العدد 18 يوليو 2004
الملامح والجذور السياسية والإقتصادية والديمغرافية
الطريق الى الإنفصالية في المملكة العربية السعودية
د. خالد الرشيد
تطلق في هذه الإيام اتهامات الإنفصالية وتخوّف بها الشعوب بشكل
لم تعهده من قبل، وكأنها قاب قوسين أو أدنى من الحدوث، وكأن
كارثة كبيرة ماحقة تقف على الأبواب. معظم من يتحدث في هذا الشأن،
يستخدم عبارة (الإنفصال) بغرض الإبقاء على الوضع السياسي على ما
هو عليه والإصطفاف وراء النظام السياسي كصمام أمان لعدم حدوث
التقسيم، كما وتستخدم العبارة من أجل بث الرعب في الجمهور حيناً
بتضخيم الخطر الخارجي ـ الأميركي بنحو خاص ـ الذي يريد أن ينتج
سايكس بيكو ثانية، تزيد من تمزيق البلاد العربية، كما أن هناك
أطيافاً أخرى سياسية تستخدم العبارة للتهديد من أجل تحصيل المزيد
من كعكة السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير على صناعة القرار،
وهي تعلم أن الإنفصال أمرٌ مستبعد أو صعب.
الإستخدامات العشوائية لعبارتي التقسيم والإنفصال في المملكة كما
في العراق، تظهر فريقاً حكومياً أو خاسراً سياسياً وكأنه مدافعٌ
عن الوحدة، كقيمة دينية وسياسية، بينما يحاول في الواقع الدفاع
عن مصالحه، بوصم أعدائه بأنهم إنفصاليون خونة، في حين أنه يمثل
الوحدة بأرقى معانيها. والحال هي غير هذه، فلا صدام حسين كان
وحدوياً قطرياً (أي داخل العراق) ولا كان وحدوياً قومياً (على
مستوى الأمة العربية)؛ وكذلك فإن رافعي يافطة التخويف من وقوع
الإنفصال والتقسيم في المملكة، لا يستطيعون الإدّعاء بأنهم ـ وهم
على رأس الحكم اليوم ـ يمثلون الوحدة، في حين تميل معظم سياساتهم
الى الفئوية والتمييز على أسس غير وطنية والتي سببت شروخاً بالغة
الخطورة في النسيج الإجتماعي لم تعرفه الجزيرة العربية في
تاريخها القديم والحديث.
القضية هي أن أنظمة وفئات إجتماعية تحاول الإبقاء على الأوضاع
الفاسدة وأن تختطف مفهوم (الوحدة) لتعزيز مواقعها في الحكم، وأن
ترهب الجمهور وتكبحه من القيام بأي حراك سياسي إصلاحي، وأن تشهر
بأعدائها السياسيين، أو من يعتقد أنهم كذلك، والإستفادة من مقالة
هنا أو تصريح هناك، لإشاعة أجواء مرعبة، تبرر سياسات خاطئة كما
تبرر وتغطي المصالح الفئوية الدفينة أو المكشوفة على حدّ سواء.
ربما يكون هنالك جهل في استخدام عبارات (التقسيم والإنفصال) في
غير مواقعها. فالإنفصالية ليست مجرد مشاعر أو رغبة يكفي لتحقيقها
توفرهما. إنها آليات وطرق تُبصّر الباحث إن كان التهديد بالتقسيم
أو الإنفصالية أمراً ممكنا، بعد أن توافرت شروطه. لقد أصبح
الموضوع علماً، ولم يعد يدور في محيط التخرصات، ونظراً للجهل
أحياناً بذلك، والبعد عن العلمية، تتضخم المخاطر في ذهن صانع
القرار، أو في ذهن المواطن المتلقي، فيحسب أنه أمام كارثة جديدة،
هذا اذا افترضنا أنه يعيش الوحدة ويقدسها. والحال، ليس بهذه
الصورة بالضرورة!
ليس العرب وحدهم من يتحدث عن أن الحدود رسمها الإستعمار، وأنها
حدود مصطنعة، أو القول بأن القوى الإستعمارية قد قسمت الكثير من
الأمم بين دول عديدة، سواء كانت في آسيا أو أفريقيا.. وسواء كانت
قوميات عربية أو كردية، قبلية كانت أم عرقية، دينية كانت أم
أثنية.. ليس العرب وحدهم من يشكو من ذلك، ولكن (مزاعم الوحدة)
المفقودة، وأحياناً (المنجزة) كما في المملكة.. لا ترتبط في كثير
من الأحيان مع الموقف من تلك الحدود، ومن الموقف الأخلاقي
والديني. فالأنظمة العربية ترفع شعارات الوحدة، في حين أن
المواطن العربي يراها أكبر معوق لتحققها، وهي التي تحمي حدودها
وثرواتها عن (الأغراب) الآخرين (نظرائهم العرب والمسلمين).
التخلص من الإستعمار لم يقوّض حدود الدولة القطرية العربية، وغير
العربية، بل عزّزها وقوّاها. فالأنظمة الوطنية كانت أكثر حرصاً
من المحتلّ على إبقاء تلك الحدود، وكانت أقلّ التفاتاً الى طبيعة
النسيج الإجتماعي المتعدد في كل بلد عربي، حاول بعضها تسويره
بتخليق وطنية (قطرية) تحمل صفات الإستعلاء على الآخر (العربي
الخارجي) إما لتمايز في الثروة أو المحتد أو المذهب، ولا نريد أن
نضرب الأمثلة هنا، لأنها تبعدنا عن صلب الموضوع.
ما أودّ التأكيد عليه، هو أن العرب والمسلمين في فورة الحرب ضد
الإستعمار، أو كأحد نتائجه، عززوا فكرة الوحدة، ولكن الإنتصار
على الإستعمار لم يولّد آليّة نحو التوحّد لا على صعيد العالم
العربي، ولا على صعيد الدولة القطرية نفسها، فأصبحت نتائج سايكس
بيكو مقدّسة للزعماء وربما للمواطنين العرب الذين يلعنون تلك
الإتفاقيات، ولربما لا يريد الكثير منهم اليوم ـ إن جدّ الجدّ ـ
التخلّص منها. ولقد أدّى تعزيز الحدود القطرية في جانب منه، الى
تعطيل مفاعيل الوحدة الوطنية الداخلية، عكس ما كان يفترض أن
يحدث، فالإلتفات الى الحدود والأحلام المبتورة بدولة عربية
واحدة، الى تجاهل النسيج الداخلي، فتفجرت البلاد العربية او
بعضها من الداخل، كما في لبنان، وكما في العراق، وبدأ الوضع في
سوريا نفسه يختلّ، في حين يعاني السودان حرباً أهلية، ويعاني عدد
من دول شمال أفريقيا من عقدة (البربر)، وفي مصر برزت في السنوات
الأخيرة مشكلة الأقباط، وفي السعودية ـ الدولة المثال ـ التي
تعتبر نفسها خارج التصنيف السايكس بيكوي كونها حققت شرائط توحيد
سياسي (إجتماع سياسي) عاكس التيار التقسيمي الذي كان سائداً في
البلاد العربية.. هذه الدولة التي كانت تفاخر بإنجازها الوحدوي،
تشعر اليوم بأنها مهددة بالتقسيم والعودة الى كياناتها التاريخية
القديمة. لقد صحا العالم العربي بل العالم أجمع وبينهم المواطن
السعودي نفسه على حجم التعدد الكبير في المملكة، الثقافي
والسياسي والتاريخي، وقد كان يراها بالأمس واضحة الهوية وذات لون
واحد غير مختلط ثقافياً وسياسياً وتاريخياً.
