترى أن التغيرات الإقتصادية قد تؤدي الى بروز
أنواع أخرى من النخب (تعليمية إدارية وغيرهما). ثم إن النظرية
التقليدية قد أُسست أركانها على الديمقراطية المباشرة وهناك
وسائل أخرى وطرق أخرى لتحقيق الديمقراطية، فضلاً عن أن النخب لا
تستطيع ولا يجب أن تمثل كل الجماهير، وأيضاً لا يجب أن ترضخ
النخب لرأي الجمهور الذي انتخبها في بعض مفاصل السياسة والقوانين
(كقرارات الحرب، وقوانين الإجهاض، وإقرار عقوبة الإعدام، وغير
ذلك).
محليّة النخب ومناطقيتها
لم يَقُدْ قيام المملكة بشكلها الحديث، والتحوّل السياسي الكبير
الذي طرأ فيها جرّاء التوسّع الإحتلالي (النجدي) الى تغيير في
طبيعة النخبة، فقد تغيّر شكل النخبة من (المحليّة) الى
(المناطقية). وقد تعني المحليّة هنا نوعاً من (الوطنيّة) كون
النخب السياسية ما قبل قيام الكيان السعودي، كانت بشكل ما نخباً
تقليدية، وتحكم على صعيد دولة مستقلة (الحجاز)، أو إمارات شبه
مستقلّة (عسير والجنوب عموماً)، أو عبر مشاركة النخب السياسية
(المحلية) مع نخب خارجية عثمانية (الأحساء والقطيف). وفي نجد
كانت النخبة محلية عشائرية متحالفة مع قيادات مدينية. وحين جرى
التوحيد القسري، عبر الضم، تغيّر وجه النخبة الحاكمة، ولكنها لم
تخرج من الإطار المفهومي نفسه، بالرغم أننا هنا ـ والحديث عن
الكيان السعودي ـ نناقش موضوع النخبة في إطار الدولة القطرية
الحديث ومتطلباته المفهومية الجديدة. أيضاً، رغم التمجيد المبالغ
في إيجابياته لـ (الوحدة القهرية) التي أدّت الى إفناء كل النخب
السياسية الحاكمة السابقة في الدول والإمارات المستقلة التي قام
عليها بنيان الدولة السعودية، فإن النخبة الجديدة الحاكمة لم
تتوسع لتكون (وطنيّة) تشمل مكوّنات المجتمع الجديد. فقد اتّسمت
النخبة الجديدة بالإقصائية لمن تبقى من النخب السياسية المحلية
السابقة (أي التي لم تقتل أو تجبر على الخروج الى المنفى)، كما
اتّسمت النخبة الجديدة بنزعة شديدة للمحلية والمناطقية سواء في
المستوى الأعلى لصناعة القرار أو في مستوياتها الأدنى.
لم تكن النخبة الجديدة المنتصرة على قاعدة مذهبية أو مناطقية
قادرة على أن تخلع ثيابها أو تغيّر من شكلها، والحقيقة فإن
المطالبة بذلك أمرٌ غير واقعي في سني تأسيس الدولة الأولى. ذلك
أن حروب تأسيس الكيان السعودي، كانت في جوهرها حروباً مناطقية
مذهبية بكل ما تعنيه الكلمة، ولم تكن حرباً وطنيّة تحررية
توحيدية، لأنّ الكيان السعودي مجرد كيان جديد يخلق لأول مرّة في
التاريخ. لكن المشكلة الحقيقية، هي أن هذا الكيان الجديد لم يكن
يسير ـ ولازال كذلك ـ وفق بوصلة وطنية واضحة يتطلبها استمرار
الكيان نفسه. فكل ما يجري هو مجرد استبدال طبقة حكم محليّة، كانت
في الغالب تتشكل من التجار والوجهاء وعشائر حاكمة، بنظيرتها،
ولكن من منطقة مختلفة.
