العدد 17
يونيو 2004
الشروط
الموضوعية لتحقق الديمقراطية وتطوّرها
محمد
الهويمل
مشكلة الاجابة عن السؤال المركزي لماذا بعض الدول ديمقراطية
وأخرى غير ذلك، هي مشكلة شغلت لفترة طويلة علماء السياسة. فلماذا
تكون الهند ديمقراطية فيما لا تزال الصين تحكم من قبل حكام
تسلطيين؟ ولماذا أثبتت الديمقراطية بأنها مستقرة في شمال أميركا
بينما لاتزال متذبذبة في اميركا اللاتينية؟ فما هي الشروط التي
تؤدي الى بزوغ وترعرع الديمقراطية؟
تقديم
لقد أثار الفليلسوف الليبرالي جون ميل في القرن التاسع عشر
سؤالاً حول فرص التحوّل الى الديمقراطية في أي بلد. ولكن هذا
السؤال كان يصدر عن نزعة شوفينية، فقد زعم بأن الحكم الديمقراطي
يستدعي مستوى حضارياً متقدماً. وعليه، فقد منح جون ميل الغرب
حقاً مفتوحاً في ادارة بلدان العالم. وقال بأن البلدان غير
الغربية ليست مؤهلة كيما تحكم نفسها بنفسها، وأنها بحاجة الى
سلطة راشدة من خارجها، أي غربية. وقد تبنى هذا الطرح معظم
المفكرين المتنورين في تلك الحقبة. بيد أن هذه الطروحات محقت عقب
تحوّلات تاريخية وفكرية شهدها الغرب، مع تضاءل النزعات الشوفينية
التي كانت مرتبطة بأنظمة سياسية واجتماعية معينة.
إن واحدة من المقاربات العلمية لشروط الديمقراطية التي ظهرت
لاحقاً هي التحديث، كما نظّر لها
Lipset.
إن الجدل المحوري في هذه المقاربة يدور في إطار الفكرة التالية:
أن بحبوحة العيش تنجب ديمقراطية مستقرة. في كتابه المعروف (Political
Man) توصل ليبست الى أنه بقدر ما تحقق
الأمة من أداء حسن، فإن فرص تعزيز الديمقراطية تكون أكبر. وكغيره
من المؤيدين لهذه النظرية، فإن ليبست استعمل معلومات احصائية
لدعم اطروحته. وقد أظهر بأن الديمقراطيات المستقرة سجّلت أعلى
مما فعلت الانظمة التسلطية في قياسات مثل: دخل الفرد، التعليم،
ومعدلات السكان الذين يعيشون في المدن. وهناك أبحاث جديدة أكّدت
بأن العلاقة بين بحبوبة العيش والديمقراطية المستقرة مازالت
قائمة، رغم أن الديمقراطية يمكن تعزيزها في مستويات أقل من الدخل
القومي. صموئيل هنتنجتون، على سبيل المثال، أظهر بأن الدولة غير
الديمقراطية التي كانت في 1970 أكثر ثراء كانت أكثر تأهيلاً لأن
تصبح ديمقراطية عام 1989. فالتحولات الديمقراطية كانت متمركزة في
البلدان ذات الدخل المتوسط في اميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية،
وليس في البلدان الأشد فقراً من جنوب آسيا وأفريقيا. وتلخيصاً
للبحث الذي حفّزته نظرية ليبست، فإ ماركس ودايموند (1992) وصفا
الصلة بين البحبوبة المالية والديمقراطية باعتبارها (واحدة من
أشد العلاقات استقراراً وقوة في دراسة التنمية الوطنية
المقارنة).
ولكن يبقى السؤال: كيف تنجب بحبوبة العيش ديمقراطية؟ وماهي
الآليات الضالعة في عملية الانجاب؟، فهنا يصبح عمل ليبست ضئيل
الفائدة، وأن ما تبديه نتائجه من شيء في هذا الصدد تعجز في حد
ذاتها عن إثبات العلاقة. لقد توصل ليبست الى مجموعة مقترحات هامة
في هذا الصدد، كالقول بأن التنمية الاقتصادية والتعليم تشجع طبقة
وسطى كبيرة على معارضة التطرف. كما يعتقد أيضاً بأن الطبقة
الدنيا التي تعيش فوق الفقر المدقع لن يمكن حينئذ رؤيتها
باعتبارها دون الطبقة العليا. وبصورة عامة، فإن البحبوحة
الاقتصادية كما يبدو تؤدي الى انخفاض عدم المساواة والتمييز،
والصراع الطبقي الفطري، وتوزّع مصادر السلطة بصورة واسعة بحيث لا
يمكن لجماعة واحدة أن تسيطر على الجميع، كما يذهب الى ذلك
(فانهانن). إن هذه جميعها تعتبر شروطاً تفضي الى توافق ديمقراطي
من نوع ما.
إن المقاربة البديلة للشروط التي تحتها تتطور الديمقراطية هي
تاريخية بدرجة أساسية. إن التركيز هنا يتم على كيفية إدارة
المجتمعات لعملية الانتقال من المجتمع الزراعي الى المجتمع
الصناعي، والتداعيات التي يعكسها هذا الانتقال على نوع النظام
السياسي الذي ينشأ عنه. إن أهم عمل ريادي في هذا الصدد هو لـ
Barrington Moore حول الاصول الاجتماعية للديكتاتورية
والديمقراطية والذي صدر عام 1966. فبينما يشدد ليبست على تأثير
ما اذا كان المجتمع محدَّثاً بدرجة كافية، فإن مور يحاول اختبار
الموروث وكيف أن المجتمع يقوم برحلته الكبرى من الطور الزراعي
الى الطور الصناعي. إن منهجية مور تقع في مجال التاريخ المقارن،
وهو يسأل لماذا قاد طريق الحداثة كلا من اليابان وألمانيا الى
الفاشية وروسيا والصين الى الثورة الشيوعية، وانجلترا وفرنسا
والولايات المتحدة الى الديمقراطية الليبرالية. للتذكير فقط فإن
هذه الدول أصبحت الآن (باستثناء الصين) ديمقراطية. وعليه، فمن
منظور معاصر فإن تحليل مور يمكن النظر اليه باعتباره تحليلاً
لكيفية انتاج التحديث للتباينات في العملية التاريخية طرقاً
متقابلة الى الديمقراطية. إن العامل الحاسم هو ما اذا كان بإمكان
الطبقة المتصاعدة من الموظِفين الصناعيين التطوّر والنمو ما لم
تكن مغلقة. وعلى حد قول مور (لا برجوازية (يعني) لا ديمقراطية).