ولئن كان تجاهل مكونات المجتمعات العربية المتعمّد قد بدا وكأنه
امتداد للديكتاتورية والفئوية السياسية الحاكمة، ورغم أنه بدا
وكأن ذلك التجاهل كان مجرد خطيئة صغيرة محدودة وضرورية آنيّة،
إلا أنه كان خطأ مميتاً كونه أدى الى تعويق التحول السياسي
الطبيعي في البلدان العربية، وكونه قد عزّز الإنشقاقات المجتمعية
بشكل غير مسبوق وغير معهود ما قبل قيام الدولة القطرية. وحين
تفجّرت الأخطاء والخطايا على شكل أحاسيس ودعوات انفصالية، لم يشأ
النظام العربي العودة الى نفسه ومراجعة سياساته، بل استخدم
المزيد من العنف والمذابح والتهميش، وإلصاق التهم بالعمالة،
وتجييش الشارع المحلي والخارجي ضدّ الفئات المضطهدة، الأمر الذي
عمّق الروح الإنفصالية والهوية الفرعية المضادة، كمخرج لبعض
أزمات الدولة القطرية، وأزمات القاطنين فيها.
من المؤكد أن بعض الحركات الإنفصالية في البلاد العربية قد شكلت
ظاهرة منذ بداية الدولة القطرية، حيث ظهرت بعض تلك الحركات بمجرد
قيام الدولة، كما هو الحال في كردستان العراق، وجنوب السودان،
والحجاز في المملكة العربية السعودية، لكن بعض الحركات
الإنفصالية قد تطوّرت بعد قيام الدولة نتيجة الإحباط المتراكم
والأزمات المستمرة وغياب البرامج الوطنية والعدالة الإجتماعية..
بعبارة أخرى، بسبب فشل الدولة القطرية كما هو واضح اليوم. أي أن
سبب نشوء الحركات الإنفصالية لا يعود الى (التآمر) مع (الأجنبي)
كما توحي الإتهامات الواضحة من قبل الأنظمة وربما الشارع العربي،
بل لأسباب سياسية محليّة، لها علاقة بالسلطة السياسية، أو لخلل
في العلاقة بين الأثنيات والجماعات المكونّة لسكان الدولة.
بدهي، أن ليس كل تلك الحركات الإنفصالية نجحت في مسعاها. في
الحقيقة فإن القليل منها نجح، على مستوى العالم الثالث بل العالم
أجمع. وإذا كانت النشأة تحددها الأسباب المحلية، فإن النجاح أو
الفشل يعود بالدرجة الأساس الى موقف المجتمع الدولي والسياسات
الدولية والإقليمية ومصالحها التي تتمدد خارج حدود الدولة
المعنية، إضافة الى وضع الجماعة الإنفصالية وقوتها. هذا ما يفسّر
وقوف المجتمع الدولي الى جانب فئة انفصالية وإحجامه أو عدائه
لأخرى. ولقد كانت ظروف الحرب الباردة قد غطّت هي الأخرى على
النزعات الإنفصالية التي لم تجد لها متنفساً حقيقياً للتعبير عن
ذاتها، إذ أن كلا المعسكرين كان يسعى لتوحيد جبهته وجبهة حلفائه
الداخلية في مواجهة الآخر، ولكن الظروف الدولية اليوم قد تحلحلت
بعض الشيء، ففرخت الكثير من الدول الجديدة، ونشطت الحركة
الإنفصالية على مستوى العالم.
(مجتمعات) متعايشة
لتجاوز إشكال استخدام صفة الجمع (مجتمعات) في التعريف بالواقع
الإجتماعي والديمغرافي في المملكة، أودّ ابتداءً القول بأن صفة
الجمع هي أقرب الى الدقّة من اعتبار المملكة مجتمعاً واحداً
منسجماً. حيث تميل الحكومات بشكل عام الى اعتبار مواطنيها نسيجاً
اجتماعياً واحداً، وكأنها تريد أن تقول بأن مواطنيها أصبحوا
مجتمعاً سياسياً يمتلك خاصية العلاقة ما فوق القرابية وما فوق
الدينية وما فوق العرقية والجهوية الأخرى. والغرض من ادّعاء وحدة
النسيج الإجتماعي هو القول بأن الدولة أو الحكومة استطاعت ديمومة
الوحدة، أو صناعتها، وأنها قضت على مبررات الإنفلاش أو الإقتتال
أو الإختلاف الداخلي المنذر بتفتت عصبية الدولة. وكأن وحدة
النسيج الإجتماعي تطرح هنا كـ (إنجاز) للسلطة، بغض النظر عن صدق
الإدعاء، ووسائل تحقيق ذلك الإنجاز المدّعى، وبغض النظر أيضاً عن
(فائدة) المنجز نفسه، كونه ينطوي على توحيد ما لا يجب أن يتوحّد،
أو ما لا يمكن أن يتوحّد. والفارق بين وجود مجتمعات متعددة في
بلد ما، وبين اعتبار تلك المجتمعات سياسية كبير، ولا يوجد تعارض
بالضرورة بينهما. فالمجتمع السياسي، هو ذلك المجتمع القادر على
تخليق مشتركات ثقافية وطنية تتجاوز ـ دون أن تلغي بالضرورة ـ
ثقافة المجتمع الصغير؛ وهو المجتمع القادر على إيجاد هوية وطنية
راسخة، واهتمامات ومصالح وطنية تشمل كل أفراد المجتمع؛ وهو
المجتمع الذي يولد حراكاً سياسياً داخلياً ويقحم أفراده في ماكنة
النشاط السياسية والعملية السياسية. المجتمع السياسي باختصار،
يسمو على الإنتماء الى الأثنيات والقوميات والأديان المشكّلة
للمجتمع، دون أن يلغيها بالضرورة، وإنما يولّد روابط وتجسيرات
إضافية تجمع كل المكونات المجتمعية على قاعدة المصالح المشتركة
والتفاعل الإيجابي، والإحترام المتبادل بين تلك المكونات، خدمة
لمصالح أعم، تنعكس بالضرورة على مصالح المنتمين ـ إجتماعياً ـ
الى فئات وجهات.