لننظر الى نوع النخبة الحاكمة اليوم في المملكة على مستويات
صناعة القرار العلوي والأدنى. سنجد أنها في معظمها (نجدية)
(وهابية) لا مبرر ولا منطق يعطيها الحق في تقرير مصير شعب متنوّع
الثقافة والتاريخ والمصالح. بدل أن تكون هناك عشيرة حاكمة في كل
منطقة أو دولة أو إمارة مستقلة قبل (التوحيد) كالعائلة الشريفية
في الحجاز، والإدريسية وغيرها في الجنوب، والشمرية في حائل، جاءت
عشيرة (خارجية) لتنسف أولئك وتحتل مقعدهم جميعاً، وتلحق تلك
الإمارات والدول عبر مسمّى إمارات يسيطر عليها الأمراء أبناء
الملك المؤسس. لننظر الى مجلس الوزراء من يسيطر عليه؟ وكذلك مجلس
الشورى، والقيادات الدينية؟ ما هي انتماءات من يسيطر على
المناطق؟ من يسيطر على الجيش من قمته الى قاعدته؟ وعلى قيادات
المؤسسة الأمنية من مباحث واستخبارات؟ من يتحكم بالإعلام الرسمي
وغيره؟ من يتحكم بالمال والإقتصاد وينتفع بهما؟.. كل المؤشرات
تدفعنا الى القول بأن النخبة الحاكمة (غارقة) حتى النخاع في
مناطقيتها ومذهبيتها.
الدولة مختطفة منذ نشأتها للمذهب والمنطقة، وما يجري على الأرض
مجرد استمرار لحروب ما قبل الدولة وقيامها، والنخبة الحاكمة
الحالية إنما هي تجسيد واضح لما ندّعيه، وما مشاركة أفراد قلائل
من خارج الإطار المذهبي والمناطقي ـ وهو جدّ محدود على أية حال ـ
إلا ديكوراً يخفف من اللون المناطقي والمذهبي الصارخ.
وللحق، فإن ما تدّعيه النظرية التقليدية للنخبة الحاكمة، من أن
صفاتها ـ حسب جيمز ميزل ـ هي: الوعي بالذات، والإنسجام، وسيادة
الروح التآمرية بين أعضائها، تنطبق في جزء كبير منها على النخبة
الحاكمة في المملكة، وهي بالطبع ليست نخبة (سعودية) بمعنى أنها
ليست (وطنية). النخبة المناطقية ـ العشائرية ـ المذهبية الحاكمة
تتمتع بقدر عالٍ بوعي الذات بل قد يكون متضخماً في النظرة الى
الذات وحقّها في أن تحكم، كما من حقّها أن تقصي غيرها، وفق رؤية
أيديولوجية قبلية دينية، ترى أن الحكم لمن غَلَبْ، فالنصر هو
أساس الشرعية (السيف حسب تعبير آل سعود)، وترى بأن ما لديها من
ثقافة دينية (الوهابية) حتى وإن لم تمارس على المستوى الشخصي، هي
الأرقى والأصحّ، وهي تبرر الإقصائية من جهة والتفرّد من جهة
ثانية على هذا الأساس الديني الذي يجد مبرراته في التعاليم
الدينية للوهابية.
والنخبة الحاكمة في المملكة، إضافة الى شعورها المغالى فيه
بالذات ووعي الذات المتميّز الذي يستخفّ بالآخر وما لديه ويطعن
فيه كمبرر للإستحواذ القيادي والمنفعي، تتمتع بانسجام كبير، خاصة
بين جناحي السلطة الديني والمذهبي، هدفه الأساس التوحّد اللازم
والضروري في صدّ أيّ اختراق على مستوى النخبة، وهذا الإنسجام رغم
فوائده في صدّ الآخر، لكنه من جهة أخرى يمنع تجديد النخبة، ويمنع
انسجام المجتمع، ويكرّس حكم الفئوية، ويعرّض الدولة الى انشقاق
على نفس الأرضية المذهبية والمناطقية. لا شك أن النخبة الحاكمة،
حين تواجه عدواً خارجياً، أي خارج محيطها المناطقي والمذهبي،
تتوحّد في الغالب، حسب التجارب التي مرّت على الدولة خلال العقود
الماضية، ولكن الإنسجام يميل الى التحلّل والضعف فيما بينها بسبب
المنافسة الشديدة على صناعة القرار، وغياب الآلية لحل الخلاف،
سواء بين النخبة العليا (الأمراء الكبار الحاكمون) أو بين الدنيا
(رجال المؤسسة الدينية والتكنوقراط النجدي) وبين النخبة العليا.
