الارهاب في الداخل
إنفلات مصادر التوجيه الديني
فؤاد ابراهيم
بات مألوفاً أن يعقب كل عملية إنتحارية بنتائجها المدمّرة، وبصور
الاشلاء المصبوغة بالدم، وهدير الرعب الذي يلف الارجاء أن يطرح
السؤال الجوهري العويص: ماهي المحرّضات الايديولوجية للعنف؟
وماهي شهادة المنشأ لظاهرة العنف في الداخل؟ وهل ثمة ما يدعو
لقبول إجابة السياسي والديني معاً: أن أيديولوجيا العنف تمثل
إحدى المواد المهرّبة عبر الحدود الغربية.. أي عن طريق مصر
وتحديداً الاخوان المسلمين وأكثر تحديداً كتابات سيد قطب؟.. هذه
الاسئلة المتدافعة بصورة متكررة في أعقاب حوادث عنف محلية لم ولن
تهدأ طالما بقيت الاجابات ذات طابع تبريري، أي كونها مصممة بدرجة
أساسية لنفي الجذور المحلية لظاهرة العنف، أو بكلمة أخرى مباشرة
وواضحة كونها تستهدف تحديداً تقديم وثيقة براءة لكل من الديني
والسياسي.
لا ريب أن هناك سمات مشتركة بين جماعات العنف في السعودية وبعض
الجماعات الدينية السريّة التي نشأت في مصر خلال فترة السبعينيات
والثمانينيات مثل جماعات التكفير والهجرة والجهاد أو ما عرف بإسم
التيار القطبي، وهي بلاشك تعبّر عن إشتقاقات من الحركة الأم ـ
جماعة الاخوان المسلمين.. فهذه الجماعات تعتقد بكفر الدولة
والمجتمع، وتتبنى خيار الجهاد في شكله الانتحاري كاستراتيجية في
التغيير الاجتماعي والسياسي معا.. الى جانب السريّة التي تحيط
نشاطاتها ومراكز عملها بل ورموزها، وثانياً شبابية أعضائها،
وثالثاً إفتقارها للبلاغ الشعبي في بعديه الديني والسياسي،
والعائد في جزء أساسي منها الى كونّها جماعات سرية، وبالتالي
عجزها عن استعلان نفسها وبرنامجها السياسي واهدافها النهائية.
فهذه الجماعات العنفية سواء في مصر او السعودية تلتقي في قواسم
مشتركة، فقد تكاد توحي بأن هذه الجماعات تشرّبت من نفس المصادر
الايديولوجية، وتلقت تعليمها الديني تحت منابر ذات الموجّهين
الروحيين.. إن هذه التطابقات غير القابلة للحصر أحياناً تغري
السياسي والديني في بلادنا الى تعزيز مثل هذه التطابقات بل
وإضفاء زخم كثيف عليها، كونها تزيح أصابع الاتهام عن وجوه
وتصرفها الى أخرى، في الخارج أملاً في المحافظة على نقاء الذات
وبراءتها من الدماء البريئة التي أهرقت في شوارع الرياض أو جدة
أو مكة وغيرها من بقع المواجهة بين جماعات العنف وقوات الأمن.
وتزداد المشكلة تعقيداً حين يراد من الجميع هضم الرواية الرسمية
كما يمليها السياسي والديني معاً بأن العنف منتج أجنبي، وأن
منابعنا الفكرية غير مسممة بمادة العنف، وكأن المتورطين تحدّروا
من رعيل العنف في أرض الكنانة، مع أن ليس بين أعضاء مجموعة العنف
في المملكة من وطأ تلك الأرض أو مرّ عليها عن طريق كابول أو
قندهار أو جبال تورا بورا، فيكون حصل على جرعة ايديولوجية مكثّفة
في أفغانستان.. فأغلب هؤلاء ينتمي الى الجيل العشريني، أي لم
يصبهم مسّ الحرب الأهلية في مصر، أو الجهاد الافغاني ضد الاحتلال
السوفييتي، وقبل ان يقرروا تطبيق التدريبات الجهادية في الداخل..