لهذا السبب، استخدمت كلمة (مجتمعات) سعودية، وليس (المجتمع)
السعودي. وقد قصدتُ بهذا في الأساس، الإشارة الى أن هذه
المجتمعات بقيت على حالها وانتماءاتها الضيّقة، ولم تشكل بعد
روابط فوقية تلمّ الشمل، وتقلل الإختلاف، وتقدّم المصالح على
الإنتماءات. بعبارة أخرى: المواطنون في المملكة لا يشكلون
(مجتمعاً سياسياً) وإنما (إجتماعاً سياسياً) أي أن تلك المجتمعات
المتعددة قد (أُطّرت) سياسياً في دولة واحدة، ولا يعني تأطيرها
السياسي ذاك، أنها أصبحت بالضرورة (مجتمعاً سياسياً) ما لم
تتخلّق روابط وثقافة وانتماء ومصالح ومشاركة سياسية وطنية.
المجتمعات في المملكة رغم تأطيرها في (الإجتماع السياسي/ الدولة)
لاتزال تعيش (متجاورة) غير متفاعلة فيما بينها أو ضعيفة التفاعل
على الصعد الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والنفسية (الزواج
المختلط مثلاً، او العلاقات الشخصية، الإنتقال في السكن من منطقة
لأخرى بشكل دائم، الشراكات الإقتصادية، اللقاءات الثقافية
والدينية.. الخ). بل يمكن المجادلة اليوم بأن مجتمعات المملكة قد
رفعت الأسوار فيما بينها عالياً، وقد نحتت العقود الثلاثة
الأخيرة ـ بنحو خاص ـ الكثير مما تبقّى من أواصر وروابط كانت
متوافرة حتى السبعينيات الميلادية؛ الى حدّ يمكن القول معه، أن
ما كان منتظراً من ثمرات التحديث وثورة الإتصالات والتعليم قد
ضاعت، بل آتت ثماراً عكسية فيما يتعلق بعلاقات التجمعات المكونة
للمجتمع السعودي مع بعضها البعض.
الهوّة التي تفصل بين المجتمعات السعودية معقدة، نتجت في جانب
منها عن موروثات ثقافية وتاريخية، وقد عززتها السلطة السياسية في
العقود الثلاثة الماضية بشكل فاضح، دمّر أسس التآخي بين
المواطنين، وأصبحت المشكلة في جانب منها (نفسي) إضافة الى
العوامل الثقافية والسياسية والتاريخية، حيث العودة المغالى فيها
الى (الذات) وهي بعد لم تبارح (ذاتها) وإعادة اكتشافها من جديد،
وكذلك إعادة ترتيب المصالح، والتطلع الى المستقبل بعقلية منفردة
انفصالية تبحث عن أحلام تتمنّى أن تتحقق في لحظة عطب تاريخي..
وكأن جريمة قد ارتكبت في الماضي تنتاب المواطنين حين كانوا
يشهدون إرهاصات (تواصل) خنق في حينه بأدوات السياسة والدين!
دور المصالح في تحديد الوجهة الإنفصالية
(المصالح) والشعور بـ (القدرة على التعايش) يحددان بوجه خاص توجه
الجماعات نحو الإنفصالية من عدمه، فالحركة الإنفصالية في معظم
الحالات تبدو وكأنها حركة عقلائية، تقيس الأرباح والخسائر، خاصة
الأرباح المادية. فحين اكتشف النفط في بحر الشمال، تصاعدت حمّى
الإنفصالية في (استكتلندا) وهي التي أعطت زخماً أكبر للحركة
الإنفصالية في السودان أيضاً. لكن المصلحة المادية لا تبدو وحدها
المنظورة، فكثيراً ما تجري التضحية بالمصالح الإقتصادية لحساب
المصالح المعنوية، كما حدث في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة
والتي كان من مصلحة بعضها الإقتصادية أن تبقى ضمن الإتحاد
الروسي، لكنها فضلت الإنفصال. عكس ذلك، وفي بلدان عربية وإسلامية
فإن البعض يضحّي بمصالحه الإقتصادية عبر البقاء ضمن بوتقة الوحدة
استناداً الى خلفية دينية أو أيديولوجية، في حين قد يكون في
انفصاله رفاهاً أكبر.
لهذا كانت (القدرة على التعايش) بين الجماعات المكونة للدولة
مهمة الى جانب المصالح، فالمصلحة وحدها قد لا تكون المحدد الوحيد
أو الدافع الوحيد لجماعة ما نحو الإنفصال، فالشعور بإمكانية
التعايش بين الجماعات المشكلة للنسيج الإجتماعي قد يلعب دوراً
معاكساً فيلغي جانب المصلحة في تقرير عملية الإنفصال.
الموروث الثقافي للجماعة يلعب دوراً مهماً، وقد يتبلور في مطالب
حكم ذاتي، أو نوع من الخصوصية الإستقلالية المحدودة مناطقياً،
وهو أقل من الإستقلال. وهذا ما يعرض عادة على الجماعات لتنأى
بنفسها عن الإنفصال، بحيث يُنظر في الأسس التي توزع على أساسها
الثروة، وتمنح المناطق المرشحة للإنفصال نوعاً من الحكم الذاتي
الذي يراعي الخصوصية الثقافية والتاريخية لتعبر عن نفسها ضمن
البوتقة الوطنية.
لكن هذا قد لا يكفي، فأمامنا على سبيل المثال جماعتا الباسك
والكاتلان، الأولى سياسية نزعت الى المطالبة بالإستقلال التام عن
أسبانيا عبر الكفاح المسلّح، والثانية ثقافية لم ترد سوى
الإستقلال المناطقي ضمن إطار الدولة الأسبانية. ورغم أن الأولى
بدت وكأنها قد اختطفت القرار الشعبي، إلا أن تحسّن الأوضاع
باتجاه الديمقراطية وإعادة توزيع السلطة والثروة الذي جرى خلال
العقود الثلاثة الماضية، أدى بصورة تلقائية الى خمود الباسك،
وتوسّع الكاتلان أفقياً وعمودياً في الوجدان الشعبي.
اليوم تشهد المملكة حراكاً سياسياً (يميل الى الغموض) باتجاه
الإنفصال.
هناك أولاً شعورٌ يتصاعد، بأن الإنفصال أو على الأقل الفيدرالية
هي حل صحيح لوضع الدولة السعودية.