أما الطبيعة التآمرية للنخبة الحاكمة فيجهلها الكثير من
المواطنين، لكنها ليست موجودة فحسب، بل هي متمددة وتشمل كافة
الحقول، حتى القطاعات الحكومية الصغيرة، والوظائف الدنيا،
والدبلوماسيين المعتمدين لدى الدول الأجنبية.. الحسّ التآمري
عالٍ ومرهف، ومترافق دائماً مع الطمع والإحساس المبالغ فيه
بالخطر من الآخر. وتمارس النخبة في مستوياتها الأدنى والأعلى ما
يشبه بتقاسم الأدوار، حتى بين التكنوقراط والمتشددين الدينيين،
فمعظم التبريرات التي تقدم على قاعدة الإقصاء غير صحيحة، وهي
تقول بأنها لا تعبّر إلا عن رأي قسم من تلك النخبة. قد يصحّ هذا
على مستوى الأفراد، ولكنه لا يمسّ المنهج. ولهذا يحمّل المتشددون
السلفيون الجرم، فيزعم أنهم السبب في كل المشاكل والتجاوزات،
ولكن الحقيقة أن الجميع يعمل وفق نسق محدد يحفظ مصلحة الجماعة من
أن يدخل شركاء يتقاسمون المغنم والحكم. وكان يمكن قبول الأعذار
لو أن السياسة لا تشمل كل جوانب الدولة ووزاراتها وأجهزتها، فهذا
ليس عمل فرد أو جهة، وإنما هو فعل تتسم به النخبة الحاكمة ـ كجسد
موحّد، ولولا ذلك لأمكننا بحق اعتبارهم مجرد
Top
Persons في محيط إداري محدد، مثلما هم طبقة
التجار على سبيل المثال.
تجديد
النخب في المملكة
النخب
في المملكة معتّقة، وبعضهم يصفها بأنها محنّطة. إنها نخب معمّرة
على المستويات كلها الدينية والسياسية والوظيفية، وهذا لا يحتاج
الى أدلّة، إذ يكفينا معرفة أعمار الملك والأمراء الذين يمثلون
قيادة المملكة العليا والمباشرة، ثم لنر كم هي أعمار رجال
المؤسسة الدينية من المفتي الى أعضاء هيئة كبار العلماء، وبعدها
نأتي الى الوزراء وموظفي الدرجة الخامسة عشرة والرابعة عشرة
وأعمارهم والمدد التي بقوا فيها في مناصبهم. السياسات كما
الأشخاص قديمة ومعمّرة وليست لها القدرة ولا القابليّة على
التواصل مع الجمهور الشاب الذي يشكل أكثرية الشعب في المملكة.
إذن كيف تتجدّد النخبة الحاكمة؟
الموت، هو عامل التجديد الأول. وحتى الموت لا يحلّ المشكلة،
فطاقم الحكم الأساس هو جيل من المعمّرين وليس فرداً، وبالتالي
فالموت أتى وسيأتي بمعمّر تلو الآخر، الى أن ينتهي جيل (اللجنة
المركزية!) ويبدأ باللجنة المركزية التي تليها.
هناك تجديد يمكن أن نسميه بـ(الموضعي) ويعتمد في الطبقة العليا
على إحالة بعض المهام لجيل الأبناء من الأمراء، وفي الجهاز
الوظيفي العلوي قد يأتي ببعض الطاقات الشابّة دون تخطيط ممنهج،
اما في المؤسسة الدينية فلم نرَ وجوهاً جديدة، والأجيال الشابة
من رجال الدين السلفيين اختطّ كثيرٌ منها منهجاً مختلفاً ضمن
النطاق المذهبي، وقد يميل الى الإستقلال عن المؤسسة الدينية أو
معارضتها أحياناً. بيد أننا هنا نلفت الإنتباه الى أن تعزيز
النخبة الحاكمة لسيطرتها والتجديد الموضعي المحدود لا يستهدف
مجرد إبعاد الخطر عنها، بل وسلب ما تبقّى من سلطات (هامشية) أو
(ديكورية) أُعطيت لأفراد من خارج الجماعة، وأبرز مثال لذلك، هو
تقلّص دور النخبة الحجازية في صناعة القرار في مستوياته الدنيا
بشكل واضح خلال الخمس والعشرين سنة الماضية.
لا يمكن أن يكون هناك تجديد حقيقي بدون إصلاح سياسي هيكلي. ونقصد
بذلك المشاركة الشعبية عبر الإنتخابات وسيادة القانون وإنهاء
سياسة التمييز الطائفي التي استطالت من حيث المدة الزمنية ومن
حيث الحقول. الإصلاح السياسي وحده كفيل بضخ دماء جديدة للنخبة
الحاكمة. لكن الأخيرة وبمختلف أطيافها ومستوياتها ترفض الإصلاح
السياسي ـ كما هو واضح ـ حفاظاً على وحدة السلطة، ووحدة
المنتفعين، وتعبيراً عن ضعف في الإمتصاص والدمج السياسيين،
وقصوراً في فهم حركة المجتمعات وفلسفة التغيير.
