الأنظمة الشمولية كما في السعودية تستعصي على الإصلاح
التداعي الأمني في السعودية عنوان لأزمات مستعصية
د. سعيد الشهابي
جاءت العملية العسكرية التي استهدفت موظفين اجانب بمجمع صناعي
بمدينة ينبع الصناعية لتكشف خطورة الاوضاع الامنية بالمملكة
العربية السعودية، ولتسلط الاضواء مجددا على مدي فاعلية ما سمي
الحرب ضد الارهاب.
نجم عن العملية تلك مقتل خمسة اجانب بينهم امريكيان وبريطانيان
واسترالي، عندما فتح مهاجمون من عائلة سعودية واحدة، النار على
الموظفين التابعين لشركة ايه. بي. بي. الهندسية السويسرية. وقد
قتل المهاجمون الاربعة الذين ينحدرون من اسرة واحدة، كما اثارت
العملية مجددا موضوع العلاقات السعودية ـ الامريكية وما اذا كانت
هذه العمليات الارهابية ستقوي العلاقات ام تضعفها. فبعيدا عن
الاشادات المتبادلة بين واشنطن والرياض بالعلاقات المتينة
بينهما، فان هذه العلاقات تمر بفترة امتحان قاسية منذ حوادث 11
سبتمبر، وما تزال مرشحة للمزيد من الاضطراب في الفترة المقبلة.
ربما تجاوزت هذه العلاقات الذروة التي بلغتها في العامين
الماضيين، ولكن تباين النظرات والمواقف، بالاضافة الي تضارب بعض
المصالح، والتعارض في تحالفاتهما، من شأن كل ذلك ان يبقي مصدر
توتر للعلاقات. والتوبيخ الذي يصدر بين الحين والآخر من كلا
العاصمتين باتجاه الاخري يكشف حالة القلق في العلاقات وحالة الحب
المشوبة بالحساسية والشك. ففي الاسبوع الماضي ردت الرياض على
الدعوات الامريكية لها بالقيام بشيء من الانفتاح السياسي بان
الدعوة لمثل ذلك تصب لصالح تنظيم القاعدة الذي اصبحت نشاطاته
عنوانا للتقارب بينهما تارة والتباعد اخري. فجماعة بن لادن التي
تخوض حربا شرسة ضد الولايات المتحدة الامريكية تهدف لاضعاف
العلاقات بين الرياض وواشنطن باي ثمن.
في السابق ركزت القاعدة جهودها على التصدي للولايات المتحدة وعدم
التصدي العملي لنظام الحكم في المملكة، ولكن التفجيرات التي حدثت
مؤخرا في الرياض تكشف ان القاعدة ربما قررت الآن استهداف النظام
الملكي في الجزيرة العربية. وسواء كان ذلك ناجما عن تغيير في
السياسة على اساس القناعات، ام بسبب ضرورات الواقع وصعوبة
استهداف الامريكيين مباشرة، فقد اصبحت المملكة في مواجهة مفتوحة
مع هذا التنظيم، وبالتالي فهي مواجهة بدون حدود، وقد تؤدي الي
مفاجآت خطيرة.
ولتوضيح ذلك يمكن الاشارة الي بعض حالات التباين في النظرات
والمواقف. فالعلاقات مع اسرائيل والرغبة الامريكية في تصدر
السعودية عملية التطبيع مع الكيان الاسرائيلي، بقيت مصدر اضطراب
في العلاقة منذ سنوات. فبرغم الضغوط الامريكية، بقيت المملكة
ملتزمة بالموقف العربي العام الذي ما يزال مترددا في الاقدام على
توقيع اتفاقات سلام مع تل أبيب. يضاف الي ذلك ان المصالح بينهما
تتعارض احيانا، ويسعي الطرفان لحلول وسط ما امكنهما.