و(المصلحة) تجد تجلياتها في التعبير كدافع نحو الإنفصال. إن جئت
الى الحجاز، ستسمع وبوضوح لا لبس فيه بأن انفصال الحجاز سيكون في
صالح أبنائه، عبر مداخيل الحج والسياحة الدينية وعبر النفط الذي
اكتشف في الستينيات الميلادية ولم يستخرج بعد، إضافة الى المعادن
الأخرى كالذهب والنحاس وغيرهما. يضاف الى ذلك سيدرك الباحث
القريب أن الشعور الحجازي كما نظيره في المنطقة الشرقية يميل الى
أن إمكانية التعايش مع سكان المركز، بسبب المذهبية الطاغية على
نحو خاص، غير ممكنة. فالفاصلة النفسية كبيرة وتتسع لتشمل حتى
النخب الليبرالية نفسها.
وفي المنطقة الشرقية ستسمع في المجالس العامة أحاديث تنمّ عن
رغبة دفينة باتجاه الإنفصال. قد تسمع نقداً لاذعاً لأولئك الذين
سلّموا للملك عبد العزيز بالحكم في الأحساء والقطيف وهم رجال دين
ووجهاء رفضوا دعوات البريطانيين لتكوين إمارة خاصة بالشيعة على
غرار الكويت.. وهم يتساءلون: كيف كان سيكون حالنا ونحن نعيش
كأغنى دولة في العالم؟ وكيف سيكون المنطقة وأبناؤها الذين ينتجون
الثروة من تحت أقدامهم وهم اليوم تنخر فيهم البطالة وتهالك
الخدمات الحكومية؟
هذا الشعور المتزايد، لا يخفي حقيقة أن هناك اعتراضاً قوياً على
القائلين به. وإذ لا يختلف المعترضون في تحليل للوضع المتردّي
وإنما في طبيعة الإستجابة له، فبسبب الشعور الديني سواء لدى
النخبة الإجتماعية ـ السياسية أو لدى الجمهور، فإن الأخيرين
يميلون بقدر ما الى البقاء ضمن الوحدة السياسية حتى وإن كانت
تهضمهم حقوقهم كبشر وكمواطنين (من سخرية الأقدار، أن المذهب
الرسمي لا يعترف بإسلام هؤلاء الوحدويين ويعاملهم كمشركين أو
كفرة!). وفي حين يأمل أولئك (بالإنفصال) عن الدولة، يتمنّى هؤلاء
ويأملون أن يأتيَ يومٌ تعزّز فيه الإصلاحات وتتخفّف الحكومة
المركزية من أثقالها، وتمنح المناطق دوراً واسعاً في إدارة
ذاتها، ويفسح المجال للتعبيرات الثقافية الخاصة بأن تكشف عن
نفسها بعيداً عن الثقافة الواحدية، وثقافة الهيمنة والإستعلاء.
إن استجابة الحكومة السعودية المركزية لهذه الأمنيات هي التي
تحدّد وجهة ومستقبل الدولة والحركة الإنفصالية معاً. فترك الأمور
على حالها دونما معالجة أو إصلاح يزيد المشاعر الإنفصالية
رسوخاً، وخوف الدولة من تقديم التنازل لأنه قد يفضي الى المزيد
من التدهور ليس دقيقاً، ذلك أن المطالب قد تتقلب من الفيدرالية
الى الحكم الذاتي الى الإستقلال والعكس. بمعنى أن المطالب
الإنفصالية ليست ثابتة بالضرورة، وهي قابلة للمساومة السياسية؛
وهي تعتمد على رؤية الحكومة والحركة الإنفصالية الى الحدود التي
يمكن لهما التنازل أو التوقف عندها.
وفي حين لا توجد في المملكة (حركة إنفصالية) مشخّصة وواضحة
المعالم، مع أنها واضحة الأهداف والإتجاه، فإن من المؤكد أن
المشاعر الحالية ستفرز حركتها في المستقبل، حسب توافر المناخ
السياسي المحلي والدولي والإقليمي.
فإذا ما استمرّ العنف مثلاً، وفشلت الدولة في كبحه، وإذا ما
توسّع الى مناطق أخرى وأخذ صفة مذهبية أو مناطقية وهو أمرٌ غير
مستبعد؛ وإذا ما فشلت الحكومة المركزية في إصلاحاتها الإقتصادية
والإجتماعية؛ وإذا ما وصل الإصلاح السياسي الى طريق الإنسداد؛
وإذا ما ترافق ذلك مع مناخ سياسي إقليمي (خليجي وعربي) ودولي
(الموقف الغربي الذي قد يستثار إذا ما حدث فشل في حماية النفط)
فإن كل هذا سيفرز حركة إنفصالية قد تلقى ليس القبول المحلّي بل
والقبول الدولي والإقليمي أيضاً.
هذا كله يعتمد على ردّة فعل السلطة السعودية، وعلى قدرتها في
قراءة الوضع الداخلي بشكل صحيح، أي القراءة التي لا تنحصر في
الذات وفي قدرتها الأمنية والمادية الباطشة، فهي لاعب قوي ولكنها
ليست اللاعب الوحيد كما نرى.
آليات الإنفصال: الفوارق الإقتصادية والوظيفية
لا تكفي المشاعر والخلفية الثقافية والتاريخية والسياسية
والدينية المختلفة عن الآخر، ولا تضارب المصالح لتصنع انفصالاً
وتقسيماً. فهذا هو قاعدة الإنطلاق، وليس نهايته. والذين (يحسبون
كل صيحة عليهم) تتضخم لديهم المقدمات فيوصلونها بالنتائج، ولا
يدركون آليات تحول تلك المشاعر الى حقائق انفصالية على الأرض. بل
أنهم قد يسرّعون العملية الإنفصالية بانتهاج سياسات خاطئة
وبالتحريض المغالى فيه، وكذلك الخطر المبالغ فيه أيضاً، الأمر
الذي يحفّز المعنيين بالعملية الإنفصالية لتسريع الخطى لتكون في
مستوى الموضوع المدّعى، والخطر الذي يزعم أنها تمثله!
واحدة من القراءات التي يمكن الركون إليها نسبياً في تفسير
التقسيم، هو أن المناطق الغنيّة تقود عملية الإنفصال في حال
حُرمت من الثروة، بالرغم من أن حوادث انطلاق الإنفصال من المناطق
الفقيرة على مستوى العالم أكبر بكثير من المناطق الغنيّة
بالموارد. لهذا، قد تتهدّد المملكة من حركتي انفصال تبرزان من
الحجاز ومن المنطقة الشرقية، وليس بالضرورة من الجنوب الفقير
بالموارد أو الشمال (الجوف). وخطر انفصال المناطق الغنيّة على
الدولة، أية دولة وليس المملكة فحسب، هو أكبر بكثير من خسارة
المناطق الفقيرة، بالرغم من أن الأخيرة فشلت في مناطق متعددة من
العالم (على سبيل المثال شمال تشاد، وجنوب الفلبين ـ مورو، وكذلك
جنوب تايلاند ـ فطاني). أما المنطقة المرفهة، أو التي تحظى
بالحدّ الأقصى من الرعاية (نجد ـ منطقتي القصيم والرياض بشكل خاص
وليس حائل) فهي بكل تأكيد لا تريد الإنفصال، لأنه يحرمها من كل
موارد الثروة والسلطة، وهذا حساب مصلحي لا علاقة له بنوازع
وحدوية أو وطنية.