وعليه فإن مور كغيره عديدين يرى بأن الديمقراطية باعتبارها
تعبيراً سياسياً للنمو الرأسمالي، وهو استنتاج يدعم فكرة ليبست
بأن الطبقة الوسطى تساعد في استقرار الديمقراطية. فبريطانيا على
سبيل المثال إقتفت طريق التحديث المتوازن، فلا الارستوقراطية ولا
الدولة قادرتان على مقاومة ضغوط التغيير. وهذا قد حرر الطبقة
المدينية من الصناعيين ليس فقط للنمو اقتصادياً بل وأيضاً للضغط
من أجل المزيد من التحرر، ولكن ليس الى حد التأثيرالبالغ في
النظام السياسي.
في كثير من البلدان، فإن برنامج النمو الرأسمالي قد تم لجمه. إن
ملاّك الاراضي الاقوياء أثبتوا بأنهم المصدر الرئيسي للمقاومة،
وأن الارستوقراطية العقارية المستثمرة للفلاحة التابعة (سواء عن
طريق الاسترقاق أو أجهزة قهرية أخرى) استعملت سلطتها السياسية
لمنع التحوّل التدريجي للمجتمع الصناعي. وفي بعض البلدان، فإن
ملاّك الاراضي توّخوا تحالفاً رجعياً مع دولة قوية، ولذلك فإن
تحديثاً متوازناً قد تم منعه، وبهذا كانت الديمقراطية مستحيلة
فأصبحت الثورة السياسية هي الناتج المحتمل. إن طبيعة هذه الثورة
تختلف على أية حال. فحين كان بالامكان تعبئة وتجنيد الفلاحين كما
حصل في الصين فإن ثورة شيوعية أصبحت ممكنة. وحين كانت الطبقة
الفلاحية ضعيفة، فإن الطبقة الرجعية المهيمنة كانت قادرة في
نهاية المطاف على فرض القهر عبر الفاشية كما في ألمانيا. إن
ثورات كهذه ساهمت دون ريب في تأخير تطوّر الديمقراطية، فلم تستطع
المانيا من تأسيس ديمقراطية ليبرالية بمعناها الغربي الا بعد
هزيمة الفاشية في عام 1945، وبطبيعة الحال، فقد بقيت الصين دولة
تسلطية حتى اليوم.
التحوّلات
الى الديمقراطية
لقد أتاحت موجة الدمقرطة منذ السبعينيات من القرن المنصرم
لعلماء السياسة فرصة غنية لمراقبة بصورة مباشرة عملية بناء
الديمقراطية. وقد قاد ذلك الى الانحياز بعيداً عن المقاربات
التحديثية الواسعة والتاريخية التي تبناها كل من ليبست ومور. إن
الابحاث المتأخرة بدأت تركّز بدرجة أقل على الشروط الكامنة
للديمقراطية وأخذت في التعامل بشكل أكبر مع التكتيكات المباشرة
لعملية التحوّل. إن المشكلة الفكرية هنا هي لفهم كيفية صناعة
الخيارات من قبل السياسيين في حركتهم من الشمولية التسلطية والتي
تؤثر في سرعة التحوّل، والشكل، والناتج من تغيير النظام. إن هذه
المقاربة تضع أهمية أكبر على الوسيلة الانسانية، فالتاريخ ليس
قدراً والديمقراطية يجب أن تصنع على حد دي بالما.
لقد دشّن
Dankwart Rustow
حقلاً جديداً بإسم علم التحوّل (transitlogy)
لدراسة التحولات الديمقراطية. لم يكن سؤال روستو عن العوامل
المشجّعة على الاستقرار الديمقراطي، ولكن كيف يستطيع السياسيون
إظهار الديمقراطية الى حيز الوجود في المقام الأول. وكان جوابه
بصورة واسعة بأن الديمقراطية هي مساومة تتوصل اليها مجموعات
متصارعة والتي تتوصل في نهاية المطاف الى الاعتراف بحتمية تقاسم
السلطة. إن الجماعات التي تعترف بإستحالة احتكار السلطة تقوم
بتسوية حيث تمنح الفرصة من أجل الفوز بمنصب عبر الانتخابات.
وبالرغم من أن مقاربة روستو كانت تختلف كثيراً عن مقاربة ليبست،
فإنهما توصلاً الى استنتاج مماثل: أن الديمقراطية هي حاصل عملية
توافق ومصالحة. فانتقال جنوب افريقيا من حكم البيض كان مثالاً
ساطعاً. إن نجاح الديمقراطية في جنوب افريقيا وأماكن أخرى تندرج
في كونها الخيار الثاني لكل شخص: انها غير مفضلة لأحد وفي الوقت
ذاته مقبولة لدى كل شخص.
إن أهم الاكتشافات التي توصلت اليها نظرية روستو في علم التحوّل
هو الدور المركزي الذي تلعبه النخب السياسية. حتى وإن كانت
الديمقراطية مصنوعة من أجل الناس، فإنها نادراً ما تكون مصنوعة
على أيديهم ومن قبلهم. وهذا يعني أن الديمقراطية مفروضة من أعلى.
وحسب أحدهم فإن الضغط من أسفل نادراً ما كان عاملاً في عملية
الدمقرطة. وفيما أخذ هذا الضغط شكلاً راديكالياً كما في
غواتيمالا والسلفادور، فإنه أدى الى تشديد قبضة الحكم التسلطي،
فيما يبقى مثال نيكاراغوا عام 1979 الذي أدت فيه المقاومة
الشعبية الى النجاح في إسقاط الدولة التسلطية.
هناك من يرى بأن عملية الدمقرطة تمر بثلاث مراحل أساسية: اللبرلة
(liberalization)
حيث تسترخي فيها قبضة الدولة، وتسمح بقدر ما من المنافسة
السياسية، وتخفف من قمعها، ورقابتها على وسائل الاعلام، وتطلق
سراح المعتقلين السياسيين..الخ، المرحلة الثانية: التحوّل
والانتقال (transition)
حيث يتم فيها تفكك النظام القديم، ويحل محلها المؤسسات
الديمقراطية. إن عملية التحوّل الديمقراطي تستكمل حين يتم اقامة
حكومة منتخبة بحرية مع سلطة سيادية. والانتقال يحدث عن طريقين:
الاصلاح (reforms)
حيث تقوم النخب القائمة بأخذ المبادرة في التأسيس لتغيير سلمي،
أما الطريق الثاني الانشقاق والعصيان (rupture)
حيث تأخذ المعارضة المبادرة فيما يتعرض النظام القديم للانهيار
من خارجه وليس من داخله وذلك عن طريق العنف اذا تطلب الأمر. على
أن هناك من يجادل بأن طريق العصيان قد لا يؤدي الى الديمقراطية
كما حدث في رومانيا بعد الاطاحة بنظام تشاوشيسكو عام 1989 والذي
جاء بحكم غير ديمقراطي واستمر حتى وقت متأخر. والمرحلة الثالثة:
الاستتباب (consolidation).
فالديمقراطية تتعزز حين توفّر اطاراً مقبولاً للمنافسة السياسية.