ويمثل النفط والسياسات المرتبطة به واحدا من القضايا الجوهرية
التي تشغل الطرفين. فالمصلحة الوطنية السعودية تقتضي ارتفاع
اسعار النفط ليصل الي ما تقرره السوق المفتوحة، ولكن واشنطن تري
ان مصالحها الاقتصادية تقتضي اسعارا نفطية أقل. وقد خضعت
السعودية للضغوط الامريكية في هذا الجانب، واعلنت انها لن تسمح
بنقص الامدادات النفطية لواشنطن، وانها ستعمل على منع صعود اسعار
النفط لكي لا يحدث اضطراب في السوق الاقتصادية العالمية. ولا
يغيب عن بال السعوديين ان الوجود العسكري الامريكي في العراق
تطور ليس لصالحهم سواء من حيث النفوذ السياسي في المنطقة ام على
صعيد الانتاج النفطي الذي تهيمن السعودية على مركز الصدارة فيه
والقدرة على التأثير المباشر على القرارات المتعلقة به.
وثمة خلاف في النظرة للعلاقات الاقليمية السعودية. وقد انزعجت
واشنطن عندما تطورت العلاقات بين الرياض وطهران في النصف الثاني
من التسعينات، وهو التطور الذي بلغ ذروته في القمة الاسلامية
التي اقيمت في العاصمة الايرانية في نهاية 1997. كانت تلك القمة
بمثابة اعلان نهاية القطيعة بين البلدين، وهي القطيعة التي بدأت
بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، وما تبعها من وقوف
السعودية الي جانب صدام حسين في الحرب ضد ايران. كما ان واشنطن
غير مرتاحة للموقف السعودي البارد تجاه مسألة التطبيع مع الكيان
الاسرائيلي. ويحسب للسعودية انها احجمت عن ذلك لاسبابها الخاصة
المتعلقة بالتوازنات داخل المملكة نفسها وعلى المستوي الاقليمي
ايضا. وجاءت الازمة الاخطر متمثلة بما يمثله تنظيم القاعدة الذي
يمثل مواطنون سعوديون عموده الفقري، وهي ازمة متواصلة تستعصي على
الاحتواء على المدي القصير.
تفجيرات ينبع التي استهدفت موظفين اجانب بشكل خاص، وتفجيرات
الرياض التي استهدفت مقرات سابقة لاجهزة الامن السعودية زادت من
قلق العائلة المالكة السعودية، فهي اعلان بان وقف اطلاق النار
بين القاعدة والرياض اصبح لاغيا، وان الاعمال الارهابية لن
تستثني المملكة ونظامها ومؤسساتها. وهو تطور خطير بدون شك.
والاعتقالات والمطاردات التي تحدث بين الحين والآخر بين قوات
الامن السعودية والمجموعات المسلحة اصبحت مؤشرا للوضع الخطير
الذي بلغته الامور. في هذا الوقت تجد الحكومة السعودية نفسها
مستهدفة ايضا من جانب اصدقائها في واشنطن الذين يطالبونها
بالانفتاح واصلاح الاوضاع السياسية لديها.
هذه الضغوط الامريكية، برغم ما تبديه الرياض من اعتراضات ضدها،
ادت الي حدوث قدر من التغير في عقلية الحكم السعودي. فالرياض
اليوم، وتعاملها مع المستجدات السياسية الاقليمية والمحلية
وكيفية ادارتها للمسألة الاعلامية، ليست الرياض التي اتسمت
سياساتها في السابق بالصمت السلبي تارة والقمع الشديد تارة اخري.
فهي اليوم تتمتع بديناميكية متميزة، وحركية دائمة.
فعلى الصعيد السياسي، اصبحت اكثر تجاوبا مع دعوات الاصلاح، وان
كان تجاوبا يسعي لاخفاء الانصياع للضغوط. مشكلة هذا التجاوب انه
بطيء ومحدود ومتأخر في اغلب الاحيان، ولا يستطيع مواكبة التحديات
الامنية والسياسية التي تواجهها العائلة المالكة. وما يزال الحكم
غير قادر على استيعاب ما هو مطلوب من نظام حكم في بلد اصبحت
انظار العالم موجهة اليه بشكل كبير منذ حوادث 11 سبتمبر. مع ذلك
فالتجاوب يمكن ملاحظته في المبادرات التي تقوم بها الرياض بين
الحين والآخر. ابتداء بتشكيل مجلس الشوري قبل اثني عشر عاما
وتطويره المحدود لاحقا، مرورا بالانفتاح الاعلامي النسبي وصولا
الي الاعلان عن تشكيل لجنة لحقوق الانسان.