في المملكة لا يُلتفت عادة الى النوازع الإنفصالية في المناطق
الفقيرة، كالجنوب مثلاً، التي تحوي تجمعات سكانية متباينة.
والفكرة الأساس تقوم وفق ما جاء في تعبيرات دونالد هرويتز في
كتابه
Ethnic
Minorities in Conflict
على اعتبار أن معظم النزعات الإنفصالية أكثر ما توجد في المناطق
الفقيرة بالموارد، والمتأخرة في مستوى الأفراد تعليمياً
واجتماعياً واقتصادياً
Backward Groups in Backward Regions،
بحيث أن هذه المناطق تحاول الإنفصال بشكل مبكر حين تشعر بأن
حصتها من الدولة ستكون أو هي بالفعل صغيرة. وعادة ما تخشى
المناطق الفقيرة من نظيراتها الأكثر تقدماً وتعليماً، وحين تشعر
بأن الإنفصال غير ممكن في البداية فإنها تبحث عن تمثيل سياسي وعن
خدمات عامة لأعضاء الجماعة. وبمجرد أن تفشل في الحصول على
مبتغاها، وأن هناك فئات منافسة تسيطر على الدولة ولا تريد التخلي
عن امتيازاتها أو بعض من تلك الإمتيازات، فإنها تنكفئ مجدداً على
ذاتها وتطالب بالإنفصال.
وفي المملكة، شهدنا شيئاً من هذا النوع، بالنسبة للمنطقتين
الشمالية والجنوبية، وفي غيرهما أيضاً، فقد سعى الشماليون
والجنوبيون الى الحصول على موطئ قدم في الدولة وأجهزتها والحصول
على بعض منافعها، ولكن خيبة الأمل كانت ـ فيما يبدو كبيرة ـ
فظهرت إرهاصات التميّز للجماعة والإنحياز إليها فتبلورت أجنّة
الإنفصال، وظهرت مناشير تدعو الى ذلك، كما ظهر ارتداد واضح عن
الدولة وأجهزتها.
وهناك أمرٌ يعتقد به المسؤولون السعوديون، وهو أن المناطق
الفقيرة تعيش من الناحية العملية على تمويل الدولة ومعوناتها،
ويظنّ هؤلاء بأن نخبة تلك المناطق لا تملك خيارات الإنفصال ولا
إمكاناته، فالفقر من جهة والطموح لتحسين الأوضاع اعتماداً على
المركز، يجعل من المشروع الإنفصالي مختنقاً قبل أن يولد.
لكن هذا الحساب ليس دقيقاً بالضرورة. فقرار الإنفصال قد لا يأخذ
في الحساب الخسائر الإقتصادية المترتبة عليه، وقد يحدث في بداية
الأمر ملاحظة هذا العامل الربحي، ولكن إذا ما تطوّر اليأس
والإحباط لدى الجماعة، وشعرت بأنها مجرد كمّ مهمل على هامش
الحياة السياسية والإقتصادية، فإن رؤية أخرى تتطور باتجاه
الإنفصال وايجاد تعليل بأن هناك موارد لم تكتشف بعد في المنطقة
المعنية، أو أن إدارتها المستقبلية ستجد مخارج للأزمة الإقتصادية
المتوقعة، كتحسين الإدارة مثلاً، أو استثمار الإمكانات المتوفرة
على نحو أفضل (السياحة مثلاً) أو عبر تنشيط العلاقات السياسية
المتوقعة مع دول مجاورة، وهكذا. ومع تقدم النزعة الإنفصالية يصبح
الحديث عن الخسائر أمراً مرفوضاً ولا يناقش كثيراً، فالشعور
الإنفصالي يكون جارفاً لا يحاكم المصلحة بقدر ما يحاكم العاطفة
الموتورة التي تريد الإنتقام لذاتها.
فالنخبة في المناطق فقيرة الموارد، تسعى الى التأكيد على مقارنة
نسبة سكان المنطقة في الدولة، مع نسبة ما تحصل عليه من خدمات.
وهذا ملاحظ في المنطقة الجنوبية على نحو خاص، حيث تشكل نحو 30%
من سكان البلاد، في حين تحظى بأقل من 10% وفق بعض التقديرات من
إنفاق الدولة. ومن المقارنات التي توضع قيد التحفيز والتحريض على
الإنفصال، كما هو ظاهر اليوم في كل مناطق المملكة وليس الجنوبية
فحسب، هو مدى حصول كل منطقة من تمثيل سياسي في صناعة القرار، أو
في إدارة أجهزة الدولة (في الوزارات والمرتبتين الممتازة
والخامسة عشرة) وفي بعض الأحيان يتوسع الأمر الى تمثيلها في
الإعلام ومدى تغطيته لأخبار وأوضاع المناطق التي تعتبر نفسها
مهملة من ذاكرة الدولة، والى التجارة والأعمال ومدى مساهمة
المناطق فيها، وكذلك تمثيلها في القضاء والمؤسسة الدينية والجيش
والشرطة وغيرها، وهي كلها تشير الى غمط لحقوق المناطق بشكل عام
لحساب منطقة لا تمثل أكثر من 25% من السكان.
هذا الإقصاء يشكل عاملاً خطيراً في بلورة الشعور الإنفصالي، وكأن
سكان المناطق الفقيرة وغيرها يشعرون بأنهم إزاء احتلال من نوع
جديد، لا يجد في المملكة من يتحدث عنه، رغم تكرر الشكاوى منه.
لقد أحسن صنعاً أن قام الدكتور محمد بن صنيتان بنشر أطروحته
للدكتوراة حول النخبة السعودية حيث وجد أنها مناطقية طائفية، وأن
نجد تحوز أكثر من ثلاثة أرباع الوظائف والمراتب العليا في
الدولة. ولنضرب مثالاً يبين مدى تأثير هذا النوع من المقارنة على
تزويد المشاعر بشحنات ومسوغات انفصالية. لقد وجد الباحثون مثلاً
أن نسبة تمثيل جنوب السودان في جهاز الخدمة المدنية منتصف
الستينيات ـ والذي يمثل نحو ربع السكان ـ هي 1: 300، وتمثيلاً في
اللجان المناطقية بنسبة 3: 43، و3% في الجيش، و 4% في الشرطة.
ذات المشكلة (التهميش) وجدت لدى أكراد العراق، ولدى كثير من
الجماعات التي تشكل بؤر انفصال شديدة التوتر.