كل ذلك والاصرار يحدو بالرعاة الأوائل والكبار للنأي عن التفتيش
في مصادر محلية للعنف، أو قراءة سجّلاتنا الثقافية والدينية من
اجل العثور على مواد مشعّة قابلة للاستعمال في إنتاج خطابات
دينية متطرفة.
يبقى القول في كل الاحوال، إن قبول الرواية الرسمية متوقف على
قراءة ذاتنا الايديولوجية أولاً قبل اللهو بالبحث عن شماعة
خارجية، فقد سأم الجميع هذا الإفراط في العبث بالوعي العام، وقد
أنهك الهروب من مواجهة الحقيقة الصادمة مجهوداتنا الفكرية
والسياسية.. فليس هناك سوى الانا التي يجب ان تقف منفردة امام
القضاء، ويجب سرد كافة الادلة من مصادرنا المعرفية، لأن فيها
وحدها تكمن الاجابة الحاسمة حول ما اذا كان هناك محرّض ايديولوجي
على العنف.. لا يكفي مجرد إخفاء النصوص الخاصة، لأنها محاولة
بائسة ومحكومة سلفاً بالفشل الذريع، فليس هناك نصوص قابلة
للتغليف في زمن الانفتاح المعرفي والاتصالي، ولا يكفي مجرد إعادة
تفسيرها، لأن الظاهرية الساطعة فيها لم تترك مجالاً لحملها على
معان متعددة أو إخضاعها لتفسيرات أخرى أكثر مسالمة. إن المخزون
الايديولوجي الخاص يجب فتحه أمام فرق التفتيش المحلية قبل
الخارجية، لأن الأضرار الكبيرة التي أحدثها هذا المخزون بدأت
بالداخل قبل الخارج، ولأن (أهل مكة أدرى بشعابها)، و(لا يعرف
النار الا واطيها) فنقّاد الداخل وحدهم الأقدر على تحديد مواقع
التفجّر في هذا المخزون، ولتكن بيدنا لا بيد غيرنا المصنّفين في
خانة الخصوم..
إن المتناسلين من نفس النسق المعرفي الديني يدفعهم الاحساس
الطبيعي بالخطر ونزعة الدفاع المتأصلة الى نفي تهمة التحريضية
الكامنة في منهج التعليم الديني، فهؤلاء لا يستشعرون خطورة
المكنون الانفجاري في النصوص ذات الصفة الدينية، بفعل الألفة
والاعتيادية الى جانب استشعار الحق والواجب بحراسة النص
وصيانته.. ولذلك لا يبدو لمن ألفوا مثل تلك النصوص ماذا يعني
خروج عضو في هيئة كبار العلماء وداعية معروف تم اختياره بعناية
فائقة على شاشة التلفزيون الرسمي لغرض دفع تهمة الارهاب عن
المذهب الرسمي للدولة و نفي تورط سعوديين في احداث سبتمبر، بأن
يطلق نداءً الى الرئيس الاميركي محذّراً إياه بأن بلاده لن تسلم
الا بالدخول في الاسلام، وكأنه أثبت ما أراد نفيه!.
ثمة مشكلة جوهرية تكمن في قراءتنا للنص الديني المعمول به
والسائد في مصادرنا الثقافية ومناهجنا التعليمية، وهي إفتقارنا
لآليات إختبار التأثيرات النفسية للنص على المتلقفين له.. ففي
كثير من الحالات قد تحدث النصوص ذات الصفة الدينية تحديداً
إرتجاجات اجتماعية عنيفة وخلخلة في بنى النظام السياسي وقد تشعل
حرباً اهلية علنية أو شبه علنية ولكن اختبارات مخاطر هذه النصوص
كانت تتم دائماً في الخارج، أي بعيداً عن مراكز صدور النص..