هذه التطورات لها جانبان: فهي تمثل استجابة للضغوط الداخلية
والخارجية، وبالتالي فهي مؤشر ايجابي لشيء من الديناميكية في
التفكير الرسمي السعودي. ومن جانب آخر، تعتبر اقل مما هو متوقع
ومنتظر.
الحكومة السعودية سعت لاحداث توازن بين الضغوط الخارجية للاصلاح
الداخلي، والضغوط الداخلية لمواجهة ما تريده واشنطن على وجه
الخصوص. وفي العامين الماضيين خضعت الرياض للضغوط الخارجية،
وشددت قبضتها على حركة الاموال التي تعتقد واشنطن انها تذهب
للمجموعات المتطرفة، وادخلت تغييرات على مناهجها التعليمية
وتعاونت مع اجهزة الاستخبارات الغربية خصوصا الامريكية في ملاحقة
تنظيم القاعدة. وفي الشهور الاخيرة تكررت المواجهات بين رجال
الامن وهذه المجموعات، وحدثت اعتقالات كثيرة في اوساط التيارات
الدينية. كما استجابت الرياض للضغوط الامريكية بمنع وصول
المساعدات المالية للمنظمات الفلسطينية التي تقاوم الاحتلال
الاسرائيلي، واغلقت مراكز دينية تابعة لها في عدد من البلدان تحت
الضغوط الامريكية، وقامت بتسريح عدد غير قليل من الدعاة
والمبلغين المرفوضين من واشنطن. وفي الوقت نفسه سعت لاسكات
الاصوات الداخلية ببعض الاجراءات مثل التوسيع النسبي لصلاحيات
مجلس الشوري بزيادة اعضائه والسماح له بمساءلة بعض الوزراء،
والسماح بهامش نسبي من حرية التعبير في وسائل الاعلام المحلية.
هذه الاجراءات ما تزال أقل كثيرا مما يتوقعه دعاة الاصلاح الذين
شعروا بسعي الحكومة لتهميش مطالبهم والاقتصار على اجراءات محدودة
لا تمثل اصلاحات حقيقية، فأعدوا العرائض التي تطالب بشيء من
الممارسة الديمقراطية وتواصلوا مع الجهات الدولية على امل تحقيق
شيء من الدعم المعنوي للاصلاح. فكانت ردة الفعل الرسمية اعتقال
العديد منهم في مارس الماضي، بشكل ادي الي طرح الكثير من
التساؤلات حول مدي امكان النظام على التغير الذاتي بشكل يقترب
مما يطالب به دعاة الاصلاح.
مشكلة الحكومات التي تتبني انظمة حكم شمولية انها لا تستطيع
استيعاب مفردات الاصلاح الا في اطرها الشكلية، ولا تستوعب
المفاهيم العصرية في ما يتعلق بالتعددية والتداول على السلطة
والحكم الدستوري والديمقراطية التي تعطي للشعوب حق اختيار انظمة
حكمها. هذه الانظمة تعتقد بقدر من الجزم الذي لا يتزعزع بانها
مخولة بالحكم المطلق الذي لا يحق لاحد الاعتراض عليه او مساءلته،
فكأن ذلك تفويض الهي لا يتزعزع.