وبحسب برزورسكي فإن الديمقراطية تتعزز حين يصبح نظام خاص
بالمؤسسات تحت شروط سياسية واقتصادية معينة هو اللعبة الوحيدة في
المدينة وحين لا يكون بمقدور أحد على تصور القيام بعمل خارج
المؤسسات الديمقراطية. ومن أجل تحقيق ذلك، أي استتباب
الديمقراطية، فإن الأخيرة يجب أن تمنح أفقاً حقيقياً للفوز
بالانتخابات بالنسبة للمعارضة. وهذا يعطي خصوم الحكام القائمين
حافزاً على قبول النظام السياسي بصورة عامة. فقد انتقلت كوريا
الجنوبية بصورة سلمية الى الديمقراطية عن طريق لانتخابات
الرئاسية عام 1997 والتي جذبت اليها القوى المعارضة والحكومة على
السواء. يقول علماء السياسة بأن إستتباب الديمقراطية لا يتطلب من
النخبة السياسية اظهار اجماعها حول المبادىء الديمقراطية.
من
يحكم؟ وما مدى المشاركة والديمقراطية؟
البعد المباشر والأول لتعريف ورؤية مدى المشاركة والديمقراطية
في أي بلد يرد الى عدد او بصورة أدق الى نسبة الاشخاص في الحكم،
اي المنخرطين في العملية السياسية. فإذا قيل بأن كافة الاشخاص في
الحكم هم منخرطون في العملية السياسية فإن النظام يكون حينئذ
ديمقراطياً. ولكن حقيقة الأمر ليس هناك نموذج كذلك. ويرى روسو
في (العقد الاجتماعي) بأن الديمقراطية الكاملة مستحيلة. وفي
الطرف الآخر هناك نموذج الانظمة السياسية التي تدار من قبل شخص
واحد، وهذا النموذج أيضاً مستحيل. ولذلك فإن ما يمكن رؤيته هو
مواقع بينية تحمل خصائص الديمقراطية والشمولية الفردية.
ولذلك، فإن محتوى مفهوم الديمقراطية او الملكية يجب أن يكونا
مسترخيين في إتجاهين: أولهما يتعلق بالعدد او النسبة: فالنظام
يمكن أن يكون ديمقراطياً اذا كانت نسبة كبيرة من السكان تشارك في
عملية القرار. وثانياً، وحيث ان هناك صعوبة لتعريف السلطة التي
تخضع تحت تأثير المعارضة (حسب دال 1963) فإن من الضروري الأخذ
بنظر الاعتبار حتى دور اولئك الفاعلين في عملية صناعة القرار وإن
كان محدوداً او إنتقالياً حيث ينظر شخص ما الى الديمقراطيات
الحقيقية في العالم.
وهذا ينقلنا الى السؤال الجدلي: هل السياسة نشاط إجرائي؟
السياسة تعتبر بحسب البعض نشاطاً اجرائياً مرتبطا بعملية صناعة
القرار، وليس بجوهر ومحتوى القرارات. وفيما يقدر أي نظام سياسي
على تثبيت سياسة ما، ولذلك فإن من المنطقي، كما يبدو، استثناء
محتوى السياسات في محاولة الى تصنيف الانظمة السياسية بحسب
معاييرها.
إن هذا الرأي خاطىء. فالتوصيف المقارن للانظمة السياسية يجب أن
يأخذ في الحساب السياسة التي يجب على هذه الانظمة تطبيقها. فعلى
سبيل المثال، فإن نظامين سياسيين قد يكونا تسلطيين، ولكن قد
يختلفا بناء على الاعمال التي يقومان بها فيما يتصل بـ: العقار،
التركيبة الاجتماعية، التعليم. ولذلك فهناك أنظمة تسلطية محافظة
وأنظمة تسلطية تقدمية. وهذه التمايزات في واقع الامر يتم التعامل
بها في اللغة العادية: إن الحكومة وهكذا الهيئات الأخرى داخل
النظام السياسي مثل الاحزاب والجيش تميّز بخاصية الحد الذي يمكن
اعتبار الحكومة محافظة أو تقدمية وهكذا ليبرالية او ديمقراطية.
عن
المساواة
متى يمكن القول بأن هذا النظام السياسي سواسي أو خلافه؟
في الطرف الأول يمكن وصف نظام سياسي بأنه (يوتوبيا شيوعية) أي
مساواة كاملة. وفي الطرف الأخرى مجتمع بطركي بالكامل، حيث يحظى
شخص او فئة محدودة بالغالبية العظمى من المنافع. إن الارضية التي
يقوم عليها عدم المساواة تختلف من حيث الخصائص التالية: الارث،
العرق، العقيدة، الوظيفة او الطبقة. وفي حقيقة الأمر فقد ينشأ
عدم المساواة عن حاصل جمع بين هذه الخصائص. وسيكون هناك ايضاً
درجات مختلفة من المساواة والتمييز. إن التأثير الكلي في كل
الاحوال هو الاشارة الى أن كافة المجتمعات يمكن موقعتها عند نقطة
ما في البعد الثالث من الاهداف، وهو البعد الذي ينشق ظاهراً عن
أبعاد الليبرالية في مواجهة التسلطية والديمقراطية في مواجهة
الملكية.
إن تقييم المساواة وعدمها يتم بواسطة معرفة الدخل لدى الفرد أو
توزيع رأس المال عبر السكان، بالرغم من أن هناك مؤشرات أخرى
بحاجة الى الاستعمال مثل الحد الذي تمتلك به الاقليات فرصاً
مساوية للوصول الى المناصب المختلفة.
فإذا كانت درجات اللبرلة تقيّم من الناحية التقليدية بالحد الذي
تحققت فيه مختلف الحريات في النظام السياسي، بالرغم من أن كثيراً
من هذه المؤشرات قد تكون ذات طبيعة كيفية أكثر منها كمية. إن
مستوى الديمقراطية يمكن بالطبع قياسه جزئياً بالرجوع الى الفرصة
الممنوحة للمواطنين في المشاركة في العملية الانتخابية، ولكن
هناك مؤشرات اخرى تحتاج الى الأخذ في الحسبان مثل مستوى المشاركة
في الاحزاب السياسية والجماعات الضالعة في صناعة القرار الوطني.
ـ اذا تم تغيير نظام ما أو جرى استبداله بآخر لديه أهداف مختلفة
(ليبرالية أو ديمقراطية أو سواسي الى حد ما) فإن موقع النظام في
الفضاء البعدي الثلاثي للمعايير يتغير هو الآخر.
ـ إن الترتيبات الهيكلية في الانظمة السياسية غير السواسية
التقليدية هي في تعارض حاد مع تلك الموجودة في الانظمة
الليبرالية الديمقراطية والتسلطية العادلة، حيث أنها ليست بأي
حال نتاج قرارات تشاورية، دع عنك كونها نتاج فرض على هيكلية
قائمة سلفاً.
