إعادة انتاج التحالف التقليدي

خيار التحالف المزدوج

 محمد الهويمل

  يبدو أن تكرار فرضية القسمة في مواقف الامراء الكبار والممثلة اعلامياً في ولي العهد الامير عبد الله ووزير الداخلية الامير نايف قد فقد الادلة المساندة له. إذ بات ممكناً رؤية منهج توفيقي لدى الطبقة الحاكمة يقوم على أساس الجمع بين ما يعتقد أنها متناقضات، كالتحالف بين الحكومة والتيار الديني التقليدي من جهة والحكومة والولايات المتحدة من جهة ثانية، فهذا التحالف المزدوج حين يجري اختباره في ميدان السياسة يصبح أمراً مألوفاً.. فقد كان هذا التحالف بصيغته المزدوجة قديماً وكان حتى الوقت القريب يمثل أحد دعائم الاستقرار السياسي في الدولة.. فالمصاهرة محكمة الروابط داخل هذا التحالف اكتسبت مشروعيتها وقوتها في مرحلة الحرب الباردة على أساس مواجهة المعسكر الشيوعي كخصم مشترك لكل من الرأسمالية الغربية والاميركية بوجه التحديد والاسلام في شكله المحافظ، يضاف الى ذلك حدة الاستقطاب الاقليمي والصراعات الخفية والمعلنة في الشرق الأوسط.

إن مبررات التحالف إكتسبت زخمها السياسي وغطاءها الشرعي في ظل أوضاع دولية شديدة التعقيد، هذا أولاً، وضمور الوعي الديني أو التماس المتعاقدين العذر حيال بعضهم ثانياً، فقد سكت الطرف الديني التقليدي عن آثام الرأسمالية الأميركية كون المصالح المشتركة تتطلب تأجيل المواجهة بينهما، فهما يواجهان الالحاد العالمي، وقبل الطرف الأميركي الظهور بوجه مزدوج: مع الليبرالية والمحافظة المتشددة في آن.. وكان ذلك مسكوتاً عنه، بل ومبرراً في أجواء داخلية شديدة العداء للشيوعية، وجاء الغزو السوفييتي لأفغانستان ليمد التحالف الأميركي ـ الديني التقليدي في السعودية بمزيد من مبررات البقاء والتعزيز. لم يكن هناك من يتوسل بالحديث عن ميول أيديولوجية، فقد كانت السياسة تغلّف حقائق دامغة ولم يعد بإمكان غير السياسة حلها.

لا ريب أن ثمة عوامل عديدة ساهمت لاحقاً في إزالة مبررات التحالف الاميركي ـ الديني التقليدي في السعودية، فالظروف الدولية والاقليمية لم تعد تتطلب بقاء هذا التحالف، فقد انهارت الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، ونجح مشروع الجهاد الافغاني بقيادة الولايات المتحدة وبرزت الاخيرة كشرطي دولي والقطب الأقوى في العالم، الى جانب التبدّلات الدراماتيكية التي جرت بعد الحادي عشر من سبتمبر، وسلسلة المتغيرات المتعاقبة بدءا من احتلال افغانستان والعراق وتغيير خارطة الشرق الأوسط، وخسارة السعودية موقعها المتميّز والاستراتيجي اقليمياً ودولياً، واندراجها في قائمة الحلفاء المشكوكين.

ولكن الحكومة التي عجزت بعد الحادي عشر من سبتمبر عن بناء تحالفات بديلة محلية ودولية تجد نفسها أمام خيارات محدودة، فالاطراف المرشحة للتحالفات البديلة لها شروطها التي تتطلب صياغة جديدة لميزان القوى ومعادلات السلطة.. وفيما يبدو فإن ثمة مؤشرات قوية على عودة العائلة المالكة الى خياراتها التقليدية ولكن  على أساس تواضعات جديدة.

قبل اعتقال دعاة الاصلاح كانت ثمة رهانات متعددة لم يجر حسم أي منها وتدور حول إمكانية بناء تحالف قوي بين الحكومة وقوة أو قوى اجتماعية متوافقة، ولربما رشحت بعض الامال عن تحالف وطني يجمع الحكومة وطيف القوى السياسية والاجتماعية المجتمعة على أجندة اصلاحية محددة. الا أن اعتقال الاصلاحيين بدا كما لو أنه العلامة الحاسمة في قائمة خيارات العائلة المالكة، فقد أصبح هناك ما يمكن وصفه بعودة غير حميدة للوراء، أي للتحالفات التقليدية باعتبارها مأمونة وفعّالة وناجحة حتى الآن.