دعاة الاصلاح السعوديون يعانون انفسهم من صعوبات في ما يتعلق
بتوحيد خطابهم، وايجاد ارضية مشتركة لخطاب معقول يتميز بالتطور
ويبتعد عن الجمود والتخلف. وفي الاطار السعودي لا يمكن الحديث عن
معارضة متآلفة ومتفقة على خطوط عريضة، كما كان الحال عليه مثلا
في العراق. اما في السعودية فالمعارضة تتألف من اطياف مختلفة
تمتد ما بين التيار السلفي المتطرف الذي لا يؤمن بالتيارات
الاخري والذي ينطلق على اساس المذهب الفقهي الوهابي الذي يكفر
الآخرين ويستبيح دماءهم، والتيارات الليبرالية التي تطالب
باصلاحات محدودة وقد يتآلف بعضها مع النظام احيانا في مواجهته
التيارات المتطرفة. والنظام يبدو احيانا وسيلة استقرار واداة
لمنع التقاتل والاستئصال. مع ذلك فهناك ادراك عام، سواء من جانب
المتشددين ام الليبراليين والاسلاميين المعتدلين، بان نظام الحكم
اما انه عاجز عن التطور او انه لا يرغب فيه. وفي كلا الحالين
فالموقف صعب ازاء ما يمكن عمله لحمل العائلة المالكة على استيعاب
ضرورة التطوير على اساس الحوار مع المعارضة بعيدا عن سياسة تكريس
الامر الواقع او فرض اصلاحات من طرف واحد.
وغياب الحوار عنوان للمشكلة ايضا. فالانظمة الخليجية عموما لا
تؤمن بالحوار القائم على اساس الاعتراف بالطرف الآخر والموقع
الذي ينطلق منه، وان المعارضة امر مشروع في انظمة الحكم الحديثة
ولا يمثل وجودها انتهاكا للقوانين او اخلالا بالامن، كما لا
تعتبر انشطة المعارضة ذات طابع اجرامي. وبرغم حركية بعض الاطراف
المعارضة، فهناك عموما شيء من الجمود في اطروحاتها من جهة، وعدم
قدرتها على تحريك الشارع لطرح مطالب معقولة من جهة اخري، كما هو
الحال في البحرين مثلا. ويبدو الجيل الحالي اكثر استعدادا
للانخراط في صفوف التيارات المتشددة التي ترعرعت في ظل
الديكتاتورية المتوارثة، منه الي صفوف المطالبين باصلاحات طفيفة.
وتساعد الاوضاع الاقتصادية المتراجعة في المملكة على هذا التوجه،
وهي اوضاع تفاقمت فيها ظواهر البطالة والفقر.
السؤال الذي يتردد كثيرا على الالسنة: ما مستقبل العلاقات
الامريكية ـ السعودية؟ وهل ستؤدي الضغوط الامريكية على العائلة
المالكة السعودية الي ضعف العلاقة ام الي تمتينها؟ ان كلا
الطرفين مشدود الي تلك العلاقة التاريخية ولا يمكن استيعاب اية
مقولة بانها ستضعف. والعائلة السعودية أكثر حاجة للدعم الا
مريكي، من حاجة واشنطن لها. فواشنطن مستعدة للتعاطي مع اي نظام
آخر، وان كانت حريصة جدا على استمرار الحكم السعودي مع شيء محدود
من التطوير. اما آل سعود فهم بحاجة الي الدعم الامني والسياسي
الامريكي، وتزداد هذه الحاجة مع اشتداد ضغوط الازمات الداخلية.
الخيار الآخر امام الحكم السعودي ادخال انفتاح حقيقي في الوضع
السياسي، والتطوير التدريجي للممارسة الديمقراطية، وهو امر غير
مستساغ لها بعد ان اعتادت الحكم المطلق ورفض اية معارضة لما تقول
او تفعل. وعليه فاشتداد الضغط من جانب الاطراف المتشددة سوف تدفع
بالحكم الي الاعتماد بشكل اكبر على واشنطن التي ستكون مستعدة
دائما لتقديم ذلك الدعم، مشروطا بعدم احراجها بالممارسات القمعية
الشديدة. انه توازن صعب وقلق ولكنه ثابت ومتواصل.
(عن القدس العربي ـ 5 مايو 2004)
العدد السادس عشر - مايو 2004
|