وللأسف إن الانعكاسات النفسية للنص لم يجر التنبّه لها وفحصها
الا حين وصلت أوضاع بلادنا حد الانهيار. ومع ذلك هناك من لا يزال
يعتقد بأن مصادر الفكر الديني المحلية خالية من محرّضات ـ من أية
نوع ـ على العنف.
إن النزعة التبريرية قد تحمل قدرة تدميرية هائلة حين يتم انكار
كافة الشهادات المرئية والتجسيدات الدموية بكل الصورة الساخرة
المنبعثة مع رائحة البارود.. وحين يقال بأن مناهجنا التعليمية
ليس فيها ما يحرّض على العنف، كونها مستمدة من الكتاب والسنة،
تصبح لغة الدفاع دليل إدانة في ذات الوقت، لأن الواقع ينكر كافة
الشهادات الواردة في هذه اللغة.. فالجماعات التخريبية أو
الجهادية لم تتشرب سوى من منابع المعرفة الدينية المحلية حين
كانت تمتطي شاحنات مفخخة.. ولم تستمع سوى الى النداءات الصادرة
من حلقات الدرس، وخطب الجمعة، ومجالس الوعظ المعقودة داخل حدود
بلادنا.. لم تكن أدوات التوجيه هذه مملوءة بغير النصوص المنبثّة
في مناهج التعليم الديني الخاص والعام على السواء..
ليس هناك ما يمكن فهمه بطريقة أخرى حين يوصم سكان المعمورة
بالضلال بإستثناء بقعة صغيرة وسط الجزيرة العربية (كما يخبرنا
كتاب التوحيد)، بما يجعل خيار الجهاد ناجزاً، وليس هناك ما يمكن
تفسيره على غير ظاهره حين ينفي رمز ديني بارز في بلادنا في شرح
الاصول الخمسة صفة أهل السنة والجماعة عن الاغلبية السنية
المسلمة.. بل ليس هناك ما يمكن تأويله حين يكرر الدعاة إضفاء
الشرعية الدينية على الدولة السعودية وينزعونها عمن سواها..
إن دعوى التمثيل الاجمالي للدين والدولة يمثل، في حقيقة الأمر،
إنتكاسة كبرى في الوعي الديني والسياسي لدى الطائفة المتعالية،
فالجماعة المتمذهبة تدخل الى الميدان بصفة الممثل الشرعي الوحيد
للاسلام، تماماً كما تسيّر الطبقة السياسية دفة الحكم بصفة
الممثل الشرعي الوحيد للدولة.. إن هذه المصادرة المقصودة تستهدف
أولاً واخيراً احتكار مصادر القوة والمشروعية بالمعنى الديني
والسياسي.
فثمة إحتكار مزدوج: احتكار النص، واحتكار حق تأويله. بكلمات
أخرى، أن النص المستخدم وحده الحائز على صفة النسخة الاصلية
النموذجية، وأن تأويل النص وفق رؤية وأدوات وأغراض محددة يقدّم
بوصفه بطاقة عبور الى المجال التشريعي. فهناك شعور خفي يحفّز
الطبقتين الدينية والسياسية، يقوم على أساس خاصيتين مركزيتين:
التميّز والهيمنة الفريدة، فهذا التميّز يجعلهما نابذتين لأية
محاولة الاخضاع لمعايير المساواة والانصاف والمحاسبة، لاحساسهما
المتعاظم بالتميّز عمن سواهما، وهو تميّز يتكافىء في الاحساس به
كل من رجل الدين ورجل السياسة، وهو أحد ممليات الخطاب الديني،
وهكذا التفكير السياسي. من جهة ثانية، فإن نجاح التحالف الديني
السياسي في تحقيق المنجز النهائي، أي إقامة الدولة نمّى نزعة
سلطوية ضارية لدى الطبقتين الدينية والسياسية، وأحال من الدولة
الى امتياز خاص ومجال محتكر فئوي، ولذلك هناك تواطىء مشترك على
مقاومة أية دعوة للمشاركة والمقاسمة السياسية، فالديني يتشبث
بخطابه الوصائي التنزيهي الواحدي رافضاً مبدأ التعددية الفكرية
والمذهبية، والسياسي يقاتل من أجل تركيز مصادر السلطة واحتكارها
وجمعها في الطبقة الحاكمة نابذاً لمبدأ الاصلاح والمشاركة
السياسية. فكل منهما ينطلق من عقيدة هيمنة الديني والسياسي على
المجال العام، وأن من يقعون بداخله لا يملكون من أمرهم شيئاً الا
ما قدّره لهم كل من الديني والسياسي!!
