العدد 17
يونيو 2004
الإعتراف بالخطأ وبالأسباب بداية للحل
محاربة النتيجة لا تكفي لصد العنف
فاضل حسين
تتجه السلطات الأمنية في المملكة الى ممارسة المزيد من العنف في
مواجهة الإضطراب الأمني المتعاظم. فهي تحاول حلّ نتائج العنف لا
حل مسبباته التي صنعتها الدولة بنفسها. إن مكافحة النتيجة وإهمال
الأسباب التي تستدعي اعترافاً بالخطأ وانتهاج وسائل أخرى غير
العنف (أو بالإضافة اليه) سيكون أهم سبب في فشل الحملة الأمنية
الرسمية، وهي التي ستؤدي الى تدهور الأوضاع أكثر وأكثر.
اذا لم نمتلك الشجاعة حتى الآن في الإعتراف بأن ظاهرة العنف
صنعناها بأنفسنا، وأنها ظاهرة محليّة في معظم فصولها وأدوارها..
إذا لم نعترف بأننا أنتجنا الأيديولوجية الدينية بتفسيرها المفرط
والمغالي الذي حفر عميقاً في أذهان شبابنا أفكار العنف والتمرد
والشطط..
وإذا لم نعترف بأن سياساتنا الإجتماعية والإقتصادية أو لنقل
(سياسة التحديث) قد أفرزت لنا أمراضاً عصيّة على التطويع، وأن
الدولة فشلت في برامجها وخططها في تلبية حاجات المواطن الأساسية،
وخلقت طوابير من العاطلين ومن المحبطين ومن الضائعين.
إذا لم نعترف أن العنف الذي نشهده هو عنف سياسي، يستمدّ بعضاً من
جذوره الى جمود النظام السياسي، وضعف شرعيته، وافتئاثه على حقوق
المواطنين المشروعة سواء كانت سياسية أو مادية.
إذا لم نمتلك الشجاعة بأن نقول أن دعاة العنف هم أبناؤنا، لم
يهبطوا علينا بالباراشوت من السماء، بل هم نتاج فراشنا، ونتاج
ثقافتنا، ونتاج جهلنا وأخطائنا..
اذا لم نعترف بكل هذا وألقينا باللائمة على (الآخر) واعتبرناهم
مجرد نبتة شيطانية لا قرار لها، أو فئة تستخدم العنف بلا هدف، أو
شرذمة أغواها الشيطان (هكذا!) بلا رابط ولا منطق. اذا ألقينا
باللائمة على فكر الإخوان المسلمين وليس على فكر الوهابية، وعلى
أفغانستان، وعلى بن لادن (الذي هو أيضاً واحداً من نتاج تعليمنا
وثقافتنا وبيئتنا المريضة)، وعلى ما تفعله أميركا وسياساتها في
الشرق الأوسط فحسب..
اذا لم نقف مع أنفسنا ونعترف بأن العنف الذي يحصدنا ويتعاظم
تهديده ليصل الى كل مفاصل حياتنا، معجون مع خبز يومنا وفي
تعاملنا مع بعضنا، في حكامنا وفي أنفسنا، في إعلامنا ومناهج
تعليمنا.. فإننا لن نصل الى حل له. وكيف نصل ونحن نجهل التشخيص،
أو على الأقل نتعامى عن التشخيص الصحيح للمرض؟!
