الوهابية تزود السعودية بالمتفجرات لعقود قادمة وتصدر الزائد!

الدين والعنف في المملكة العربية السعودية

 فاضل حسين

 ظاهرة العنف مرتبطة بالأديان، ومرتبطة بالعقائد السياسية والقومية، قلّما ينجو منها دين أو قومية. وتمتلك العقائد بشكل عام قدرة هائلة على التحريض الجماعي وعلى تشكيل الوعي للأتباع وتنميط الصور وغرس مبادئ الجلاد والضحية لدى أتباعها في آن واحد.

والعنف في المملكة ظاهرة (نجدية) و (وهابية) ليس سببها المذهب الوهابي فحسب وإن كان الممول الأول لها، من حيث الفكرة والإعتقاد، وإنما البيئة الصحراوية التي نشأ فيها المذهب والجمهور وهي بيئة معزولة عن العالم. إن ظاهرة العنف في المملكة ليست ظاهرة حديثة، شهدناها خلال السنوات الأخيرة، بل هي ليست وليدة قيام الدولة وما بعدها، بل أن العنف كان على الدوام ظاهرة حيّة في الجزيرة العربية، وكانت منطقة نجد أقساها على الإطلاق وأكثرها إيغالاً فيه.

لقد تعاضدت بيئة الصحراء على إنتاج نمط من التفكير والتمذهب غير مسبوق في التاريخ المعلوم للجزيرة العربية.. لهذا أطلق البعض ـ كالمرحوم الشيخ الغزالي ـ على المذهب الرسمي صفة (المذهب البدوي) و (المذهب الصحراوي). وهذا يشير بوضوح الى أن العزلة الإجتماعية تنتج فكراً متشدداً، وتجعل من الجمهور محاصراً بفكر أحادي وبالتالي فهذا الجمهور معرض لغسيل الدماغ وأن يكون ضحية التحريض. الجماعة المعزولة جغرافياً ومعرفياً تنتج ثقافة متشددة وتستهلك ثقافة متشددة وتمارس عنف وتقع ضحية تحريض ويكون لديها الدافع للتضحية! والجماعة المعزولة ـ كما هو الحال في نجد ـ لديها حساسية من الآخر فكراً ومعتقداً وسلوكاً، ومن السهل إثارتها بأدواتها المحلية (رجال الدين ورجال السياسة).

في تاريخ نجد القريب والحديث نماذج غير مسبوقة من العنف الدموي ضد البشر نساءً ورجالاً وأطفالاً، ونماذج من التدمير غير مسبوقة أيضاً كقطع الأشجار وردم الآبار وتدمير المنازل، كما يوضح ذلك التاريخ المكتوب بكل تفاخر في أهم مراجع التاريخ السعودي (عنوان المجد في تاريخ نجد مثلاً). وما كان ذلك العنف الموجّه الى المخالف ليكون بتلك الحدّة لولا أن الفكرة المذهبية الوهابية هي الأخرى حادّة قاطعة، ولولا أن أتباعها رجال قست عليهم الطبيعة فقسوا على أنفسهم والتصقوا بالفكرة بل التحموا معها لتصنع منهم جنوداً فائقي الإقدام وارتكاب الفظائع (رجال الأخوان الذين كانوا الجيش السعودي نماذج واضحة لذلك) بإسم الدين وبعزته وفي سبيله، لا تقف أمامهم عقبة ولا يرف لهم جفن وهم يذبحون الآخرين كالنعاج أو حين يبقرون بطون النساء أو يسلبون الآخرين أموالهم ومتاعهم. لا يعرف هؤلاء شعاراً غير (هبّت هبوب الجنّة وينك يا باغيها) (وأنا أخو من أطاع الله) ولا يدبر منهم أحد وقت المعركة فتلك ردّة، ولا يزيدهم النصر إلا يقيناً بأحقية الهدف، وسلامة المعتقد.

لكن لا يمكن للفكرة الدينية أن تحشد جمهورها إلا أن تكون بسيطة سهلة الهضم خالية من التعقيد والفلسفة، وهذه هي الفكرة الوهابية، إنها تدعو الى التوحيد، وهل هناك أجمل من التوحيد والدعوة اليه، وما نراه تعقيداً في تصنيف الناس والأشياء، لا يراها أتباعها كذلك، فهناك وضوحاً يقينياً لا تشوبه شائبة من أن هناك معسكرين ـ أو فسطاطين حسب تعبير ابن لادن ـ هو معسكر الإيمان والحق، ومعسكر الباطل والضلال. وهذه كانت الرؤية لدى الوهابية في قديمها وحديثها: نحن المسلمون وغيرنا كافر او مشرك. لا نقول هذا تقوّلاً، بل هو مسطور في الكتب ويجري التعامل على أساسه (مع تغير طفيف في المواقف). ومن يقرأ كتب التاريخ السعودي لن يجد سوى تعبيرات: فتح المسلمون، وقتل المسلمون، واستولى المسلمون! والمسلمون بهذا التعريف جهة واضحة، وما يقابلها من أمّة الإسلام كفرة وهراطقة.