إن الانظمة السياسية التقليدية لديها ترتيب مؤسسات التي، من بين
كافة الانظمة السياسية، تتوافق الى حد كبير مع التركيبة
الاجتماعية. في واقع الأمر، إن هذه هي الانظمة السياسية التي
تتداخل بين السياسة والمجتمع بصورة شبه كاملة لأن العناصر
الوحيدة التي تحسب هي الجماعات التقليدية والمواقف المراتبية
التي تبقى بين وداخل هذه المجموعات. وعليه فليس هناك مضمار سياسي
بالمعنى، سواء تم تعريفه بصورة صحيحة او مختلة. وبصورة محددة،
فليس هناك أحزاب سياسية وفي الغالب ليس هناك برلمان. إن
البيروقراطية نفسها محدودة نسبياً، أو على الأقل تقليدية غالباً
من بين هذه الدول. وما يميّز هذه الانظمة هو منظومة الولاءات
للخاصية الفردية او الجماعية، والتي تبدأ في مستوى الوحدات
الصغيرة (اي القرى أو بين الجماعات والطوائف على سبيل المثال)
وتنتقل الى القبيلة والرؤوساء.
إن هذا الوضع يفضي الى نتيجتين: الاولى، حين يعمل النظام بطريقة
جيدة، فإن المجموعات تكون قوية جداً ومن الصعب زعزعتها، وإن
مجالها الى حد كبير يتحدد جغرافياَ وأنها من المحتمل تقاوم اية
تجاوزات. وفيما تقوم الحكومات الديمقراطية الليبرالية على
التنافس الدائم بين الجماعات، وهي ذات نشاطات محددة وأنظمة
تمييزية (غير عادلة) تقليدية قائمة على مبدأ بأن ليس هناك سوى
تجمع واحد داخل منطقة محددة، ولتكن على سبيل المثال قبيلة واحدة
فحسب.
النتيجة الثانية: على المستوى الوطني، فإن مختلف التجمعات قد
تعترف أو تنكر بصورة كاملة قوامية وسيادية الملك ومن هم على قمة
الهرم السياسي. وللانصاف فإن الانظمة التمييزية (غير العادلة)
التقليدية ستبقى لفترات طويلة وهامة حال تحقق قدر من التعايش
والتكييف بين الجماعات الاقليمية التي تشكل الوطن، وفي غير ذلك
فإن الحكومة ستنهار وتتفكك. ولهذا السبب فإن البلدان الاستعمارية
السابقة نادرة ما كانت تمنح أهمية للانظمة السياسية التمييزية
(غير العادلة) التقليدية: إن المعارضات بين الجماعات الاقليمية
هي من الناحية التقليدية كذلك، مباشرة بعد الاستقلال، وإن نظاماً
مختلفاً يجب أن يتم ادخاله.
لقد بات من الصعب الاحتفاظ بموازنة مستقرة بين الملك والجماعات
الاثنية والقبلية، جزئياً لأن كل مجتمع خاضع للتأثيرات الخارجية
والتي تقوّض الجماعات التقليدية، وجزئياً بسبب الحراك الجغرافي
والاجتماعي للسكان. إن الانظمة السياسية التمييزية التقليدية
تبدأ في التغيير: مؤسسات مثل المؤسستين البيروقراطية والعسكرية
تصبح أقوى، مجموعات جديدة ذات أغراض محددة مثل مؤسسات تجارية
وحتى الاتحادات التجارية تبدأ في لعب دور ما. وطالما أن هذه
التطورات تحدث بمعدل صغير، فإن النظام السياسي يبقى يوصف بكونه
تقليدياً. وعلى أية حال، فحين تبدأ سيادة وتفوق التجمعات القبلية
تتعرض لتحد خطير، فإن النظام السياسي يصبح اجمالاً شعبوياً أو
تمييزياً تسلطياً.
إن الترتيبات الهيكلية للنظم السياسية الشعبوية هي هجينة. وتتميز
غالباً بمعارضة معقدة بين الجماعات التقليدية المنخفضة والجماعات
الجديدة، منثل المنظمات التجارية والنقابية، والتي تتطلب تهيئة
توافقات غير سهلة فيما بينها. وهذا يعني أن الانظمة الشعبوية ليس
فيها تداخل بين المجتمع والحياة السياسية التي تحدث في الانظمة
التمييزية (غير السواسية) التقليدية. إن الهياكل السياسية،
وبخاصة الاحزاب، هي عادة مصممة مع الغرض الواعي لتهيئة التغيير
في المجتمع، ولكن هذه الاحزاب هي من الناحية الطبيعية لمواجهة
الصعوبات التي يفرضها التعارض بين النزعات المحافظة للجماعات
التقليدية والضغط باتجاه التحديث والتي تأمل بعض الجماعات
الجديدة، وحتى في بعض الحالات الجهاز البيروقراطي وحتى الجيش
تطويرها. ولهذا السبب فإن الاحزاب غالباً ما تكون منقسمة بين تلك
التي تمثل بصورة رئيسية الجماعات التقليدية وتلك التي تزعم ـ على
الاقل ـ بأنها تشجع وتدعم مطالب الجماعات الجديدة (بالرغم من أن
كثيراً من الاحزاب في هذه البلدان مميزة بهاتين الخاصيتين).
الديمقراطية
والتنمية الاقتصادية والاجتماعية
بالنسبة لكثير من الناس، فإن التنمية يجب أن تأخذ أولوية على
الديمقراطية. ويضرب مثل لذلك، أن أماً لطفل جائع قد تقدّر صوتها
الانتخابي حق قدره ولكنها يجب أن تقيم وزناً أكبر للطعام. وعليه
ومن أجل تقدير قيمة الديمقراطية يجب تقييم ما اذا كانت
الديمقراطية ستساهم في أو تبطىء التنمية الاقتصادية. وهل بإمكان
الديمقراطية والتنمية أن تسيرا جنباً الى جنب أو لابد من تقرير
خيار صعب بينهما؟
النمو الاقتصادي ينظر اليه بوصفه مفهوماً كمياً ونوعياً معاً،
فهو لا يكتفي عند حد قياس حصة الفرد في اجمالي الناتج القومي، بل
وأيضاً بما يعكسه من رفاه على مستوى الشعب وفق اعتبارات توزيع
الدخل ومجالات انفاق الدولة. في الدول الديمقراطية يميل الناخبون
للمطالبة بتعزيز الانفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم
والبنية التحتية أكثر من تعزيزه على الشؤون العسكرية والامنية أو
المشاريع ذات المردود الاجتماعي الهزيل. ونشير هنا الى أن النظام
المسؤول والمنفتح يستخدم الموارد المالية بفعالية أكبر مما يفعله
نظام مغلق واستبدادي.
ومن الواضح، فإن بعض الانظمة التسلطية قد أفلحت في تحقيق نمو
سريع. في القرن العشرين كانت الامثلة الرئيسية هي الحكومات
الشيوعية في النصف الأول والنمور الاسيوية في النصف الثاني.
