العدد  18 يوليو 2004

 

العامل النفطي.. من التمكين الى الأزمة

 ناجي حسن عبد الرزاق

 الجزء الشرقي من العربية السعودية يحتوي على أكبر مخزون نفطي في العالم تقريباً. ولهذا تتطلع إليها أنظار العالم لا سيما الدول الكبرى، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى فرض هيمنة جديدة على منابع النفط. وإضافة إلى كون هذا الجزء المسمى إدارياً المنطقة الشرقية والذي يحتل أهمية اقتصادية من حيث المخزون النفطي والغاز، يتواجد فيه مواطنون غالبيتهم من المسلمين الشيعة. وهؤلاء لا يتقلدون مناصب حكومية فضلاً عن أنهم مبعدين عن المواقع المهمة في شركة أرامكو النفطية.. بل اعتبرتهم الحكومة السعودية خلال العقدين السابقين مهددين حقيقيين لأمن المنشآت الاقتصادية لاسيما المنشآت النفطية، متغافلة عن الخطر الحقيقي الكامن في القوى السلفية ـ حينذاك ـ التي برزت اليوم كقوة عنف مسلحة تهدد عملياً أمن المنشآت الاقتصادية، بل تهدد العرش الملكي السعودي نفسه.

 العنف والنفط

 لاشك أن العنف المسلح الذي تعاني منه السعودية اليوم ليس ظاهرة نشأت صدفة أو بلا مقدمات. هذه الظاهرة وليدة أطر أيديولوجية تدعمها قوة مالية هائلة أنفقتها الحكومة السعودية خلال الثلاثين سنة الماضية. فكانت الوهابية هي الأيديولوجيا التي وظفت الإسلام كملهم وكمبرر في الوقت نفسه لأولئك المتمذهبين لنشر هذه الأيديولوجيا بين الأطفال والشباب والرجال والنساء على مساحة واسعة داخل البلاد وبلا قيود ولا محاسبة.

الأيديولوجيا الوهابية نسق فكري نشأ منذ محمد بن عبد الوهاب ومستمر حتى الآن. ففكر محمد بن عبد الوهاب لا يختلف في الجوهر عن فكر أسامة بن لادن ولا عن فكر عبد العزيز المقرن ولا عن غيرهما من الذين يتبنون العنف اليوم كوسيلة للتغيير في شبه الجزيرة العربية. فما كانت تؤمن به الوهابية في بدايات القرن الماضي حينما فرضت رؤيتها على بقية المناطق في شبه الجزيرة هو ذاته الذي تؤمن به جماعات العنف السعودي اليوم والتي تريد فرضه بقوة السلاح.

أما دور النفط في دعم الأيديولوجيا الوهابية فجاء بعد اكتشافه بشبه الجزيرة العربية.. ما يعني أن جزءا من عوائد النفط قد ذهب الى النشاط الديني الوهابي وبإشراف الحكومة السعودية. لقد زرع هذا الدعم وتلك الرعاية الحكومية جذور العنف من خلال استعمال مال النفط في تثبيت وإضافة مفاهيم وتصورات متطرفة للدين المتوهب المعادي للآخر أيّا كان هذا الآخر المختلف. فقد أنفقت الحكومة السعودية مليارات الريالات على النشاط الديني من خلال المؤسسات ذات اللون الأيديولوجي الوهابي، كمؤسسات الإغاثة الإسلامية والنشاط الدعوي والترويج المذهبي الوهابي عبر طباعة الكتب والمجلات والأشرطة المسموعة والمرئية إلخ. هذا فضلاً عن تقديم الرواتب والمكافآت المغرية للمشتغلين في هذه المؤسسات والنشاطات من

الموظفين والمتطوعين.

كان النفط في هذه الحالة الشريان الحقيقي لتوسع فكر التطرف والعنف أفقياً ورأسياً داخل المجتمع بشبه الجزيرة العربية. إلا أن الحكومة السعودية اليوم تتنصل من مسئوليتها التاريخية عن نشأة التطرف والعنف الحاصل في السعودية وتتهم جماعات هي من مهدت لها الأرضية الدينية المتطرفة عبر التعليم والمساجد والمعسكرات الكشفية وغيرها من مظاهر التشجيع الحكومي الرسمي.