من بين عوامل أخرى، فإن الاحساس بالتميّز والهيمنة، المتفشي داخل
الجسد الديني يقف وراء الاستعمال المسرف لحزمة الاحكام القصوى:
إيمان وكفر، شرك وظلال.. فثمة إلغاء للمسافة الفاصلة بين الاحكام
داخل النظام الافتائي الديني يجعل من استسهال اللجوء الى مثل هذه
الاسلحة ممكناً وسهل الاستخدام، ضد ما هو مختلف ومتربص بالعداء
للهيمنة في شكليها الديني والسياسي.
ولعل في ذلك ما يعين على كشف سر تعدد مصادر الفتيا في هذا البلد،
فالمؤهلون لاستنباط الاحكام من الكثر بحيث باتوا يمارسون دوراً
مستقلاً عن سلطة الدولة، وهؤلاء يشكّلون أحد مصادر التهديد
الكبرى للدولة والمجتمع، ومن تحت عباءة هؤلاء تخرّج رموز التيار
المتشدد أو الجهادي. فبينما كانت الانتقادات تتزايد حيال الفتاوى
اللامسؤولة الصادرة من أعلى مصدر افتائي في الدولة، والتي ساهمت
في تخريب علاقات الدولة بجيرانها كفتوى تكفير الاباضية في عمان
أو تكفير الشيعة في ايران، اضافة الى عشرات الفتاوى التبديعية
الصادرة تباعاً خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات والتي طالت
شخصيات، وطوائف، وفرق، ودول، ومجتمعات وحضارات، ولم تكد تسلم
بقعة في هذه الارض الا نالها من الفتاوى القصوى في بلادنا، وكل
ذلك على أمل أن يكون مركز الافتاء خاضعاً للسيطرة الرسمية، وفي
الوقت نفسه مأموناً، بمعنى إبقاء فوهة الافتاء موجّهة الى غير
جهة الحكومة المحلية. ولكن ما حصل منذ نحو عقد على الأقل، أن ثمة
ما يمكن وصفه بالانفجار الافتائي قد وقع بفعل الانشقاق داخل
المجتمع الديني على أساس مع وضد الحكومة، وانكسار مراكز الافتاء
التقليدية التي نشأت تحت رعاية الدولة، وبروز فئة من المفتين
الجدد التي نشأت كرد فعل على الدولة ومراكز الافتاء التقليدية،
وجاءت لتعبّر عن نفسها في مشروع ديني وسياسي احتجاجي وبديل عن
المشروع القائم.
في حقيقة الأمر، أن السماح بتنوع مصادر الفتيا وسلطاتها سلب من
الدولة قدراً من هيمنتها ومشروعيتها، فكثير من المفتين غير
المنضوين داخل المؤسسة الدينية الرسمية يمثلون وأتباعهم مجتمعاً
مضاداً للمجتمع القائم، فهم إنما يزاولون هذه المهام لاعتقادهم
بأن الفضاء المتاح لهم بالعمل والتعبير ليس بالرحابة التي يطمحوا
للحصول عليها. لقد بات من الضروري الدخول الى المجال الحيوي
للتوجيه الديني الشعبي، وبدء المراجعة الشاملة والناقدة لمخزون
المعرفة الدينية المحلية أولاً، قبل أن يشعل هذا المخزون فتيل
حرب أهلية داخلية لا تبقي سوى ذرراً من دولة يقال عنها لاحقاً
كانت تسمى بالأمس هكذا.
العدد السادس عشر - مايو 2004
|