وبحسب
Sorensen
فإن التنمية الاقتصادية تتطلب استثماراً وأن الانظمة غير
الديمقراطية هي المتمكنة في مقاومة الضغوطات الشعبية للاستهلاك
الفوري والمباشر. إن الحكام التسلطيين أقدر على خلق فائض اقتصادي
لاستثمار طويل الأجل لكونها محميّة او محصّنة إزاء التموّجات
السياسية الاحتجاجية التي يولّدها التغيير الاقتصادي السريع.
يمكن ببساطة وضع ذلك، إن بإمكان هؤلاء الحكام التسلطيين تجاهل
الخاسرين. إن الحكومات غير الديمقراطية قادرة على التدخل الهائل
الذي يتطلبه التصنيع السريع. يقول سورنسن بأنه في القرن العشرين
لم تسجّل حالة واحدة ناجحة في مجال التنمية الاقتصادية بدون عمل
سياسي شامل يتطلب تدخلاً واسعاً من قبل الدولة في الاقتصاد.
ويضرب مثالا على ذلك الهند والصين، فبينما حققت الاخيرة نمواً
سريعاً لم تنجز الهند الديمقراطية سوى قدراً ضئيلاً للغاية في
مجال التنمية الاقتصادية. فكلا الدولتين متشابهتان من حيث
الكثافة السكانية والمساحة الجغرافية اضافة الى كونهما بلدين
زراعيين وقد حققا وضعهما السياسي الحالي بعد الحرب العالمية
الثانية. وعلى أية حال، فخلال أربعين سنة، فإن الاقتصاد الصيني
نما بوتيرة تفوق ضعفي وتيرة النمو الاقتصادي في الهند. فمعدل
الوفيات في الهند تفوق نظيرها في الصين.
بطبيعة الحال، إن الانظمة التسلطية اليوم لا تتبنى النمو الشيوعي
للتصنيع القهري القائم على اساس خطة مركزية. بالرغم من أن الصين
نجحت في ان تتحول الى دولة موجّهة نحو السوق، ومازالت مستمرة في
الجمع بين الحكم التسلطي والنمو الاقتصادي. في المقابل، بقي
الاداء الاقتصادي الهابط في الهند يثير طيفاً من الاسئلة حول
كفاءة وقيمة الديمقراطية في تطوير المجتمعات.
وهناك عدد من البلدان غير الشيوعية في آسيا قد تطوّرت اقتصادياً
ولكن في ظل اعدادات سياسية متخلفة او تشتمل على خصائص الحكم
التسلطي وهي بذلك تقدّم أمثلة مضادة على العلاقة العضوية بين
الديمقراطية والتنمية. ففي الفترة ما بين 1960 ـ 1985 كانت
أندونيسيا، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج
وتايوان الأسرع نمواً في العالم. وتتفاوت حكومات هذه الدول في
الحد الذي تعتمد فيه على الآليات التسلطية مثل قمع المعارضة،
الاحكام العرفية، التشريع المناوىء للاتحادات واساءة النظام
القضائي. فعلى سبيل المثال، تعتبر اليابان ديمقراطية تضامنية،
فيما مالت كوريا الجنوبية بقوة ناحية الديمقراطية، وحافظت
أندونيسيا على عناصر تسلطية قوية. يبقى، أن نمور شرق آسيا تتقاسم
خصائص عديدة لما وصفه جالمرز جونسون (1987) الدولة التنموية. إن
من اهم ميزات هذه الدولة هو حكم مستقر من قبل نخبة بيروقراطية
وسياسية تقسر (كما يذهب ايضاً لذلك سورينسن) الضغوطات الشعبية
على الاستهلاك. فالتعاون بين القطاعين العام والخاص، بالخضوع تحت
تأثير مؤسسة تخطيط قوية، يتجاوز المعيار المرتبط بالديموقراطيات
الليبرالية. إن فكرة الدولة التنموية تقوم على فرضية أن النمو
السريع يتحقق بصورة أحسن من خلال تحديد التعبير الديمقراطي.
ولكن وبالرغم من ذلك كله فإن ثمة حقيقة أخرى يجب حملها على بالغ
الجدية وهي أنه حين يصل بلد ما الى مستوى محدد من التنمية
الاقتصادية، فإن استمرار الحكم التسلطي قد يؤدي الى انخفاض سرعة
النمو. إن تجربة الاتحاد السوفييتي، على سبيل المثال، تكشف بأن
الاقتصاد المخطط بصورة كاملة يفتقر الى المرونة، الابداع،
والتركيز على المساواة الضرورية من أجل تفادي الركود. فقد انتهت
الاقتصاديات الرئيسية للمعسكر الشيوعي الى طريق مسدود. وحتى
الدول التنموية في آسيا ستكون بحاجة للاعتماد المتزايد على السوق
في حال أرادت الاحتفاظ بموقع تنافسي دولي، والذي قد يتم تجاهل
حقيقة كونه مؤسس في المقام الأول على مساعدة أميركية هائلة. وفي
حقيقة الأمر، إن التخفيض القسري لقيمة عدة عملات آسيوية في عام
1997 كشف الاستعمال السيء للقروض المالية الخارجية من قبل البنوك
المحلية، بعد أن سلبت البريق من الاداء الاقتصادي في البلدان
الصناعية الجديدة (إن آي سي) وكشفت حدود الدولة التنموية في
الانفتاح.
ولذلك، فإن القرن العشرين كشف بأن الحكم التسلطي أقدر على قيادة
برنامج التصنيع السريع، ولكن على أية حال فإن هذا الحكم يقدّم
عدة أمثلة على أنظمة ديكتاتورية فاسدة أحدثت دماراً هائلاً في
اقتصاد وشعوب بلدانها. ولهذا السبب فإن الدليل الاحصائي على
العلاقة بين الديمقراطية والتنمية ليس قطعياً. إن كافة الدراسات
الكميّة تقترح بأن نوع النظام ليس له تأثير ثابت ومستمر على
الاداء الاقتصادي. إن المشكلة فيما يتصل بهذا النوع من البحث هو
أن مفهوم الحكم التسلطي واسع جداً بحيث لا يمكن التقاط الانماط
الخاصة بالحكم غير الديمقراطي الذي يخلق النمو. وعلى أية حال،
فإن قدرة النظام التسلطي على استخراج الفائض من اجل الاستثمار لا
يتطلب ولا يبرر إساءة استعمال السلطة او انتهاك حقوق الانسان،
وهي تمثل الخطر المتأصل في الحكم غير الديمقراطي.