لقد شكلت عوائد النفط ثروات فائضة لدى عدد غير قليل من الوهابيين نتيجة المناخ المتسامح الذي منحته الحكومة السعودية لهم خلال العقود الثلاثة الماضية. وعلى هذا الأساس وجد بعض هؤلاء الفرصة لتنمية أمواله عبر الاستثمار المحلي والخارجي بدون قيود أو رقابة. فالثروة التي وصلت ليد أسامة بن لادن لم تكن بدايةً مستقلة تماماً عن عوائد النفط. وفي هذا الشأن لا يجب أن ننسى الأموال الضخمة التي كانت المخابرات السعودية تقدمها للجماعات الدينية السعودية المحاربة في أفغانستان أبان الوجود السوفيتي في ذلك البلد. إلا أن هجمات 11 سبتمبر غيرت إتجاه البوصلة الأمريكية وبالتالي البوصلة السعودية عن الجماعات الدينية الوهابية لاسيما المتشددة منها. بل أن هذه الهجمات سارعت من وتيرة الحراك السياسي والاجتماعي داخل السعودية الأمر الذي جعل المناخ العام فيها أكثر ملاءمة لظهور تحركات معارضة ضد نظام الحكم السعودي سواء السلمية منها (جماعات الاصلاح السياسي) وجماعات العنف المسلح (منظمة القاعدة). وبعد توقف الحركة المطالبية السياسية الاصلاحية نتيجة القمع الرسمي للحركة الاصلاحية، وجدت الحركة العنفية ضالتها لبدء حملة مسلحة لا هوادة فيها مع نظام الحكم الذي يفتقر لآليات ردع تعتمد على القوى الشعبية في الأساس وليس بالإعتماد على الأجهزة الأمنية والعسكرية فقط. يرجع هذا الفقر في آليات الردع إلى الواقع الدكتاتوري لنظام الحكم السعودي، وإلى الاستئثار بالثروة وغياب برامج إصلاحية على المستوى الاقتصادي والسياسي.

في ظل استمرار الدكتاتورية السعودية تجد دعوات جماعات العنف السعودي آذانا صاغية لدى الشباب المتمرد على نظام الحكم وخاصة أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشر والعشرين. هذه الجماعات تَعد هؤلاء الشباب بحياة أفضل في الدنيا عبر توفير المال، والآخرة عبر الشهادة. ومن المرجح أن هناك الآن أعدادا كبيرة من الشباب قد التحقوا بمعسكرات تدريبية في أماكن مختلفة في السعودية تشرف عليها منظمة القاعدة. هذا الاستقطاب سيطيل أمد الموجهات المسلحة بين هذه الجماعات وأجهزة الأمن السعودي. فهذه الجماعات تتحرك وفق أجندة ذكية وبعيدة المدى بدأت باغتيالات فردية لموظفين غربيين في بنوك وغيرها ثم أُضيفت تفجيرات مباني ومجمعات سكنية، وبعدها جرت عدّة اغتيالات لمسؤولين أمنيين وعمال وموظفين غربيين يعملون في مواقع نفطية، وآخرها ما حدث بمدينتي ينبع والخبر.

 لماذا النفط؟

 في بداية شهر مايو 2004 كانت عملية ينبع، وفي نهاية نفس الشهر كانت عملية الخبر. وكلا العمليتين لهما علاقة بمنشآت اقتصادية نفطية. بل أن إحدى هاتين العمليتين في أقصى غرب العربية السعودية والأخرى في أقصى شرقها. ولهذا دلالة مهمة متعلقة بمدى انتشار هذه الجماعات داخل المملكة وقدرتها على التحرك لضرب أهدافها الاقتصادية النفطية في جميع أنحاء البلاد وفي وقت قياسي.