وفي المملكة، يقرّ الدكتور محمد صنيتان، وهو إذ يواجه مشكلة أوسع
من منطقة بعينها، بل تعاني منها معظم مناطق المملكة التي تشهد
نزعة تتبلور باتجاه الإنفصال، أن نجد تستحوذ على (59%) من عدد
مسؤولي الدولة الحائزين على المرتبة الخامسة عشرة، في حين حصلت
بقية المناطق (عدا الحجاز) على (2%) وهي حصة المناطق الشرقية
والجنوبية والشمالية! وفي مراتب الدرجة الممتازة، حصلت نجد على
(77%) منها، فين حين حصلت بقية المناطق الثلاث آنفة الذكر على
أقل من 1%. وفي مجال تعيين أفراد بمرتبة وزراء خارج إطار مجلس
الوزراء، حصلت نجد على 78% وحصلت المناطق الثلاث على 5%، أما
بالنسبة للوزراء الأعضاء في مجلس الوزراء (لم يحتسب الأمراء كجزء
من نجد رغم أنهم كذلك)، فحصلت نجد على (78%) في حين حصلت المناطق
الثلاث على 7%. وفي مجلس الشورى حصلت نجد على 50% من الأعضاء،
وحصل الجنوب على 7%، والشرقية 10% والحجاز 29%. اما التمثيل في
الجهاز القضائي والديني والعسكري فمحتكر بشكل شبه كامل لمنطقة
(نجد)، ولهذا استنتج الصنيتان أن النخبة الحاكمة أصبحت أسيرة
إقليميتها وانها منغلقة طائفياً وبيروقراطياً.
إزاء وضع غير عادل كهذا، خاصة إذا كانت اللعبة السياسية مكشوفة
لدى الجميع، فإن المشاعر تتجه الى اتهام الدولة بأنها (تحابي)
منطقة بعينها، وأنها تتعمّد الإساءة والتقليل من حجم المناطق
الأخرى، بلا مبررات معقولة دينياً او وطنياً. ومن البديهي أن
يتقدّم المتضررون بشكاوى الى رؤوس الحكم منددين بهذه السياسات
(انظر مثلاً الوثائق الواردة في كتاب حمزة الحسن ـ الشيعة في
المملكة العربية السعودية، الجزء الثاني) بل لا تعدم الوثائق
الوطنية المطالبة بالإصلاح الى الإشارة الى التنمية المتوازية
بعيداً عن التمييز الطائفي والمناطقي حفاظاً على وحدة الدولة
(وثيقة الرؤيا، والعريضة الدستورية، وكذلك العريضة التي تقدم بها
الشيعة في الشرقية والأخرى التي تقدم بها الإسماعيليون في نجران
ـ المنطقة الجنوبية). ولأن هكذا نوع من الشكاوى مضى عليه عقود
طويلة فلم يصلح، بل زاد سوءً، من خلال قمع الخصوصيات المناطقية
والثقافية، والإستمرار في فرض التجانس المذهبي
Homogenization
وإجبار المواطنين للتحول نحو الوهابية، ومن خلال العقاب المادي
والوظيفي للمناطق (المشاغبة)، أضحى التطلع الى الإنفصال عند بعض
الشرائح أملا وحيداً أمامهم.
مناطق محرومة وأخرى منعّمة
يوصّف وضع (نجد) كمنطقة وكجماعة مذهبية، بأنها تحتل وضع (الجماعة
المتقدمة) التي تنتفع بفرص التعليم والتوظيف، والتي لها تمثيل
يفوق حجمها العددي في التجارة والأعمال والجهاز البيروقراطي
والوظائف الراقية، والتي يتمتع الفرد فيها بدخل أكبر من المناطق
الأخرى. وفي الغالب ينظر الى الجماعة المتقدمة، من الناحية
النظرية، على أنها تلك الجماعة التي ينظر أفرادها إلى أنفسهم
وينظر الآخرون إليهم على أنهم شديدي التطلع والطموح والديناميكية
والثقافة. وهي بهذا تولّد لنفسها مبررات السيطرة والإستئثار
بالثروة والسلطة.
أما المناطق الأخرى في المملكة، ومع أخذ النظر بالمستويات
العامة، فينظر اليها ـ نجدياً على الأقل ـ بأنها جماعات أقلّ
تقدما، أو متأخرة، وأنها جديرة بأن تُحكم من الخارج، ولا تتوافر
لأفرادها الفرص التعليمية الكافية ولا يتمتعون برواتب ومداخيل
كبيرة، وهي في الغالب عرضة الى التنميط بأنها (متخلفة وغبية
وجاهلة وأنها قليلة الإنجاز) فضلاً عن الزعم بأنها ضعيفة
الإيمان، أو أن مذهبها لا يرقى مذهب الصفوة (الوهابية).
بالطبع فإن هذا التوصيف غير دقيق، إذ أن المقاييس تضيع أحياناً،
أو غير متوفرة في أحايين أخرى. وإذا كان من غير المجادل فيه بأن
نجد هي المنطقة الأكثر حظوة ورعاية في المجالات الإجتماعية كافة،
وأنها الأكثر حظوة من الناحية الدينية ومن الناحية السياسية،
وأنها أكثر تمثيلاً في بيروقراطية الدولة.. فإن تحديد الموقع
يتطلب إضافة الى ذلك، معرفة معدل دخل الفرد في كل منطقة. ولقياس
مؤشر الإحباط وطبيعة العلاقة بين المناطق واحتمالية الإنفصال،
يجب أن يقارن ما ذكر مع مساهمة كل منطقة في الناتج القومي، وكذلك
مقارنة مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها بين المناطق مع
ملاحظة عدد السكان في كل منها.
المنطقة التي تأخذ أكثر مما تساهم في الدخل القومي، لا يحتمل أن
تتطوّر فيها حركة إنفصالية قويّة، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على
نجد، وربما على المنطقة الجنوبية.
أما المنطقة التي تساهم في الدخل القومي وتحظى بنسبة معقولة من
الدخل ومن الخدمات، فإن الحركة باتجاه الإنفصال تبقى محدودة ما
لم تعزّز بقضايا أخرى أكثر تأثيراً من البعد الإقتصادي المجرد،
مثل وجود دوافع معنوية وسياسية ودينية وتاريخية تدفع باتجاه طلب
الإستقلال، ومثل هذه المناطق تتمتع في الغالب بتراث استقلالي
كبير، كما في الحجاز.