وفيما نجح بعض الحكام التسلطيين في القرن العشرين في تدشين تنمية
اقتصادية، ففي القرن الحادي والعشرين قد تعبّد الديمقراطية
الليبرالية طريقاً ناجحاً بصورة أكبر. فالعولمة قد منحت الدول
النامية سبيلاً الى الى مصادر جديدة لرأسمال عبر مؤسسات متعددة
القوميات، وبنوك ووكالات ماوراء البحار مثل البنك الدولي. إن
الفائض المطلوب للاستثمار قد لا يتطلب أن يكون منتزعاً أو
مغصوباً من مجتمع متردد. ولكن المستثمرين الاجانب، بالخصوص،
مشككون في السيطرات البيروقراطية الممتدة والتي تميز الدول
التنموية، وقد كان ذلك العامل الرئيسي في الازمة المالية التي
أبتلي بها كثير من الدول الاسيوية في عام 1997. وفي عالم متداخل
ومتشابك المصالح بات من الصعب بالنسبة للحكام التسلطيين الهروب
بنموذج التنمية القسرية والتي تمثل تعديّاً على المجتمع الدولي.
إن إرساء أساس تقريبي على الاقل من الديمقراطية الليبرالية سيسهل
الدخول الكامل بالنسبة لأي بلد الى النظام التجاري العالمي، وهذا
يمثل الآن الشرط الأولي للنمو الحقيقي والجوهري.
وفيما تصبح البلدان أكثر اندماجاً في المجتمع العالمي، فإن فكرة
ديمقراطية الحكم الذاتي المستقل قد إنكفأت وأصبحت جزءا من
التاريخ. فما هو الأمل من بقاء النموذج الاثني (من أثينا)
للمواطنين المتجمعين مع بعضهم لتقرير مصيرهم؟ وبالنظر الى أن
القرارات الاقتصادية الحاسمة باتت تتخذ خارج حدود الدول القومية،
فماذا يعني حينئذ أن يجتمع الناس مع بعضهم أساساً؟. لقد فعلت قوى
العولمة كل ذلك، وستفعل أيضاً في فرض الديمقراطية.
إن التهديد الذي تفرضه العولمة قد تم التشديد عليه مراراً وبصورة
كافية. وبحسب
Guehenno
فإن مطالب الاقتصاد العولمي قد حوّل السياسة الى إدارة. ويقول إن
الحكومات لم تعد تصنع خيارات، إنها ببساطة تقوم بإدارة مشاركة
بلدانها مع الاسواق العالمية. وقد أعاد تأكيد العبارة الشهيرة
لمارجريت ثاتشر (ليس هناك بديل)، ويذهب جوهينو الى أن مجال
الحتمية يرمز الى موت المجتمع السياسي كهيئة للمواطنين الناشطين،
وبالتالي نهاية الديمقراطية نفسها. وفي نفس السياق، فإن المنظّر
السياسي الاميركي مايكل ساندل كتب: إن الحكومة المستقلة تتطلب
مجتمعات سياسية تسيطر على مقدّراتها، ومواطنين يتطابقون بصورة
كافية مع هذه المجتمعات للتفكير والعمل بالنظر من أجل الصالح
العام. وسواء كانت الحكومة المستقلة بهذا المعنى ممكنة تحت
الشروط الحديثة في أحسن الأحوال هو سؤال مفتوح.
وعلى أية حال، فإن الغاء الديمقراطية بهذه الطريقة يعتبر
بالتأكيد خطئاً. إن العالم متشابك المصالح والمتداخل ليس هو
بالضرورة عالم غير ديمقراطي. إن الخطأ يكمن في المساواة بين
الديمقراطية وتقرير المصير الكامل. فإذا كانت الديمقراطية لا
تبقى الا في مجتمعات ذات سيادة كاملة، فإننا سنضطر للقول بأن هذه
الديمقراطية لم تكن موجودة على الاطلاق في أي مكان في العالم،
وهذا في حقيقة الأمر استنتاج غير معقول. ولربما فإن المراكز
الامبريالية والقوى العظمى وحدها هي التي اقتربت كثيراً من
المعنى المثالي لـ (الاستقلال التام)، ولربما لوقت محدود فقط. إن
كافة الدول كانت دائماً تخضع بقوة تحت تأثير الخارج، وأكثر من
ذلك، فإن من الخطأ الواضح الاستنتاج بأن بلداً صغيراً مثل سويسرا
(ويبلغ عدد سكانها سبعة ملايين) هي أقل ديمقراطية من بلد كبير
كالولايات المتحدة (التي يبلغ عدد سكانها 258 مليون نسمة) ببساطة
لأن البلدان الصغيرة تخضع لتأثيرات خارجية أكبر. في واقع الأمر،
فإن الديمقراطيات الصغيرة مثل سويسرا غالباً ما تعزز إحساساً
قوياً بالمواطنة فيما يظل الجدل قائماً حول ضعف إمكانية ذلك في
بلدان كبيرة مجاورة. إن ادارة الشؤون العامة، سواء في
الديمقراطيات أو سواها، تتطلب دائماً توافقاًَ بين السكان
المحليين والضغوطات الدولية. إن ما يميّز الديمقراطيات هو أن هذا
التوافق يتم عبر الاقناع والقبول، وعليه فإذا فشل الحكام في
جهودهم، فإنهم يسقطون.
الديمقراطية
والاصلاح البنيوي
يجب الاشارة ابتداءً الى أن هذا العامل يقع في مجال التأثير
الخارجي على داخل الدول المراد دمقرطتها من خلال استعمال عامل
المساعدات الاقتصادية كعنصر ضغط ونفوذ من أجل إجبار الدول التي
تتلقى مساعدات من قبل الدول الكبرى أو المؤسسات النقدية
والاقتصادية الدولية. ثمة نقد مشروع يواجه الدول المتطوّرة
والمصنّفة على الانظمة الديمقراطية كونها تتبع أسلوب متناقض في
دعم الديمقراطية. فمن جهة تقتفي هذه الدول تدابير صارمة في
متابعة سير البرامج الاقتصادية من اجل الاصلاح البنيوي بينما
تطالب من جهة أخرى بإسترداد الدين الأمر الذي قد يلعب دوراً
تقويضياً في إضعاف بنى الديمقراطية، بل أن الشروط المتشددة التي
تفرضها الدول الدائنة لاسترداد فوائد الديون الخارجية تسهم
سلبياً في طمس الحوافز الكامنة لنمو الجنين الديمقراطي، لنفس
السبب المذكور في النقطة السالفة وهي أن الفوائد الجشعة التي
تجنيها الدول الدائنة والمؤسسات الاقتصادية الكبرى تفضي الى
التخفيض التمييزي للإنفاق العام، أي تهدد تلك البرامج التي
تستهدف تحسين الظروف المعيشية لدى الطبقات الفقيرة والتي هي تمثل
قضية ذات أهمية متفوّقة على تعزيز الدعم الشعبي للديمقراطية أو
غرس ثقة الحكومة في الشعب كون الأولى كفوءة في السيطرة والادارة
على مقدراتها الاقتصادية.
