الإصلاح السياسي أولاً ومدخلاً

 

 في بلادنا العربية دائما ما نحاول الدخول من بوابة الإصلاح بصورة جزئية، فمرة نعول على الإصلاح التربوي وحده طريقا للإصلاح، وأخرى نراهن على الإقتصاد، ومرة على الفكر، و عادة ما تمنى جميع محاولاتنا وخططنا الإصلاحية بالفشل، دون أن يضطرنا ذلك للتوقف لحظات ودراسة أسباب الإخفاق بصورة شاملة وعميقة، بما دعى بعض الحاذقين للتساؤل عما إذا كنا حقا نروم الإصلاح والتغيير، أم أنها شعارات للاستهلاك الداخلي وصرف المواطن الى مشاغل وهموم جديدة ؟

 لا أعتقد أن طريق الإصلاح غامض، أو غير متيّسر، لكن المؤكد أن الرغبة في الخروج من دائرة الفساد غير متوفرة لدى المعنيين في صناعة القرار والمسؤولين، أو قل أن هناك قطاعات ترى من صالحها أن تظل الأمور على ما هي عليه..  لأنها تكسب أكثر. ولأن الإصلاح في أي بلد سيكون ضحاياه رؤوس كبار ولا يمكن أن يدفع هؤلاء ثمن أخطائهم، بينما ضحايا الفساد هم ضعفاء الناس ومستقبل الوطن، والأخير تعودنا أن نراهن عليه.

 مشكلة الفساد في عمقه أنه يشوِّه مشروعات التنمية، ويؤدّي بصورة مباشرة إلى انتهاك قيم العدالة الإجتماعية، وينتقص من حريات الناس السياسية والإجتماعية، إذ هو يشوِّه نزاهة المجتمع، ويساهم في قلب المفاهيم الأخلاقية، ويجعل منطق القوة لا الحق هو الحاكم. فالفساد لا يكتفي بتشويه عمليات السوق، ولا يتوقف عند ضياع ملايين أو مليارات الدولارات في مشاريع خائبة، بل يسلب الناس المنافع التي يفترض أن تصل إليهم، كما يحطم جميع أحلام الشعوب في رسم مستقبل أفضل.

وفي دول أخرى تم الالتفات إلى هذه الحقيقة وبعيدا عن أي مصلحة خاصة، فقد إجتهدت حكومات هذه الدول وضع قوانين وبرامج لحماية المجتمع من مخاطر الفساد، إيماناً منها  بأن من الممكن محاربة الفساد بشكل دائم، إذا ما قررت الجهات المعنية أن تقوم بذلك سواء من القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، بمشاركة من الجهات الرسمية والأهلية.

ففي عام 1995 إنطلقت منظمة الشفافية الدولية ومقرها برلين لتساهم بما أمكن في الحد من أوجه الفساد، وإحياء ما أسموه (بجزر النزاهة) وتركّز المنظمة في عملها على بناء نظم تحارب الفساد، كما تلعب المنظمة دوراً هاماً في زيادة الوعي العام بمخاطر الفساد.

وتعتبر (منظمة الشفافية الدولية) أن الحركة ضدَّ الفساد هي حركة عالمية تتجاوز النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للدول وتعني بالترويج لمبادئ هامة وأساسية مثل: المساءلة والشفافية على المستوى المحلي والدولي، الإنتصار لفكرة المشاركة، التنوع، عدم التحزّب، واللامركزية، وإدراك أن مخاطر الفساد تتعدّى حدود الحالات الفردية ؛ فهناك مسئولية مشتركة وعامة لمحاربة الفساد.

ويجزم المتابعون لأوضاع دول الخليج العربي بأن طريق الإصلاح لا يزال طويلا وأن الخلل في هذا الطريق متشعب تبدأ أحد محاوره من الخلل السياسي، فالإصلاح السياسي يظل المقدمة الأساسية التي لو ولجناها بعمق لإستطعنا تمهيد الساحة لقوى أخرى فاعلة قد تجد مساحة أوسع للحركة والمساهمة في إنقاذ بلادها على كافة الصعد. وهو ما يبرر ويشرّع لحق التعبير الحر عن الرأي وحق المحاسبة وهي حقوق لاتزال بعض دولنا تجادل في أصالتها لكافة المواطنين.

 

  العدد السادس عشر - مايو 2004