من الواضح أن جماعات العنف السعودي بدأت تتبنى تكتيكاً خطراً يعمل على دفع العمالة الأجنبية العاملة في مجال النفط إلى الخروج من البلاد ومن ثم تعطيل أهم مصدر اقتصادي داعم لقوة نظام الحكم السعودي بعد أن فقد جزءا كبيرا من شرعيته الدينية وبعد تراجع دور المؤسسة الدينية الرسمية المؤثر على الشعب. بالطبع كانت للدعوات الأمريكية لرعاياها بمغادرة السعودية أثر سىء على سمعة السعودية التي عُرفت باستقرارها الأمني في السابق. بل تزايدت مخاوف العمال الأجانب العاملين في السعودية بعد هجمات ينبع والخبر. فمثلاً قال متحدث باسم شركة أيه بي بي لوماس (وهي شركة هندسية غربية بينبع) إنه ليس مستغربا ان جميع موظيفي الشركة عبروا عن رغبتهم في الرحيل الى ديارهم (نقلاً عن B B C). بل لا تكتفي جماعات العنف السعودي باستهداف مواقع الشركات الغربية فقط، بل تُقدم كلما كان ممكنا، على سحل أحد الموظفين وخاصة الأمريكيين على الأرض ليراه الجميع وليكن عبرة لزملائه لدفعهم لمغادرة السعودية بأسرع وقت ممكن. وفي ذات الشأن، وحتى ساعة إعداد هذا المقالة، تتكتم الأجهزة الأمنية على بعض الوجود العسكري لبعض جماعات العنف في مدينة الجبيل. فقد جرى نقل جنود الحراسات العادية من مواقعهم إلى مواقع التجمعات الغربية. ويصرح أحد الجنود المنقولين بأنه يكاد يموت من الرعب. يقول: (لقد أعطوني هذا الرشاش ولكني لا أعرف كيف استعمله. أنا متعود على حمل مسدس). ويضيف: (انا أشاهد سيارة بها عدد من المسلحين يجوبون شوارع بالجبيل ولا نستطيع أن نهاجمهم أو نردعهم). ربما هذه الحادثة تنم عن وجود كثيف لهذه الجماعات في الجبيل. وربما تكون الضربة القادمة في الجبيل نظراً لأهميتها الاقتصادية ووجود العمال الأجانب الكثيف فيها. 

من المتوقع أن تتكثف هجمات جماعات العنف السعودية على المواقع الاقتصادية في المستقبل المنظور والقريب، بهدف تسريع عملية إسقاط النظام السعودي. مي يماني تعتقد أن عمر النظام لن يطول أكثر من ثلاث سنوات. وبصرف النظر عن المدة التي قد يبقى فيها نظام الحكم السعودي، فإن ما يجب القيام به هو التحرك نحو الاصلاح وسد الثغرات الشعبية التي تستغلها هذه الجماعات. إن الحكم السعودي لن يتمكن من إحكام قبضته لو استمرت وتيرة هجمات هذه الجماعات على المواقع الاقتصادية. بل سيواجه ضغوطاً هائلة من جميع أنحاء العالم بسبب تعرض مصالح الدول للخطر وبسبب ارتفاع سعر برميل النفط. فمن المعلوم بأن سعر البريل قد ارتفع ليصل الى نحو 42 دولاراً بعد هجمات الخبر. واضطرت الحكومة السعودية بعدها إلى طمأنة العالم وإقناعه بأن مثل هذه الهجمات لن تؤثر على إمدادات النفط للأسواق العالمية. هذه الطمأنة هو للاستهلاك وللتأثير المؤقت في السوق النفطية. ليس من المتوقع أن تتمكن السعودية من ضبط إيقاعات أسعار سوق النفط إذا هي لم تتمكن من إيقاف هجمات هذه الجماعات وهو ما لا يبدو ممكناً الآن على الأقل في ظل استمرار نظام الحكم السعودي في تجاهل المطالب الاصلاحية السياسية الداخلية.