ويأتي تبعاً لبساطة الفكرة ـ المعتقد ـ تضخيم الأسطورة، وتضخيم الذات، وقد انعكس هذا واضحاً على شخصية المتدينين السلفيين الأفراد كما العلماء، وحتى بعض العلمانيين النجديين، فهناك زهو مبالغ فيه بالذات، وبالرأي وبالطرح الخاص، وهناك تضخم للأنا معتقداً وذاتاً ورموزاً وكأنه لا يوجد في المملكة أحدٌ سواهم. حين يجري الحديث عن الدين فهو دينهم لا (ديننا) وحين يتحدثون عن العلماء فعلماء دينهم لا (علمائنا) وفي الحديث عن الإنجاز فهم المعنيون به، والدولة هم وإليهم، ليس هناك بشر آخر أو فكر آخر غير فكر الذات والأنا، ولو أردنا تتبع التصريحات والمقالات التي تضخّ من خلال الإعلام والصحافة والتلفاز لوجدنا كمّاً مهولاً من الأدلّة والشواهد. فالآخر ليس مهمّشاً فحسب بل ليس موجوداً بالمرّة، ولا يعار أية أهمية حين يذكّرون به.

وينطبق هذا القول على تنميط الآخر المخالف، فالمجتمع النجدي يتداول (أساطير) عن الآخر الذي يعيش بينهم، ويضخم خطره وتآمره، وفساد عقيدته، بل ويزيد في الإبتداع عن إباحيته، وعن الحوافر التي يمتلكها والغباء الذي لا نظير له عند الآخر. هذه الصورة استولت ولاتزال تستولي على مخيلة الإتباع واستقرت في نفوسهم منذ زمن طويل، لم يؤثر فيها كثيراً الإلتصاق ضمن حدود المواطنة، ولا الإحتكاك في العمل، ولم تقم وسائل الإتصال والإعلام بتغيير تلك الصور النمطية، والسبب أن الآلة الثقافية للوهابية والإعلامية الحكومية ـ لا فرق ـ لاتزال تحاصر بأشخاصها ورموزها وعبر الإدعاء الكاذب بتطهرها عقلية الجموع، وتتعقبهم في الإنترنت وفي التلفاز والراديو والصحيفة والمجلة والمسجد وكتاب التعليم وخطبة الجمعة. بعبارة اخرى، فإن أدوات التحديث، استخدمت اليوم لزيادة محاصرة العقل، وتعزيز سيطرة الخرافة والنمطية والتهييج الحماسي للجمهور. لقد أضحت النمطية جزءاً من المعتقد الديني فصارت فكراً أساسياً لا يمكن للآخر التخلي عنه بسهولة. إن الفكر الوهابي والإستعلاء النجدي يمنعان استخدام المحاجات العقلية لتغيير الأفكار الموروثة والمضللة، ولا يقبلان بروح النقد للذات وللصورة المرتسمة في المخيال الشعبي. سيبقى الآخر (عميلاً متواطئاً مع اليهود، غير مخلص في ولائه، له قرآن آخر، يتزوج بأخته وأمه، الخ) وبالتالي فهو خطر ويجب ان يستخدم العنف ضدّه في الحدود القصوى.

وعلى هذا الأساس، أصبح الدين ـ المذهب في نجد مطيّة يستخدمه السياسي ويوجهه وفق رغباته ومصالحه داخلياً وخارجياً، وما استخدام الدين كأداة في السياسة الخارجية إلا واحداً من الأدلة. كما يمكن لرجل الدين السلفي أن يستخدم عاطفة الدين ـ المذهب ويطلقها من عقالها تحقيقاً لذاته، أو حماية لحريمه الخاص من خطر مدعّى، أو يوجهه كرسالة الى الخارج بالفكرة والقلم والمال والسلاح كما هو حاصل اليوم. إن تسييس العاطفة الدينية، خاصة بالنسبة لمذهب يعتبره أتباعه طهرانياً قامت على أركانه دولة وتشكلت من حوله مصالح متشابكة، أمرٌ متوقع (النص التاريخي للحلف التاريخي بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود فرض مقولة: ابشر بالغلبة والتمكين. ولم يكن محمد بن سعود بعيداً عن رأي زوجته: اغتنم ما ساقه الله به إليك). لكن تلك العاطفة كان يجب أن تخمل لينشط مكانها عاطفة أخرى تقرّب البعيد وتحفظ الدولة. الذي حدث عكس ذلك، فاستمرت ماكنة الضخ التحريضي الديني ضد المواطن في الداخل وضد المختلف في الخارج، فارتدت عنفاً حاداً لازلنا نسمع صداه.

الدين بنسخته الوهابية، من جهة نزعته الحادّة للتكفير والتفسيق والتبديع، ومن جهة توسيعه لدائرة المحرم بحجة سدّ الذرائع، أو الإكثار من الوعظ حول الموت والآخرة والأساطير التي تنسج حولهما، لا يمكنه إلا أن يكون مادّة خام لصناعة العنف والتحريض. إنها مصنع للفكر المتطرف والشباب الإنتحاري فاقد البوصلة وغير المبالي بأية خسائر ولا روادع عقلية.

المسألة ليست قضية تاريخية أو دينية فحسب، بل هي نمط حياة فُرض على الجميع دون مسوغ عقلي أو ديني، نعيشه كل يوم. ولهذا فإن الوهابية مرشحة لأن تزود السعودية بما يكفيها من انفجارات لعقود قادمة، فضلاً عن (تصدير) الزائد من نتاجها الى دول الجوار وفي مختلف أنحاء العالم!

 

  العدد السادس عشر - مايو 2004