مرت أعوام طويلة ونحن نتحدث عن أسباب المرض، ورغم الإجماع بين
النخب المحلية (تقريباً) على أن العنف صناعتنا وخرج من مفارخنا،
إلا أن الحكومة والتيار السلفي المتحالف معها يبعدان عن نفسيهما
التهمة. فالأول لا يريد أن يعترف بمسؤولية سياسية ولا اقتصادية
قد يترتب عليها إصلاح وتنازل؛ والثاني لا يريد الإعتراف لأنه لا
يريد مراجعة فكره التطهري المزعوم، ولا يريد أن يعالج مرضاً من
صنعه ويجري في دمه قد يترتب عليه إعطاء فكر منافس دوراً يلعبه
يقضي على الواحدية الثفافية والمذهبية التي ابتليت بها المملكة
منذ أن تأسست، وبالتالي يخفف من قيمة المؤسسة الدينية ورجالها،
الذين لازالوا يزعمون بأن السلفية ـ الوهابية هي قدر الدولة،
وقدر نظام الحكم، ولا يمكن أن تقوم للدولة قائمة إلا بها، وهذا
ما يعبر عنه بملء الفم من قبل المفتي ورئيس مجلس القضاء وغيرهما!
تستطيع النخب المتطفّلة على أمراء العائلة المالكة، أن تجادل بأن
الوضع الإقتصادي والمعاشي للمواطنين ليس سبباً في الأزمة؛ فعلى
حدّ قولهم هناك دول فقيرة جداً وفيها بطالة ولكن العنف لم يتغلغل
في نسيجها السياسي والإجتماعي. وبالتالي فمهما أخطأت الحكومة
وفسد رجالها ومهما قيل عن الفساد المالي وضياع ثروة الأجيال
وتصاعد الدين العام، ونمو البطالة وضمور الخدمات الإجتماعية..
فإن كل هذا ليس سبباً للعنف، وليس مبرراً له، كما أن العائلة
المالكة لا تتحمل مسؤولية العنف وإن فشلت في كل هذا!
وهؤلاء يتناسون أن هناك فرقاً كبيراً بين شعوب دول تعيش في الأصل
فقراً ناتجاً من ضعف مصادر الدخل وتحاول ترقيعه، وبين انكسار
اقتصادي ـ شبه مفاجئ وغير مبرر ـ يطيح بأحلام الملايين من
المواطنين، ويعبث بأفكارهم ونفسياتهم. في الحالة الأولى، لا تحدث
ثورات ولا عنف سياسي، بل قد تكون مثل تلك الدول الفقيرة تعيش
حالة من الديمقراطية (الهند مثلاً).. والسبب ان المواطنين هناك
يتطلعون بأمل الى مستقبل مشرق، والى وضع آخذ في التحسّن. أما في
الحالة السعودية، فإن الإنكسار الإقتصادي يؤدي الى الثورات،
وهناك من يقول من المنظرين السياسيين بأن معظم الثورات الكبيرة
كالثورة الفرنسية والإنجليزية تعود بالدرجة الأولى الى أن
انكساراً اقتصادياً حدث بعد تنمية متواصلة، أدّت الى بث الرعب
والخوف من المجهول السيء القادم.
وتستطيع النخب المتطفّلة تلك أن تزعم وتجادل بأن الأيديولوجيا
الدينية للدولة (الوهابية) ليست سبباً، كما المناهج الدينية،
ويحتجون بأنها لو كانت كذلك، فلماذا لم يتخرج عنفيون قبل هذا
الوقت، ولماذا خرج التعليم اجيالاً مختلفة، بعضها عنفي وبعضها
الآخر متسامح؟
ايضاً يتناسى هؤلاء، ان الوهابية في فكرها تحتضن خزّاناً لا ينضب
من التأصيل للعنف والتحريض عليه، سواء ضد المواطن أو ضد الآخر
الخارجي. هذا الأمر لا يستطيعون نفيه والتنكّر له، فالكتب شاهدة
على ذلك. كما يتناسى هؤلاء حقيقة أن الوهابية عنصر توتير
للمجتمع، فمنذ قامت الدولة قبل ثمانين عاماً لاتزال تفتح في كل
يوم معاركها ضد المواطنين مرة بإسم محاربة الحداثة والعصرانية
ومرة تحت شعار محاربة الشرك والوثنية، ومرة ضد الدولة التي هي
دينية (وليست وطنية أو وثنية). حدث هذا مع الإخوان في العشرينيات
الماضية، وحدث مع جهيمان، وحدث قبلها في الستينيات الميلادية،
وحدث في بداية التسعينيات ومنتصفها واستمراراً حتى اليوم.