علاقة
الديمقراطية بحياة الناس
اذا كان ثمة هدف جوهري للديمقراطية فهو تحسين أداء الدولة فيما
يرتبط بأوضاع الناس اليومية. ولكن ماذا لو لم تحقق الديمقراطية
هذا الهدف، أي لا تؤدي الى تحسين ظروف الناس وأوضاعهم التي
يعيشون في ظلها؟ أو حين لا تحدث الديمقراطية فرقاً واضحاً
وإيجابياً في أوضاع الافراد؟ فحينئذ يصبح الدفاع عن الديمقراطية
غير جدير. خصوصاً حين تكون الديمقراطية فاقدة لأي تأثير على
الاوضاع المحلية، وتحديداً في تعزيز الرقابة الشعبية، والمساواة
السياسية من الناحية الديمقراطية.
قد يكون تفسير المشكلة في الدول الديمقراطية مختلفاً بالقياس الى
الدول التي تفتقد في الأصل الى مؤسسات تمثيلية وتجارب حكم ذات
طابع جمعي، أي تلك الدول التي تنتقل بحكمها من نظام شمولي الى
ديمقراطي، حيث تكون التجربة الناشئة هي المحك الرئيسي في اختبار
مصداقية التطبيق. إن الاشكالية المتكررة في الدول الشرق أوسطية
ذات الطبيعة الاستبدادية تتصل بمجال التطبيق، حيث تفرض الحكومات
سلطانها المباشر في توجيه سير العملية الديمقراطية بطريقة تخدم
أغراضها وتؤدي في الغالب الى إضعاف المضامين الديمقراطية، حيث
تمارس المؤسسات التقليدية القديمة دوراً تعويقياً للتحوّلات
الداخلية للدولة باتجاه الديمقراطية كونها تؤدي الى إضعاف تلك
المؤسسات وسحب قدر من المكاسب والسلطات التي بيدها.
شروط
استقرار واستمرار الديمقراطية
ليست هناك ضمانات ثابتة للمحافظة على الديمقراطية ما لم تترافق
مع تحوّلات اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة. فقد تطلب استقرار
الديموقراطيات الغربية المرور عبر سلسلة من التحديات والمواجهات
الدامية مع الطبقات الارستوقراطية والفاشية. وقد ثبت بأن
الديمقراطية قد تفشل حين تنشأ في بلدان لم تكن مؤهلة لها بصورة
تامة، أو لم تتوفر شروطها الموضوعية، بل قد تفعل الديمقراطية
فعلاً تمزيقياً للأنسجة الاجتماعية، وتعمل على تعميق الانقسامات
الداخلية، ولربما كان الاقتصاد ضعيفاً بحيث تفشل الديمقراطية في
صناعة مناخ إيجابي يلبي التوقعات الشعبية، أو قد يكون للمؤسسة
العسكرية سلطة نافذة وإختراقية بحيث تجعل من الممارسة
الديمقراطية ذات تأثير ضئيل أو غير مقنع كما في مثالي باكستان
وتركيا.
في المقابل، لا يجب أن توحي تلك الاوضاع السلبية بأن دور الشعب
في تعزيز التجربة الديمقراطية هامشي، بل مازال للشعب الكلمة
الفاصلة في تقرير مسار الديمقراطية ومصيرها لئن استطاع ابتكار
ضمانات نجاح التجربة واستمرارها. فهو قادر على انشاء مؤسسات
ديمقراطية تصمد في مواجهة محاولات اختطاف المنجز الديمقراطي.
ولعل واحدة من أهم الضمانات هي مؤسسات المجتمع المدني، وهي
المؤسسات التي تعلو فوق العائلة وتدنو عن الدولة، أي تلك
المؤسسات التي تعمل في مجال خارج الروابط العائلية التقليدية
ولكنها لا تصل في سعة مجالها الى المجال الدولتي، فهي جمعيات
مستقلة تنظيمياً عن الدولة، وهي في الأصل نشأت للحد من هيمنتها
ولتقييد سلطتها من التمدد بإنفلات تام، ومن جهة ثانية يعمل
المجتمع المدني على استيعاب الفائض الاجتماعي داخل مؤسسات مستقلة
عن الدولة يمكن لها أن توفّر إطارات جماعية تساعد على حل مشكلات
قد لا تقدر الدولة عليها، كما أن مؤسسات المجتمع المدني قابلة
للتحول الى قنوات ضغط وتعبير جماعي أمام الدولة الى جانب كون هذه
المؤسسات توفّّر إطارات حماية أيضاً من غلواء الدولة.
يجب التنبيه دائماً على أن الممارسة الديمقراطية داخل مؤسسات
المجتمع المدني مطلب مركزي من أجل صناعة مناخ ديمقراطي عام، إذ
لا يمكن ان تحقق الديمقراطية ذاتها على مستوى الدولة فيما تغيب
او تضعف في مؤسسات المجتمع المدني، أو حين تدار الاخيرة بطريقة
غير ديمقراطية، لأن القبول بوسائل استبدادية في إدارة مؤسسات
المجتمع المدني وانتقال ذلك عن الاسرة والمدرسة ودور العبادة
والشركة يفضي الى التعايش مع وقبول السلطة الاستبدادية.
هل ثمة علاقة بين الديمقراطية وحقوق الانسان؟
نعم بكل تأكيد، وقد ثبّت الاعلان العالمي لحقوق الانسان هذا
الربط الحميمي بينهما. وبحسب المادة 25 من الاتفاقية الدولية حوق
الحقوق المدنية والسياسية فإن الدول الموقّعة على الاتفاقية
ملزمة بأن تضمن لمواطنيها الحق وتهيئ لهم فرصة المشاركة في إدارة
الشؤون العامة مباشرة او غير مباشرة من خلال ممثلين منتخبين
والتصويت والترشيح لانتخابات دورية حقيقية، وحرية الوصول بالمعنى
الشامل للمساواة الى المناصب الرسمية.
إن تفسير العلاقة بين حقوق الانسان والديمقراطية يتم بهذا النحو:
أن مزاولة الانسان لحقوقه الأساسية وحرياته تعتبر جزءاً صميمياً
من الممارسة الديمقراطية، إذ أن جوهر الفكرة الديمقراطية يكمن في
تمكين الفرد من تقرير مصيره والتعبير عن رأيه وممارسة حقه
الطبيعي. وهناك من يزعم بأن حقوق الانسان قد تكون مكفولة أو يمكن
الدفاع عنها في ظل أنظمة ديكتاتورية مع إعطاء أولوية للتطور
الاقتصادي. ويرد على ذلك بأن ثمة تجارب عديدة ثبت فيها فشل
الانظمة الديكتاتورية في الحفاظ على أوضاع اقتصادية مستقرة، بما
يجعل حقوق الانسان عرضة للانتهاك السافر.