هناك ما يبرر نزوع العائلة المالكة الى إعادة ترميم علاقتها التاريخية مع حليفها التقليدي، الذي تعرض لتمزّقات عديدة، فهذا الحليف يظل بحاجة الى معالجات راديكالية من أجل إعادة تركيبه بما يمنحه قدرة على توفير ما كان يضمنه في السابق للنظام السياسي. إن التيار التقليدي، من الناحية التاريخية، هو أقدر على توفير وصفة الشرعية، كما أن خطابه الايديولوجي يتناغم وطبيعة السلطة باعتبارها حائزة على القوامة والهيمنة. فمن جهة يمثل التيار التقليدي بما يضم بداخله من علماء ورموز دينيين، وهكذا شبكة من الدعاة الشعبيين، الحاضن الطبيعي للمجتمع الديني السلفي، وبالتالي فهو المأوى الرمزي والتاريخي للسلطة السياسية. ومن جهة ثانية، إن استعمال عنصر المصلحة من قبل التيار التقليدي بكثافة شديدة لتبرير أخطاء ومفاسد السلطة يمثل أحد الضمانات الدينية للدولة.. وهنا تغدو المصلحة مساحة مشتركة بين التيار التقليدي والحكومة، وفي الوقت نفسه المبرر المشترك لدى الطرفين للتعاون من أجل توفير كافة مصادر الاستقرار والاستمرار للدولة.

لقد أثمرت جهود التعاون بين وزير الداخلية والرموز الدينيين خلال الفترة الماضية في احتواء التأثيرات الواسعة لعمليات التيار الديني المتشدد، وقد بدا التنسيق بين الطرفين يحقق تقدّماً مدهشاً بما ينبىء عن رغبة مؤكدة لدى كل منهما من أجل التوصل الى صيغة تحالف جديدة.

بالنسبة للتيار الديني المتشدد غير المسلّح فإن ثمة ما يجعله أكثر تأهيلاً للعب دور مركزي في عملية الاستقرار الداخلي او بعبارة أدق استقرار السلطة. فهذا التيار يكتسب شعبية وسط شريحة اجتماعية كبيرة، وهو أقدر على إعادة إنتاج خطاب ديني للدولة في صيغة متطورة، وهذا التيار فيما لو جرى إقناعه بالتخلي عن بعض الأفكار المتشددة وخصوصاً المعادية للمسيحيين واليهود فإنه سيصبح وجهاً مقبولاً لدى الخارج وخصوصاً الغرب. على أن ثمة مشكلة تواجه الحكومة في التعامل مع هذا التيار المتشدد غير العنفي، في كونه شهد خلال السنوات الأخيرة تباينات فكرية وأيضاً تكتيكية بما يشدد على الحاجة الى اجراء عدة عمليات تجميل لهذا التيار، وهكذا وضع خطة دقيقة لتوزيع الأدوار بين رموز التيار في مسرح عمليات الحكومة سواء في الداخل أو الخارج.

بالنسبة للتحالف السعودي الاميركي، فمن المعروف أن السعودية مازالت تمثل أحد أهم الشركاء في العالم، ليس على أساس إقتصادي فحسب بل واستراتيجي ايضاً، بالرغم من كون العلاقة تمر بأزمة في الوقت الحالي، وبالرغم من المرارة التي تغمر مشاعر كثيرين في الدوائر السياسية في واشنطن منذ الحادي عشر من سبتمبر.

وحتى التشديد المتكرر على الفوارق الثقافية والسياسية والأمنية بين البلدين، وخصوصاً من قبل الساسة وصنّاع القرار في الولايات المتحدة كرد فعل على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فإن ثمة تواطئاً خفياً صلباً يقوم على الاعتقاد بأن المصالح الاستراتيجية بين البلدين يجب أن تكون بمنأى عن تلك الفوارق.. فبالرغم من السجل السيء لحقوق الانسان في السعودية فإن الاميركيين يمثلون مصدر استقرار واستمرار الحكم السعودي، لأن ذلك يجعل الاميركيين قيادة سيارات تسير بكفاءة عالية بفعل استهلاك وقود بكلفة منخفضة.

لقد جاءت الهجمات الارهابية في السعودية لتخلق مبرراً جديداً لتعزيز التحالف بين واشنطن والرياض، بما يشبه (تحالف الضحايا) المزعومين للارهاب. فبالرغم من الانتقادات الواسعة التي وجّهتها طبقة دنيا من السياسيين في الولايات المتحدة، فإن ثمة تصريحات تشيد بجهود الحكومة السعودية في الحرب على الارهاب، بل قد يصل الحال بمسؤولي الادارة الاميركية الى نفي الاتهامات التي تنشرها بعض الصحف الاميركية ضد العائلة المالكة والدفاع عنها، كما فعل ذلك وزير الخارجية في دفع التهمة الموجّهة لزوجة السفير السعودي في واشنطن بتقديم هبات مالية الى منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

وبالرغم من التوترات المتقطعة في العلاقات السعودية الأميركية الا أن ما تبرزه تقارير متلاحقة حول التعاون الاستراتيجي بين البلدين تؤكد على أن التحالف قد بلغ سن النضج بما ينفي بوادر قطيعة تامة تقوم على انفعالات او ردود فعل استثنائية.