العملية الديمقراطية تجدد الدماء في الدولة وتعيد لها حيويتها،
وبقدر ما تمارس يكون لها نتاجها على دورة النخب. أما الرفض فلا
يعني سوى الجمود ولا يعني سوى (حكم المعمّرين) واستمرار سيطرة
الفئوية النخبوية (النجدية ـ الوهابية) على مقادير الدولة، كما
يعني أن (حجم النخبة) الحاكمة سيكون ـ كما في الماضي ـ رهناً
لأفراد قلائل، بما له من انعكاسات شديدة السلبية على العائلة
المالكة والمؤسسة الدينية الوهابية بالتحديد. خيار رفض الإصلاح
هو الراجح اليوم وفي المستقبل المنظور.
يرى موسكا أن ما يفرق بين النخب (الأوتوقراطية) و (الليبرالية)
الحاكمة، أن صناعة النخب في البلدان الأوتوقراطية التسلطية تعتمد
نسقاً في قراراتها التوظيفية من الأعلى الى الأدنى، بعكس نظيرتها
الليبرالية. فالتعيين والإقالة في الأولى هي السمة البارزة،
ويعتمد توظيف النخب في الأنظمة التسلطية على أعضاء متحدرين من
نخب سابقة، عائلية أو وظيفية؛ في حين أن الأنظمة الليبرالية
تعتمد على الإنتخاب من القواعد الأدنى. وفي المملكة نشهد شيئاً
شبيهاً من هذا، فهناك اهتمام بين النخبة الحاكمة، أن تأتي
بموظفين في المقامات الأدنى من محيطها النجدي، من العوائل المهمة
التي كانت تحكم بلداتها، قبل قيام الدولة. هذه الطريقة تحفظ
الإستقرار في المحيط النجدي، ولكنها لا تحفظه على مستوى المملكة،
الذي لا بدّ وأن يتعرّض لاهتزازات عنيفة في التغيير من قبل
المهمشين عبر تغييرات راديكالية. وبالرغم أنه معهود عن الملكيات
التسلطية ميلها الى الروابط العائلية والوجاهات الإجتماعية ضمن
طاقم النخبة الأدنى، فتعين من أفرادها موظفين تمنحهم السلطة
بصفتهم العائلية والوجهائية، وهذا واضح في دول الخليج عموماً
والى حد ما في الأردن والمغرب اللتان تتمتعان بقدرة أكبر على
الدمج السياسي للنخب من خارج الإطار الوراثي والقبلي والوجهائي.
أما الحالة في المملكة فحصرت تصنيع النخب في العوائل والوجاهات
والقبائل النجدية لتسنّم المناصب القيادية.
بسبب عدم القدرة على تجديد النخب بعد أن قضى على السابقة منها،
إعداماً ونفياً.. ولما كان من الصعب أن لا توجد شخصيات أو تطلعات
باتجاه السياسة في قمّة الهرم، سعت العائلة المالكة من جهة الى
قطع دابر الرموز ـ حتى الحكومية، أي التي نشأت ضمن الجهاز
الاداري ـ بإقالتها وإبعادها بمجرد أن يشعر الأمراء بأن تلك
الشخصيات صعدت الى الواجهة السياسية وحملت معها امتدادات
اجتماعية وولاءات تنافس الولاء لهم. تلك النخب، من خارج العائلة
المالكة، أرادت أن تتحول من دور الأقل تأثيراً في المستوى الأدنى
من النخبة، الى دور أكثر تأثيراً (في المستوى الأعلى).
وللسبب ذاته، أي عدم تجديد النخبة الحاكمة، نشأت نخب معارضة
سياسية تمثّل مجتمعاتها الخاصة في بعض الأحيان، أي أنها نخب
(محليّة) تسعى لأن تكون جزءً من نخبة حاكمة أوسع (وطنيّة). ولأن
النخبة الحاكمة لا تتحرّك على أساس تمثيل (وطني) لا عبر الإنتخاب
والمشاركة الشعبية، ولا عبر التمثيل الإنتقائي (في مجلس الشورى
ومجالس المناطق مثلاً).. لم يكن أمام الحاكمين إلاّ استخدام
القمع لتلك النخب غير المستوعبة، أو التي لا يراد استيعابها،
سواء كانت دينية أو سياسية. ويمكن ملاحظة أن النخبة الدينية ـ
وهي جزء من النخبة الحاكمة ـ ليس فقط لم تفشل في استيعاب الآخر
مذهبياً، بل أنها فشلت في استيعاب نتاجها من الشخصيات الدينية
السلفية التي كان يمكن أن تجدد لها شبابها (في إطارها الخاص)،
مثلما فشلت العائلة الحاكمة في تجديد نفسها بأمراء منها.