إذن إن العلاقة بين الحقوق المدنية والسياسية وبين الديمقراطية
هي متداخله وضرورية، فهذه الحقوق تؤمّن غايتين كبريين: الاولى
الرقابة الشعبية والمساواة السياسية في صناعة القرارات ذات
التأثير الجماعي، وثانياًَ تصبح هذه الحقوق بمثابة إطار ضابط
للنشاطات الجماعية من خلال رسم الحدود التي يجب أن تحكم الحريات
الفردية والتي تقع خارج نطاق قرار الاكثرية. وأمثلة ذلك الحرية
الفردية حيث لا يمكن للافراد الانضواء في نشاطات سياسية ما لم
يتمتعوا بحماية من الاعتقال او النفي او الابعاد، تماماً كما هو
الحق المكفول لاعضاء السلطة التشريعية من الاعتقال خلال تأدية
واجباتهم البرلمانية، ولكن هذا الحق يجب أن يستغرق كافة الافراد
بحيث يشعر الفرد بأن حريته وسلامته البدنية مصانتان وإن تعارضت
حريته مع رغبة الاكثرية.
ولعل النقطة لمحورية في هذا الصدد هي وقوع بعض الافراد تحت عسف
وحيف السلطة السياسية باعتبار هؤلاء مصنّفين في خانة الخصوم
السياسيين، وهذا ما يجعل سوء معاملتهم، وتعذيبهم، وانتهاك حقوقهم
الاساسية، وانحياز المحاكم ضدهم أموراً مألوفة في دول غير
ديمقراطية لا تتمتع فيها السلطة القضائية بإستقلالية تامة او قدر
كبير منها.
ثمة مفردة حقوقية ثالثة ذات أهمية بالغة من حيث التعالق الحميم
بين حقوق الانسان والديمقراطية وهي مفردة الحرية الفكرية. فإذا
كانت الديمقراطية ترتكز على مبدئين: السلطة الشعبية والمساواة في
الحقوق والواجبات، فإن المساواة تعبّر عن نفسها ديمقراطياً حين
يتكافىء الافراد في فرص التعبير عن أفكارهم ومتبنياتهم العقدية
الخاصة. ولذلك، فليس مستغرباً قراءة الديمقراطية من خلال تجسيدها
السياسي في الدورات الانتخابية والتعددية الحزبية وأن لكل مواطن
صوتاً مساوياً في الشؤون السياسية العامة، وتجسيدها الفكري من
خلال قدرة الأفراد على التعبير بحرية تامة عن آرائهم، وباعتبار
أن حماية الحرية الفكرية حق فردي مصون إزاء سيطرة معتقد ما وليكن
معتقد الاكثرية.
يجب التشديد مكرراً وبصورة دائمة على تأثير العامل الاقتصادي في
استقرار او اضطراب المسار الديمقراطي في أي بلد. للتمثيل على
أهمية هذا العامل يمكن القول بأن درجات التفاوت في فرص العيش
تؤثر سلبياً في التحوّل الديمقراطي وفي نجاح التجربة الديمقراطية
في أي مجتمع. فالديمقراطية في مجتمع يتفشى فيه الفقر على نطاق
واسع تكون قاصرة، إذ أن أفراد المجتمع لا يتمتعون بفرص متكافئة
في ممارسة أدوار فاعلة في العملية الديمقراطية، بسبب التفاوت
الجسيم في الفرص المعيشية. إن التفاوت الاقتصادي على المستوى
الاجتماعي سينعكس بصورة تلقائية على المستوى الاجتماعي، فإذا كان
هناك تفاوت اجتماعي بفعل عدم تكافوء الفرص على الصعيد الاقتصادي
فإن هذا التفاوت سينعكس تلقائياً وبوتيرة أشد خطورة على الصعيد
السياسي، ولعل مثال تلاعب الاغنياء بالعمليات الانتخابية وشراء
أصوات الفقراء يتردد في كثير من الديمقراطيات التي يكون فيها
التفاوت الاقتصادي جسيماً، ولذلك كانت هناك دعوة متكرره الى
الاحزاب السياسية والقادة السياسيين للعمل على التخفيف من
التأثيرات بالغة الخطورة للتفاوت الاقتصادي على المستوى السياسي.
على أنه لا يجب انكار حقيقة النجاح الباهر الذي حققته بعض
الديمقراطيات في مجال الحريات المدنية والسياسية بالرغم من
انخفاض مستويات التنمية الاقتصادية كما في مثال الهند ودول في
اميركا اللاتينية.
دور
الدين في العملية الديمقراطية
إن دور الدين يتحدد في رؤية الاتباع وما يقررونه من درجة مشاركة
في العملية السياسية. فالدين بما هو تأويلات خاصة بكل مدرسة
فكرية ومذهب قد يكون حائلاً أو حافزاً في تحريك التجربة
الديمقراطية باتجاهات معينة. ولذلك ففي الاطار العام للاديان
هناك ميول متضاربة واتجاهات متقابلة حيال مفاهيم ذات دلالات
مضطربة او مهام ذات مغازِ مثيرة للجدل. وقد قيل بأن بعض المدارس
الفكرية التي تستمد من مجموع النصوص الدينية مشروعيتها ورؤاها
الكونية، وتعتبر أن النص الديني حقيقة منزلة يجب قبوله حرفياً
دونما نقاش أو تحقيق في صدوره وسنده تكون أقل قبولاً بمبدأ
الديمقراطية.
إن ما يجعل الأمر ذو جدل خاص هو رؤية بعض المذاهب الدينية للدول
باعتبارها وسيلة مقدّسة لتطبيق إملاءات شريعة ما وتحقيق رسالة
السماء على الأرض، ولكن الانكى حين تتسرب هذه العقيدة الى الدولة
نفسها فيقوم رجالها بإكراه أصحاب المعتقدات الدينية الأخرى على
إتباع ديانة الدولة أو تعريضهم للاضطهاد وحملات كراهية على أساس
ديني ومصادرة حقهم في التعبير عن الرأي.
إن ثمة عنصراً ايجابياً فاعلاً يمكن للدين ان يلعبه في تعزيز
الممارسة الديمقراطية وهو التسامح الديني الذي يحبط النزوعات
الداخلية لدى الجماعة الدينية الغالبة في تقرير ما تشاء من
معتقدات دينية وفرضها على باقي الطوائف والجماعات. ويجب الاشارة
هنا الى أن التسامح الديني لم يقرر من أجل حرمان أي جماعة من
تبني ما تراه، أو إسقاط حقها في الترويج لمعتقداتها بصورة
متساوية مع الجماعات الاخرى، وإنما تم تقرير ذلك من أجل منح
الناس فرص حقيقية وكاملة تتيح لهم تقرير ما يشأون حتى في مجال
العقيدة الدينية.
إن تدخل الدولة في فرض مبادىء ديانة معينة على غير المؤمنين بها
يفضي الى إلغاء سلسلة حريات منها الحرية الفكرية وحرية الاعتقاد
والضمير والاجتماع وهذه الحريات كما ترى مبادىء أساسية في
الديمقراطية.
وعلى المستوى السياسي، فإن أخطر ما يمكن للعامل الديني أن يفعله
سلبياً وأن يحدثه من انقسامات داخل المجتمعات هو استبعاد بعض
الفئات من المناصب السياسية على خلفية دينية.
|