وبالرغم من احتلال العراق، والانتقادات المتكررة حول تورط سعوديين في الاحداث هناك، فإن أهمية السعودية بالنسبة لواشنطن تظل باقية وإن لم تكن بنفس المستوى السابق. وهذه الأهمية نابعة من حقائق عديدة كون السعودية أكبر مصدر للنفط في العالم، وتزوّد الولايات المتحدة بنسبة 15 بالمئة من استهلاكها الداخلي، الى جانب التعاون الثنائي بين البلدين في مجال المحافظة على مستوى ثابت لكميات النفط في السوق العالمية وهكذا الاسعار، أضف الى ذلك التعاون العسكري بين البلدين. فبعكس التقارير العديدة التي نشرت طيلة السنة الماضية حول رفض السعودية استعمال القوات الأميركية لأراضيها في الحرب على العراق، فإن التقارير التي نشرت مؤخراً تؤكد على أن تسهيلات عسكرية كبيرة منحتها السعودية للقوات الأميركية قبل الحرب.

فقد كشفت مصادر عديدة في الجانبين الأميركي والسعودي أن السلطات السعودية ساعدت واشنطن في حرب العراق بصورة سرية أكثر بكثير مما هو معلن من بينها ثلاثة قواعد في الشمال الشرقي من المملكة، والتي كانت تنطلق منها الطائرات الحربية الاميركية، وسمحت لقوات خاصة بشن هجمات من الاراضي السعودية كما وفّّرت كميات كبيرة من النفط بأسعار متدنية كجزء من المجهود الحربي السعودي في عمليات قوات التحالف الاميركي ـ البريطاني في العراق.

ونقلت مصادر أخرى أن انطلاقة الحملة الأميركية الجوية على العراق بدأت من داخل الاراضي السعودية التي أنشأ فيها قادة أميركيون مركز قيادة جوية ضمّ مقاتلات ف 16 وطائرات تجسس.. وكان الجانبان الاميركي والسعودي أبقيا جزءا كبيراً من هذا التعاون والمساعدة سرياً لأكثر من عام خشية من أن يؤدي كشفها الى زعزعة الوضع داخل المملكة، ودرءا لاثارة المشاعر الدينية والوطنية للجمهور العام في السعودية والعالمين العربي والاسلامي. وبحسب وكالات الانباء فإن العائلة المالكة سمحت بانطلاق عمليات عسكرية واسعة من داخل أراضيها خلال الحرب. ونقلت الاسوشيتد برس عن مسؤولين عسكريين في البلدين بأن قوات أميركية خاصة شنّت هجوماتها انطلاقاً من الاراضي السعودية وخصوصا بعد ما رفضت تركيا السماح للقوات الأميركية باستخدام أراضيها. وكانت مقاتلات التحالف والمقالات الاميركية بما فيها طائرات التجسس والمهمات الاستطلاعية انطلقت من ثلاث قواعد جوية سعودية بما في ذلك قاعدة الأمير سلطان، وأشاروا الى أن ما بين 250 و300 طائرة تابعة لسلاح الجو انطلقت من السعودية. وأكّد هؤلاء المسؤولون بأن السلطات السعودية أجازت أيضاً انطلاق عمليات جوية وعسكرية من قاعدة تبوك الجوية ومطار عرعر قرب الحدود مع العراق، اضافة الى مهمات بحث وإنقاذ. وقد وصف الجنرال ت . مايكل موزلي الذي كان من أبرز مهندسي الحملة الجوية على العراق السعوديين بأنهم (شركاء رائعون).

في الواقع ان الشراكة الاستراتيجية بين الرياض وواشنطن ليست منحصرة في الجانب العسكري، فقد ظلت العلاقة بين البلدين على مستوى القيادة السياسية ذات طابع متميز، وأن التوترات الظاهرية في التحالف بين البلدين بسبب ظهور عنصر أسامة بن لادن لم يكن سوى إحدى إفرازات هذا التحالف ومنتجاته التي تبين لاحقاً عدم امكانية التعامل معها في مرحلة تتطلب شروطاً واستراتيجية تعاون مختلفة.

لاشك أن مشاعر العداء للولايات المتحدة في الشارع السعودي في حالة تصاعد تماماً كما هي في أغلب الشوارع العربية عموماً بسبب موقف الادارة الاميركية من القضية الفلسطينية والتأييد المفتوح للكيان الاسرائيلي، وايضاً بسبب الاحتلال الأميركي للعراق.. ولعل هذا ما يجعل السعودية كحكومة تتبنى موقفاً موارباً من اجل درء سهام الرأي العام المحلي والعربي، وحتى لا تكتسب رؤية اسامة بن لادن حول النظام المزيد من المصداقية والتعاطف.

وفي واقع الأمر، أن التحالف السعودي الأميركي سيبقى مرتكزاً على التفاهم التقليدي بأن توفّر الولايات المتحدة الحماية للعائلة المالكة في مقابل حفاظ الاخيرة على تدفق النفط بإستمرار الى أمريكا بسعر ثابت ومقبول. ولذلك فإن الحديث عن تبني الولايات المتحدة لفكرة دمقرطة السعودية يبقى محفوفاً بالشكوك ما لم تحقق الفكرة قدراً من الاطمئنان الى انها تأتي في سياق الهدف المرسوم والذي يحققه التحالف الاستراتيجي بين البلدين.

 

  العدد السادس عشر - مايو 2004