والوهابية فوق هذا تخنق المجتمع بتوسيع دائرة المحرمات تحت بنود
درء الفتنة، او درء المفاسد أو ما أشبه، حتى لم يبق من الحلال
إلا ما يفترض أن يكون قدر الحرام!
والحقيقة الأخرى التي يجب أن لا تُنسى، أن الوهابية وإن كانت
منهاجها تعلّم وتحرض على العنف، فإنها لا تحرض إلا لمن انتسب
اليها وآمن بفكرها، وليس كل من تعلم تلك المناهج. أما الضحايا
فلا يقبلون بمنطقها الذي يكفرهم، وهم إن تأثروا فبالسلب منها،
فنهجوا نهجاً مختلفاً لما تدعو اليه.
كما أن أولئك المتطفّلين يستطيعون أن يجادلوا بأن العنف السياسي
الذي نشهده ليس رداً على عدم وجود إصلاحات سياسية، ولا على
استحواذ الأمراء ومن شايعهم على كل مفاصل الدولة التي تحولت الى
الفئوية منذ زمن بعيد، بل هي لم تخرج منها منذ تأسست. ويقولون
بأن دعاة العنف ليس لديهم برنامج سياسي (وهو صحيح)، وليس لديهم
مطالب سياسية واضحة (وهذا صحيح) وأنهم لا يطلبون إصلاحاً سياسياً
(وهو صحيح).
لكن الصحيح أيضاً، أن مطبّلي الحكومة لا يقدمون لنا سبباً لقيام
العنف إلا توصيف الحال، بأن العنفيين متطرفين ولا يمثلون أحداً
وأنهم شرذمة وكأنهم نزلوا من السماء، ولم يستقوا من ماء الأرض
السعودية، وكأنهم لم يكونوا قد تربوا على المنهج السلفي المتطرف.
اذا كانت كل تلك المسببات غير صحيحة، فما هو السبب إذن في تفاقم
العنف؟
هل هي نزوة شيطان اختارت بعض الأفراد من اتجاه معين دون غيره؟
ما هو صحيح ويجب أن نؤكد عليه، هو أنه مهما كان الجدل بشأن
العوامل آنفة الذكر ومهما كان حدود تأثيرها منفردة، فإن أحداً لا
يشك بوجودها جميعاً، وهذا وحده كاف لخلق مناخ خصب من التعصب
والتطرف. فالعنف وليد مناخ وبيئة، ووجود العوامل آنفة الذكر
مجتمعة أكثر من كافٍ لأن يجعل أبناء المجتمع أقرب الى التفكير
المتطرف والعنفي، وإذا لم تتم معالجة هذه القضايا على نحو سريع،
فإنه لن يفيدنا حل أمني ولا دعم أميركي ولا غيره.
ستنزلق البلاد اكثر وأكثر الى مستنقع العنف، وسنعود حينها الى
ذات العوامل نحللها من جديد وسنجد أننا بحاجة الى بيئة جديدة
مختلفة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
سنجد حينها أننا لو بدأنا بالإصلاح ما حصدنا هذا الحصرم.
ولكن أنّى لعقول تلقي بالترهات على غيرها، وتتهم كل العالم
بتشجيع الإرهاب السعودي في الداخل وتنسى ما صنعته يداها، أن تصلح
ما أفسدته. في حين أن ما عندنا من إرهاب يصدر الى كل أنحاء
الدنيا ولا يعقل أن لا يكون مؤثراً في الداخل!
الصدق مع النفس، والإعتراف بالخطيئة والخطأ، ومعالجة الفساد
والإستبداد اليوم هو الحل. وقد لا يكون هذا الحل متوفراً في
الغد، إذ قد يقع السقف على رأس الجميع، فتنتهي الدولة ونظامها
السياسي الى الأبد.
|