يأتي الدور على المنطقة التي تساهم في الدخل القومي ولا تحظى
برعاية تتناسب مع تلك المساهمة. وهذا ينطبق بشكل صارخ على
المنطقة الشرقية الغنية بالنفط والتي يأتي منها معظم دخل
المملكة، كما هو الحال بالنسبة للكاتلان والباسك في أسبانيا حيث
كانت منطقة كاتلونيا تجود بما نسبته 31% من مجموع الضرائب، في
حين لا تتحصل إلا على 13% من النفقات الحكومية؛ أما الباسك فكانت
تقدم 13% ويأتيها مجرد 5%. والغريب أن التشابه في التعبير الشعبي
عن هذه الحالة في بلد مثل السعودية كما في أسبانيا يكاد يكون
واحداً. ففي السعودية، يقول الشيعة بأن البقرة تأكل من الشرق
ويحلبها رجل في الغرب ليقدم الحليب الى رجل كسول في الوسط
ليشربه! وفي الباسك يقولون بأن البقرة تأكل من الباسك، وتحلب في
مدريد! وفي السعودية أيضاً يقول المواطنون الشيعة بأن البقرة
تلتهم من الشرق، ويذهب الروث الى الغرب، ويحتكر الحليب في الوسط.
وفي المطالب تتمحور حول أمرين متشابهين ايضاً: الإستفادة القصوى
من المداخيل المحلية، والتحكّم بحركة المهاجرين للعمل الذين
يزاحمون أبناء المنطقة في الوظائف.
ومن الأمور التي لها صلة بالحالة الإنفصالية، أنه لوحظ بأن
المناطق المرشحة للإنفصال هي في الغالب منكفئة على نفسها، حيث لا
يوجد من أعضائها أو من نخبها من يعيش خارجها (الباسك مثلاً)، وفي
بعض الأحيان تشتدّ الأوضاع سوءً للجماعة فلا تجد الحماية
والرعاية إلا في مناطقها، فتزحف الى حيث موطنها الأصلي، كما حدث
لدى التاميل بعد بزوغ الهيمنة السنهالية. وفي المنطقة الغربية من
المملكة، هناك ملاحظة شديدة البروز، وهي أن النخب الحجازية التي
كانت منتشرة في كل أنحاء المملكة خاصة المركز، الرياض، انكفأت
بسبب التمييز وعادت الى موطنها الأصلي. وفي وقت يحاول فيه
المسؤولون اجبار المواطنين عامة على التداخل (في مجال التعليم
تحديداً) حيث يجبر الكثيرون على الخدمة خارج مناطقهم، فإنهم في
الحقيقة يعتبرونها خدمة إجبارية، لا تعني شيئاً كثيراً، بل أن
هذا الإصرار غير المترافق مع سياسات وطنية اعتبر نوعاً من العقاب
أكثر من كونه وسيلة من وسائل الدمج.
من الصعب بالطبع أن تكون الرعاية الحكومية متوازية مع قدر
المساهمة، في منطقة مثل الشرقية، كون ثروة البلاد لا يمكن أن
ترتهن لمنطقة واحدة، ولكن في مثل هذه الحالات، عادة ما تقوم
الدول بوضع المناطق الغنية التي يأتي منها الدخل في قائمة
المناطق الأكثر رعاية، لتخفيف النزعة الإنفصالية. خطأ الحكومة
السعودية لم يكن بسبب عدم موازاة الدخل بالإهتمام الحكومي، بل هو
أكثر من ذلك، إذ تعمدت حرمان مناطق النفط، ومنتجي الثروة، كعقاب
لوجود الإختلاف المذهبي/ السياسي.. وهذا أدّى الى تكوّن أجنّة
الإنفصال على خلفية إقتصادية تدعم التمايز الثقافي والإرث
السياسي المختلف، والفشل المدمّر في ضعف الهوية الوطنية وسياسات
الدمج الإجتماعي.
يقال أن الجماعة المتقدمة وإن قطنت منطقة تعمّد النظام السياسي
جعلها متخلّفة عبر الإهمال والتمييز، فإنها لا تسعى الى الإنفصال
إلا بشكل متأخر، بعد أن تجرب حلولاً أخرى، فإذا ما وصلت الى
مرحلة اليأس تقلب سياساتها. فمثل هذه الجماعات، كما في الشرقية
والغربية، والتي ترى في نفسها كفاءة ثقافية وتعليمية وانفتاحاً
وتسامحاً وفهماً دينياً أوسع، تسعى أول ما تسعى الى (المساواة)
في المواطنة؛ كان هذا شعور الحجازيين حين احتلّه عبد العزيز في
العشرينيات من القرن الماضي، حيث كان الأمل بتشكيل دولة (وطنية)
والمساهمة فيها شغل النخبة الحجازية الشاغل. وكان هذا هو الهمّ
الأول لدى النخبة الشيعية في الشرق، بأن تقوم دولة لا تميّز بين
مواطنيها على أسس طائفية، وقد اكتشف الشيعة مبكراً أن تحقق هذا
الطلب او الهدف شبه مستحيل، في حين اكتشف الحجازيون ذلك بشكل
متأخر في الثمانينيات من القرن الماضي الميلادي. وفي حين لم يكن
تنقل المسؤولين الإداريين من منطقة لأخرى يثير مشكلة، فقد أصبح
اليوم هنالك إصراراً على أن تكون كل منطقة مسؤولة عن ذاتها وتدار
برجالها، وهذا مؤشر على تحوّل سيء لم يكن موجوداً فيما مضى.
وعلى عكس المناطق الفقيرة، فإن المناطق الغنية بالموارد أو
المتقدمة في الوعي تميل النخب فيها الى حساب الخسائر والأرباح من
الإنفصال، فإذا ما كان الإنفصال مربحاً تمّ التقدّم نحوه، وإذا
كان مضرّاً تمّ تجنّبه. هذه المعادلة واضحة اليوم بين النخب
الحجازية، التي يشير بعضها أحياناً الى ذلك بالقول، حين تنضب
أموال النفط، وحين لا نحصل على الحصّة المناسبة، وحين تتوفر لنا
الموارد الخاصة بنا، فإننا لن نبقى ضمن الوحدة السياسية القائمة،
بل سنقيم دولة (الحجاز). اما الشيعة فواضح ان الحسابات
الإقتصادية من حيث الخسارة والربح تميل الى الإنفصال. وحين يصبح
الحكم المركزي تحت الضغط، إما لمصادمته لهذه الجماعات المتقدمة
في مناطقها، أو بسبب تصاعد المشاعر المناطقية والطائفية، ستقوم
السلطات كما هي العادة في استدعاء الحسّ الوحدوي، والتأكيد على
وحدة الدولة التي تخدم مصالح الجميع بشكل أفضل. وهناك أمثلة تبين
أن بعض الجماعات المتقدمة لم تتبنى خيار الإنفصال إلا بعد مضي
سنين عديدة وبعد فشل الحلول السياسية، كالتاميل في سيريلانكا
مثلاً، الذي صبروا منذ الخمسينيات وحتى عام 1976، وحين فشل
التاميليون من تعديل الدستور، وفشلت المظاهرات السلمية، وفشلوا
في منع إلغاء اللغة التاميلية كلغة رسمية للدولة، وتمّ احياء
السنهالية، حينها فقط تفجر العنف والدعوة الى الإنفصال.