الحالة الإقصائية كما تبدو عامّة، ولهذا فإن هناك نخباً سياسية
تنتظر تحوّلا هيكلياً في الدولة وإدارتها يسمح لها بإعادة تشكيل
النخبة الحاكمة، وكلما تأخّر موضوع الإصلاح السياسي، رجحت خيارات
محلية ومناطقية النخب المعارضة، واستسلم أفرادها لمنطق الإنفصال
عن كيان الدولة.
في الدول الديمقراطية بشكل عام، تتمتع النخب الحاكمة بالقدرة على
الدمج للمخالف بل حتى المنافس في القيادة من التوجهات والأحزاب
الأخرى، ومن هنا تنبع حيويتها، وهي لا تُخرج أحداً من دائرتها
إلا تلك الرافضة للمشاركة ضمن نطاق النخبة الحاكمة، والتي لا
تقبل بالمساومة، والتي ترفض النظام السياسي الحاكم بمجمله. في
حين أن النخب في الدول التسلّطية ليست عريضة، وليست لها القابلية
على جذب المخالف أو المختلف. وهي، أي النخبة ـ
ث
وليس المنافس لها ـ من يرفض توسيع قاعدته، وبالتالي تقوم بتوسيع
(الخارجين) على سلطانها. يستوي في ذلك حامل السلاح، مع الداعي
للمشاركة الشعبية، والمؤمن بالنظام، كما الخارج عليه، وهذه إحدى
صفات النظام السياسي ونخبته الحاكمة في المملكة.
ملخص القول، إن النخبة الحاكمة في المملكة (مغلقة) لا توظف ـ إلا
النادر ـ من خارجها أو من المستويات الأدنى، وإن رفض النزعة
الديمقراطية الإصلاحية ـ كما يذهب أصحاب النظرية التقليدية ـ هي
السبب وراء (عزلة النخب) فتجهل حركة المجتمع والتغيرات الجذرية
فيه، كما تفقد مهاراتها ومرونتها شيئاً فشيئاً لاحتضان القوى
الإجتماعية، وهذا يؤدي في المحصلة النهائية الى إزاحتها ليس
التدرجية وإنما بشكل نهائي لتحل محلها نخبة حاكمة جديدة أخرى.
هذه المراهنة في التحليل، لا تأخذها الأنظمة التسلطية بعين
الإعتبار، لقراءتها المغلوطة لقوى المجتمع، حيث الميل كل الميل
الى اعتبارها شراذم لا تمتلك القوة، وكذلك بسبب المبالغة في
القوة الذاتية التي تعطيها الفرصة كبيرة للتلاعب والتحرر من
القيود وبالتالي الوقوع في الأخطاء.
نحن في المملكة أمام تحولات تاريخية، لم تنعكس على النخبة
الحاكمة، أو بالأصح لم تستجب لها تلك النخبة. وقد ينظر الى هذا
الإصرار في الرفض كدليل على القوة والمكنة، كرفض الإصلاحات التي
تتيح تجديداً تدرجياً، وكاعتقال الإصلاحيين في مارس الماضي.. لكن
هذه الوسائل لا تغيّر السنن التاريخية، ولا تلغي حركة المجتمعات،
ولا يمكن اعتبار الرفض دلالة قوة، بل هو جوهر الفشل، وجوهر
الإنتقام من الذات. لم يخلق الله نخباً تحكم الى الأبد، ولم يخلق
شعوباً تستعبد الى الأبد. إن لفظة (دولة) تعني التبدل والتغير،
والنخب على مرّ التاريخ تتغير وتتبدل، وهذا درس بسيط، لكنه غير
مقنع تماماً لمن يمسك زمام السلطة، فهو يعتقد بأنه مؤبد على كرسي
الحكم، وأن لديه من الأدوات ما يكفي لبقائه.
اذا كانت النخب الحاكمة لا بدّ وأن تتغيّر وتتجدد، فالتغيير
التدرجي خيرٌ لها، ولأجيالها.. أما الرفض، فلا يعني إلا أمراً
واحداً: ضرورة الإزاحة التامّة.
درس نظن أن النخبة العشائرية المتمذهبة والمناطقية لا تفهمه ولا
تدركه اليوم، ولكنها ستدركه يوماً ما، وقد يكون الأوان قد فات
والزمن قد أفل.
العدد السادس عشر -
مايو
2004
|