صحيح أن الفوارق الإقتصادية المناطقية ليست الدافع الوحيد،
ولكنها بكل تأكيد دافع حقيقي وأصيل، ومندمج في حسابات دعاة
الإنفصال والتقسيم. هناك من يعتقد ـ على سبيل المثال ـ بأن
الدوافع الإقتصادية تأتي في المرتبة الأولى بالنسبة للحجاز،
تليها الفوارق الثقافية المعمّدة بسياسات الدولة، في حين تلعب
الفوارق الثقافية والمذهبية وحالة الإغتراب والإحباط (عن ومن)
الدولة في المنطقة الشرقية المحفّز الأول للإنفصال، وتليه في
الأهمية الدوافع الإقتصادية. من هذا يتبين أن مطالب المجتمعات
المختلفة في مناطق المملكة تختلف هي الأخرى من حيث الأهمية في
تشكيل وبلورة الشعور الإنفصالي. كذلك الحال بالنسبة لأثر الأحداث
ومدى تأثير سياسات الدولة في تطوير ذلك الشعور وتوقيت تفجّره.
التباعد الجغرافي
لم تكن الفوارق الإقتصادية بين مناطق المملكة ناشئة بشكل طبيعي،
كأن تكون نتيجة تركيز النشاط الإقتصادي والسياسي في المركز، أو
بسبب صعوبة التفاعل مع مناطق بعيدة عن ذلك المركز؛ فاختلال توزيع
الثروة والسلطة، وعدم توازن التنمية الإقتصادية والإجتماعية بين
المناطق، جاء متساوقاً مع (أو نتيجة لـ) الإختلال السياسي بين
المركز المسيطر عليه بعناصر نجدية، وبين تلك المناطق التي لا
تشارك في العملية السياسية الا بشكل محدود للغاية، وفي بعض
الأحيان لا توجد أي مشاركة. هذا الإختلال تعمّد في الناحية
الإقتصادية وتأكد بقرارات الدولة التي راعت مصالح المسيطر
سياسياً وعسكرياً ودينياً، ونعني به المركز النجدي. الأمر الذي
أدّى الى ما هو متوقّع: أن تحوز المنطقة المسيطرة سياسياً على
معظم الكعكة الإقتصادية والخدمية، وأن تحرم المناطق الأخرى حتى
من الحدود الدنيا لما يعتقد أنه حقها، حتى تلك المناطق المنتجة
لثروة البلاد الرئيسية (النفط).
المسألة التي تتمتع بأهمية كبيرة هنا، هو أن هناك عاملاً آخر
يعزز الفوارق بين مناطق المملكة، ويساهم في تأجيج العزلة
المناطقية المفضية الى ترسيخ الشعور الإنفصالي. إن العزلة
الجغرافية التي تعيشها مناطق المملكة توفر مناخاً صعباً للتواصل
الإجتماعي، والتخفيف من النمطية التي تحملها كل منطقة عن الأخرى،
وتجعل من قدرة السلطة في السيطرة على أطراف الدولة البعيدة
محفوفاً بالمصاعب، كما بدا واضحاً في المنطقتين الجنوبية
والشمالية.
لهذا السبب رأينا الكثير من الحركات الإنفصالية تنشأ وتنمو في
المناطق البعيدة عن مركز السلطة، أي في المناطق الطرفية، حيث
تضعف سلطة الدولة، وتغيب فاعلية أجهزتها. وبإمكان المرء استحضار
الكثير من الأمثلة. لكن ما يهمنا هنا، هو ان ابتعاد المناطق عن
المركز بمئات الأميال، ووجود حدود جغرافية معلومة لتلك المناطق،
يوفّر بعضاً من المناخ النفسي للإبتعاد العملي عن مركز صناعة
القرار والإنفراد بالذات (ديموغرافياً) وتكريس حالة الخصوصية
والهوية الفرعية. وبالرغم من أن التباعد الجغرافي يحسب في كثير
من الأحيان أحد العوامل الثانوية في العملية الإنفصالية، لكنه في
المملكة يعدّ مؤطراً غاية في الأهمية للعوامل السياسية
والثقافية، الى حد يمكن اعتباره العنصر الأكثر بلورة لشخصية
المنطقة التي تسعى الى الإنفصال.
أمران مهمّان آخران لهما علاقة بالوضع الديمغرافي للمناطق
المرشحة للإنفصال، يلعبان دورين متناقضين. أحدهما حين تشعر
الجماعة المعنية بأنها مهددة في هويتها عبر سياسات تستهدف
إفقادها خصائصها. والثاني حين تشعر الجماعة بأن مناطقها مهددة
بسياسات الحكومة لتغيير ديمغرافيتها. كلا الأمرين ينطبقان على
المنطقة الشرقية السعودية والحجاز. فقد سعت الحكومة السعودية
لتغيير ديمغرافية المنطقتين عبر الهجرة المنهجية، وليس لأسباب
إقتصادية محضة، الأمر الذي أشعر الحجازيين والشيعة بأنهم قد
يصبحون أقليات في مناطقهم. جاء ذلك مترافقاً مع هجرة نجدية الى
الشرق والغرب، وهو مجرد انتشار له اسباب سياسية واقتصادية، في
حين تعتبر هجرة اهل الجنوب اقتصادية محضة. ولكن هذه السياسة لم
تغير من حقيقة ان حجم المناطق السكاني لا يغير من واقع تقسيم
الدولة. أي أن حجم كل منطقة بقي على حاله وإن تغير الإنتشار.
والملاحظ هنا، أن منطقتين جمدتا في مواقعهما السكانية (الحجاز
والشرقية) في حين هناك منطقتان تحركتا لدوافع اقتصادية أو سياسية
أو كليهما (نجد والجنوب).
الشعور بالتهديد الثقافي للهوية أو التهديد الديمغرافي، ينظر
اليه رسمياً على أنه دمج مفتعل وإجباري في مجمله، وهو دمج من طرف
واحد، أي فئة مهاجرة وفئة حاضنة، يستهدف منه رسمياً إضعاف الخصم
(المناطق المرشحة للإنفصال) ولكنه قد يكون محفّزاً له في الوقت
نفسه كرد فعل على سياسات الدولة. ولا يمكن التخفيف من هذه الحالة
إلا بتشجيع الهجرة المتكافئة، وما لم يتحول المركز الى حاضن لكل
تشكلات المجتمع، وهذا لا يأتي إلا عبر الدمج الحقيقي السياسي (أي
تمثيل المناطق في المركز) مقابل وجود (المركز في المناطق)؛ وكذلك
عبر الإغراءات الإقتصادية التي تشجع تكسير حالة (الإقليمية) بحيث
تخرج النخب الحجازية والشيعية من مناطقها الى أفق أوسع على مستوى
الدولة.
|